حكاية مسطرة ..


 

لا تستغربوا فحتى المساطر لها حكايات، ولسنا نحن البشر فقط من نستأثر بالقصص والحكايا، هي في نهاية العقد الرابع من العمر وربما تكون أكبر من ذلك قليلاً ... بدأت رحلتها في هذه الحياة أواسط عقد السبعينات من القرن الماضي، عندما اشتريتها من مكتبة عزيزية شارع الأمير محمد في وسط البلد، ضمن مواد ومستلزمات طلبها منا المهندس طالب الرفاعي "الدكتور والوزير لاحقاً" أستاذ مادة الرسم الهندسي عندما بدأنا الفصل الثاني من السنة الأولى في كلية الهندسة والتكنولوجيا في الجامعة الأردنية كان ذلك في الأشهر الأولى من عام 1977 .


هي ليست مسطرة عادية بطول عشرين أو ثلاثين سنتيمتر، وإنما مسطرة للرسم الهندسي يبلغ طولها متراً وخمسة وعشرين سنتيمتر يطلق عليها اسم “مسطرة حرف تي T - Square " لأنها على هيئة حرف تي باللغة الإنجليزية، مصنوعة من البلاستيك الشفاف المقوى، مثبتة عليها في أحد طرفيها وبزاوية عمودية تماماً قطعة أخرى من البلاستيك سكنية اللون بطول حوالي 30 سنة، وقد كنت حريصاً في ذلك الوقت برغم ضيق الحال أن أختار المسطرة الأفضل والأجود والأغلى أيضاً ...
تتمثل وظيفة هذه المسطرة "العجيبة" في تمكين الطلبة والرسامين المعماريين من رسم خطوط أفقية متوازية تماماً، وهي بذلك الأداة الأهم في مجال الرسم الهندسي ...

كانت محببة إلى نفسي، على الرغم من صعوبة حملها والتنقل بها خاصة في سيارات التكسي، ليس فقط لأهميتها وجودتها العالية وإنما لأنها كانت تعلن لمن يراني أحملها في الجامعة أو خارجها بأنني أحد طلبة كلية الهندسة "المحظوظين" في الجامعة الأردنية يوم كانت دراسة الهندسة حلماً لا يطاله إلا القلة من الطلبة المتفوقين .... ويوم كانت الهندسة تدر "سمناً وعسلاً" على ممتهنيها ....

لقد رافقتني مسطرتي العزيزة الغالية طيلة دراستي الجامعية التي امتدت لسنوات خمس ... أحملها معي من البيت الذي كنا نسكن قرب السيل في وادي السير إلى الجامعة وترافقني في طريق العودة كذلك ....
وعندما غادرنا وادي السير إلى بيتنا الجديد في حي نزال حرصت أن أنقلها بكل عناية حتى لا يمسها أي ضرر أو سوء أثناء عملية الرحيل ....
تخرجت من الجامعة ... يومها تنفسَت المسطرة الصعداء فقد حان وقت التقاعد وانتهاء الخدمة ... ومن باب الوفاء لمن رافقتني سنوات خمس بكاملها فقد بحثت لها عن موقع إقامة دائمة لائق يحفظ لها الكرامة والهيبة التي تستحقها ... ونظراً لطولها الفارع وقامتها الممشوقة فلم أجد لها خيراً من سطح خزانة الملابس مكاناً آمناً مستقلاً بعيداً عن أيدي العابثين ....

بقيت المسطرة ثابتة في مكانها باسطة ذراعيها بالوصيد لا تتحرك إلا إذا انتقلنا إلى منزل جديد أو استبدلنا خزانة الملابس ....
كانت فترة بيات شتوي للمسطرة استمرت قرابة ثلاثين سنة كاملة ... حتى جاء يوم تم استدعاؤها مجدداً للخدمة الإلزامية مع دخول إبني باسل كلية الهندسة المعمارية في الجامعة الهاشمية في العام 2011 لتمضي معه سنوات خمس أخرى انتهت بتخرجه من الجامعة مهندساً معمارياً في العام 2015 ..... لتعود مجدداً إلى مكانها الأثير وتغيب عن الأنظار فوق خزانة الملابس مجدداً ... في فترة تقاعد ثانية ظنت هي وظننا نحن أيضاً أنها ستكون مسك الختام في حياتها العملية ....

إلا أن الأقدار كانت لها بالمرصاد فلم تمضي سوى ثماني سنوات فقط على تقاعدها الثاني حتى تم استدعاؤها للخدمة مجدداً وهذه المرة كانت من قبل معمارية المستقبل آخر العنقود "مرح" التي التحقت في تشرين الأول الماضي بذات الكلية التي تخرج منها باسل .... لتبدأ رحلة جديدة لن تنتهي قبل خمس سنوات أخرى ...
مسطرة "مكافحة" أُبتليت بأسرة "قاسية" لا ترحم .... سخرها الأب لخدمته وتبعه في ذلك الأبناء ... ومن يدري فقد يتناوب عليها الأحفاد والحفيدات كذلك إلا إذا تغيرت الظروف والمعطيات وأدى الذكاء الإصطناعي إلى الإستغناء إلى غير رجعة عن الهندسة والمهندسين .... ولكنها ستبقى في جميع الأحوال - أي المسطرة - أثيرة ومحببة لدينا لأنها تشدنا وتذكرنا بأيام خلت نراها الآن في غاية الروعة الجمال ...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات