الروبوت الحائز جائزة نوبل في الأدب


جراسا -

تزايد الحديث عن الذكاء الاصطناعي وتأثيره المتوقع في المجالات الإبداعية، بعد الطفرة التي حققها تطبيق "شات جي بي تي" في نهايات عام 2022، وشهد الحديث زخماً أكبر مع دخول عمالقة في مجال تكنولوجيا المعلومات مثل "غوغل" و"مايكروسوفت" في مضمار سباق الذكاء الاصطناعي، ما ينبئ بأن وتيرة التطوير والتطور سوف تتسارع بقدر كبير جداً خلال السنوات القليلة المقبلة.

السؤال الذي بات مطروحاً وملحاً الآن، هو: هل يمكن أن يحل الذكاء الاصطناعي مكان الإنسان في المجالات الفكرية والإبداعية؟ وبزغ هذا السؤال بعدما حُسم آخر سابق عليه، وهو: هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن ينتج نصاً إبداعياً؟

كانت الإجابة القاطعة عن السؤال السابق هي نعم. بالتجربة ثبت أنه يستطيع. لقد جرب نقاد، وكتاب، ومتخصصون، ومستخدمون هذا بأنفسهم بواسطة تطبيقات متاحة للجمهور مثل "شات جي بي تي"، و"بارد" ونسخته الأحدث "جيميني"، و"بينغ شات"، وقد أنتجت تلك التطبيقات نصوصاً أدبية تنطبق عليها المعايير الأساسية، وإن كان ثمة خلاف بشأن مدى قدرة تلك النصوص على منافسة الإبداع البشري.

في وكالة "رويترز" على سبيل المثال، بات المحررون يستخدمون برنامجاً خاصاً للترجمة، وحين سألت أحد الزملاء العاملين في الوكالة: هل تقومون بنشر النص المترجم مباشرة أم تتم مراجعته أولاً؟ فأكد أنه يخضع لمراجعة محررين ذوي خبرة.

كان واضحاً من كلامه أن الثقة في الذكاء الصناعي لا تزال محدودة، ولا يمكن لوكالة بحجم "رويترز" أن تغامر بسمعتها وتنشر ما يقدمه "روبوت" دون مراجعة وتدقيق من عناصر بشرية تمتلك الخبرة.

سألت الزميل كذلك عن انطباعاته الشخصية: كيف تجد النص المترجم بواسطة البرنامج؟ هل هو في مستوى المحرر المبتدئ مثلاً؟ فقال دون تردد: لا. إنه في مستوى مترجم متوسط، له خبرة عامين أو ثلاثة.

إذاً نحن أمام برامج تستطيع، وهي لا تزال مجرد خوارزميات عمياء معزولة في خوادم الويب ويتم تغذيتها ببيانات يحددها البشر، أن تقدم محتوى يحظى بالمعايير الأساسية للكتابة، وربما بقدر من الإبداع تختلف الآراء بشأنه.

المثير للإعجاب والقلق معاً، أن ثمة دراسة تنبأت قبل سنوات بأن الذكاء الاصطناعي سوف يتفوق على البشر في مجالات مثل الترجمة، وحددت عام 2024 لحدوث ذلك، وتوقعت أنه سينتج الكتب الأكثر مبيعاً بحلول عام 2049. نشرت الدراسة عام 2018 في 21 صفحة، أعدها باحثون في جامعتي "أوكسفورد"، و"يال"، تحت عنوان "متى سيتفوق الذكاء الاصطناعي على الأداء البشري؟ أدلة من خبراء الذكاء الاصطناعي".

ربما تحققت بعض نبوءات هؤلاء الباحثين وغيرهم، إلى حد ما، في مجالات مثل المقال، والقصة القصيرة، والشعر، لكن يبدو الأمر صعباً جداً بالنسبة للرواية، ففيها ينسج الكاتب شخصيات روايته وأحداثها المتشابكة من مخزون تجاربه الحياتية.

نجد مثلا أديباً مثل نجيب محفوظ يتحدث عن الفتوات في "الحرافيش"، و"أولاد حارتنا"، وينقل نبض الحارة المصرية كأنك تراها. اعتمد الأديب المصري العالمي على مشاهداته الشخصية في حي الجمالية بالقاهرة، وهو الحي الذي ولد فيه وأمضى هناك أولى سنوات طفولته، وكذلك حي الحسين الذي واظب على زيارته حتى بعد انتقاله مع أسرته إلى حي العباسية. شاهد محفوظ "زفة الفتوات"، تنسم رائحة أشجار الحناء والياسمين، لمس نبض أبناء الحارة، لذا كتب عنهم بصدق يصل مباشرة إلى عقل القارئ وقلبه.

وحين نقرأ "حياة ألكسيس زوربا ومغامراته" التي كتبها نيقوس كازانتزاكيس، نجد ترجمة أدبية متوهجة لتجربته مع ذلك العامل المسن الفقير الذي تأثر به كازانتزاكيس أيما تأثر.

فعلى رغم أن "زوربا" كان عاملاً فقيراً، إلا أن المؤلف بمشاعره البشرية الخالصة، وضعه جنباً إلى جنب مع أعظم شخصيتين أثرتا في حياته، وهما الشاعر الإغريقي الأسطوري هوميروس، والفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه.

كيف للخوارزميات أن ترى عاملاً مسناً بسيطاً في هذه المكانة؟ كيف لها أن تتذوق جنونه وتلمس روحه الوثابة؟ كيف يمكنها أن تستمتع برواح الياسمين والتمر حناء؟

هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحكي روايات مستوحاة من تجاربه أو من مشاهداته "الشخصية" كما يفعل الأدباء البشر؟

ربما الآن لا. لكن يحمل المستقبل القريب الإجابة، وهي الأرجح نعم. سيحدث ذلك حين يسمح للذكاء الاصطناعي بأن يغذي "عقله" بنفسه، عبر ما يراه بعيونه (كاميرات)، ويستشعره بحواسه (مستشعرات لدرجات الحرارة، والروائح، واللمس... الخ).

لو حدث هذا - وهو ليس مستبعداً - ربما نجد "روبوت" ينافس على جائزة نوبل للأدب، ثم يحصدها، لأنه قدم أعمالاً أسدت خدمة كبيرة للبشرية.

هل هذا يعني أن إجابة السؤال الذي طرحناه في بداية المقال، هي: "نعم سيحل الذكاء الاصطناعي مكان الإنسان"؟ الإجابة لا.

تخبرنا التجارب التي عايشناها بعد الثورة الصناعية، والتطور الكبير الذي شهدناه في العقدين الماضيين، أن اللمسة الإنسانية لا تزال تاجاً يوضع على رأس المنتجات، وتجعلها تتفوق على نظيرتها التي تنتجها الآلات.

فمثلاً، شركة "آبل" تنتج ساعات رقمية مدهشة وفائقة التطور، ومع هذا تباع تلك الساعات التي تنتجها الآلات ببضعة مئات من الدولارات. في حين أن النسخة الأغلى ثمناً منها، وهي "بريك لوكس"، يبلغ سعرها أكثر من 100 ألف دولار، وما يميزها هو أن العنصر البشري المبدع يضع لمساته عليها في مرحلة "التشطيب".

أما الساعات الأغلى على الإطلاق، وهي من ماركة "باتيك فيليب"، فتتفاخر شركتها بفنانيها المهرة الذين تعتبرهم تاجاً على رأس صناعتها، وهم من يقومون بتزيين ساعاتها بأياديهم المبدعة بالجواهر والذهب.

لذا فإن الساعة الواحدة التي ينتجها الإبداع البشري من هذه الماركة، تساوي آلاف الساعات التي تنتجها آلات "آبل"، وقد بيعت إحدى ساعات "باتيك فيليب" في مزاد بأكثر من 31 مليون دولار عام 2019.

ينطبق هذا على العديد من المنتجات، ستجد أن النسخ "الهاند ميد" أو المصنوعة يدوياً هي الأعلى قيمة، والأغلى ثمناً، والأكثر إبهاراً.

فإذا كان هذا هو حال المنتجات المادية، حين تمسها نفحة من الإبداع البشري، فما بالنا بالأدب الذي يتشكل في مجمله من الإبداع الإنساني، فيمسّ الروح ويهزّ الوجدان؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات