الشرق الأوسط الجديد


جراسا -

بعد 12 عاماً من العداء والقطيعة، حل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ضيفاً على نظيره المصري عبد الفتاح السيسي بالقاهرة، إيذاناً بتطبيع العلاقات بين البلدين والرئيسين، في تحول بمسار السياسة التركية تجاه القوى الإقليمية، ولا سيما مصر والسعودية والإمارات، كانت تعد في خانة "الخصوم"، وصارت توصف الآن بأنها "دول شقيقة". فماذا وراء التحولات التركية؟ وهل عادت أنقرة إلى استراتيجية "صفر مشكلات" أم أن الأمر مجرد "مناورة"، سرعان ما يعود بعدها السلطان إلى المربع الأول؟!

الذعر الإخواني
وسط حالة الذعر التي انتابت جماعات الإسلام السياسي - ولا سيما "الإخوان المسلمون" - اكتملت حلقات المصالحة بين مصر وتركيا، بدخول أردوغان قصر الاتحادية بالقاهرة متأبطاً ذراع السيسي، في "يوم عيد الحب" - بحسب موقع تركي - يرافقه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، والمالية محمد شيمشك، والدفاع يشار غولر، والصحة فخر الدين كوكا، والصناعة والتكنولوجيا محمد فاتح كاجر.

مرت العلاقات بين القاهرة وأنقرة بمنعطفات حادة، تزامنت مع تقلبات حقبة الربيع العربي، وصلت إلى درجة سحب السفراء. انهمك الجانبان في الحرب الباردة، تبدت مظاهرها في كثير من مسارح الإقليم. حطمت مصر قلب "السلطان العثماني" بلا شفقة، وهو يرى آماله تتهاوى كقصور الرمال على الشاطئ. منذ وصوله إلى سدة الحكم فى أنقرة عام 2002، ظل أردوغان يمنّي نفسه بزعامة العالم الإسلامي، واستعادة النفوذ العثماني القديم على بلاد العرب، بعدما أغلقت أوروبا أبوابها فى وجهه. شجعه النجاح الاقتصادي الكبير الذي حققه "حزب العدالة والتنمية"، لكن هذا لم يكن كافياً لحمل طموحات "الزعامة الأردوغانية" إلى أرض الواقع... فجأة تغيرت الأحوال. جاء الربيع العربي في 2011، صعدت جماعة "الإخوان" في مصر وتونس وليبيا واليمن. بدا المستحيل ممكناً، لبس الرجل "قلنسوة السلطنة"، بنى "القصر الأبيض"، شرب "كأس النشوة"، أطلق أحلام الهيمنة على المنطقة من عقالها، تحت ستار شراكة استراتيجية، مع مصر "تابعة" تحت حكم "الإخوان"، علاقة تكون فيها تركيا الشريك الآمر الناهي، لكن الشعب المصري كان له رأي آخر. أزاح حكم "الإخوان" الإرهابية، بعد 30 حزيران (يونيو) 2013، فطاشت آمال أردوغان هباءً منثوراً. صبّ النار على زيت الخلافات وأجج العداوات بشكل هستيري، خاصة أن مصر وتركيا اتخذتا مواقف متعارضة فى القضايا الشائكة، سوريا وليبيا وغزة وجماعات العنف والإرهاب، على رأسها "داعش".

العدو الأكبر!
ظل الموقف من "الإخوان المسلمين" أبرز علامات الشقاق بين الدولتين، إذ باتت تركيا - أردوغان "العدو الأكبر" لثورة 30 يونيو. وقفت بقسوة وعنجهية ضد إرادة المصريين، استضافت أقطاب الجماعة الهاربين، جعلت أراضيها منصة لمخططاتهم وفضائياتهم التي تحرض على نظام الحكم في القاهرة التي ضاقت ذرعا بتلك الممارسات؛ فطردت السفير التركي، ثم نسجت - دون ضجيج - تحالفاً اقتصادياً أمنياً، من تحت أنف أنقرة، ضم اليونان (العدو التقليدي لتركيا)، وقبرص، لاستغلال الثروات الطبيعية بالمنطقة، خاصة حقول الغاز شرق المتوسط، ووثقت الوشائج السياسية والعسكرية. انزعج الأتراك، ثم أتى التدخل الروسي في سوريا عبئاً ثقيلاً عليهم، تبدت مخاطره الجمة، بعد إسقاط المقاتلة الروسية واغتيال السفير وعرقلة بوتين مخططات أردوغان بسوريا، ودعمه طموحات الأكراد الانفصالية (كابوس الأتراك الأكبر)؛ مما يهدد بتمزيق الوحدة الترابية لتركيا نفسها.

عامل آخر تحول من عنصر قوة إلى "نقطة ضعف" فى جدار حكم "حزب العدالة والتنمية"، أي دعم جماعات الإسلام السياسي، بكل ما اقترفته تلك الجماعات من عنف دموي وإرهاب في سوريا والعراق مروراً بسيناء وليبيا وغيرها. فقد سعت تركيا لتعزيز حضورها الإقليمي خلال السنوات العشر الأخيرة؛ اعتماداً على العامل العسكري في سوريا وليبيا والعراق؛ ما تسبب في توتير علاقاتها مع الدول العربية الرئيسية، خاصة مصر. أسهم "تضارب الأهداف" في اتساع رقعة الخلافات والعداء بين الدولتين، خاصة في ظل رغبة أنقرة بالتوسع والهيمنة، في دوائر الأمن القومي العربي: القضية الفلسطينية، وليبيا والسودان والصومال وسد النهضة والسيطرة على أنابيب الغاز العابرة للحدود، إلخ. كل ذلك دفع القاهرة للدعوة إلى تشكيل "قوة عربية مشتركة"، دفاعاً عن المصالح العربية وضبط الأوضاع وكبح التدخلات الخارجية، من جانب قوى دولية أو إقليمية، مثل إيران وتركيا، حتى كادت مصر وتركيا تخوضان "حربا ساخنة" في ليبيا، بعدما تدخلت الأخيرة ونقلت قوات ومستشارين وأسلحة إلى ليبيا، ما دفع مصر لإعلان "الخط الأحمر" سرت - الجفرة، تخوض الحرب لو اخترقته القوات التركية من غرب ليبيا إلى شرقها.

هذا المشهد نفسه بكل ما انطوى عليه من خطورة شديدة وإمكان تفجير المنطقة برمتها، كان بداية لمساعي تبريد الجبهات وتغيير المعادلات، بين الطرفين، وبمرور الوقت تقاربت القاهرة وأنقرة، وجاءت زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري لتركيا عقب زلزال شباط (فبراير) عام 2023، ونظيره التركي للقاهرة، ثم عودة سفيري البلدين غلى موقعيهما وطُبّعت العلاقات في منتصف العام الماضي، وصولاً إلى قيام الرئيس التركي بزيارة القاهرة الأسبوع الماضي ولقائه نظيره المصري الذي سوف يزور أنقرة في نيسان (أبريل) المقبل، في ظل شبه اتفاق على تجنب كل طرف التدخل في الشؤون الداخلية للآخر، ما يشير إلى تبدلات مهمة فى توازنات الشرق الأوسط تجبر نظام أردوغان على إعادة ترتيب أوراقه، بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة وإدراكه أن التيار الإسلامي تراجع بشدة.

الشرق الأوسط الجديد
من المبكر بالطبع قراءة كل مدخلات ومخرجات ومفاعيل العلاقات المصرية - التركية والدوافع الأساسية وحسابات المكسب والخسارة وراء التقارب بينهما، فوراء الأكمة ما وراءها، إنها شجرة تخفي غابة.

إن الدولتين قوتان مركزيتان فى المنطقة، تحوزان قدرات استراتيجية هائلة وإرثاً حضارياً زاهياً، لكن الحرائق المشتعلة والمتغيرات العميقة وحالة الفوضى والسيولة بالشرق الأوسط دفعت البلدين إلى طي صفحة الخلافات، تكتيكياً أو استراتيجياً، مع إدارة المنافسة بينهما على أساس تقاسم المكاسب والفوائد للجميع، خصوصا في المجال الاقتصادي بين مصر وتركيا، حيث بلغ التبادل التجاري بينهما 6 مليارات دولار، وتعد تركيا من أكبر مستوردي الغاز الطبيعي المصري، ولها استثمارات صناعية كبيرة في مصر.

تتسم السياسة الخارجية لتركيا بطابع براغماتي واضح. تعيد أنقرة تموضعها في ظل ظروف إقليمية ودولية شديدة التعقيد والتباينات، ولذلك ترغب في إعادة بناء نظام إقليمي أمني تكون تركيا رأس الحربة فيه مع مصر والسعودية والإمارات. منظومة جديدة، تكبح جماح الصراعات في المنطقة، بعد عقد كامل من "اهتراء العلاقات الإقليمية"، بين أنقرة والعواصم العربية الرئيسية، إذ تخشى تركيا أن يتشكل الشرق الأوسط الجديد دون أن تكون فاعلة ومؤثرة فيه، على سبيل المثال فإن زيارة أردوغان للقاهرة ترفع الاعتراض المصري على الدور التركي في القضية الفلسطينية، حيث لا تزال القاهرة صاحبة الدور الأبرز في هذا الملف المشتعل.

كما تفتح الباب لنوع من التهدئة في ملف ترسيم الحدود البحرية واستثمار حقول الغاز شرق المتوسط، مع إمكانية قيام القاهرة بتقريب وجهات النظر بين اليونان وقبرص وتركيا بهذا الخصوص. أيضاً في الأزمة الليبية، حيث يمثل التقارب المصري - التركي رافعة لإنهاء الانقسام بين الشرق والغرب وقيام الانتخابات وبدء إعادة الإعمار في عموم ليبيا. كذلك تتوافق وجهات النظر بين القاهرة وأنقرة إزاء أزمات السودان والصومال والتمدد الإيراني في المنطقة، وإن تباينت في قضايا أخرى مثل سوريا والعراق وسد النهضة، لاختلاف أولويات كل منهما.

من المؤكد أن كلا الجانبين يسدد فاتورة فادحة للعداء مع الآخر، ومن ثم يبدو مبكراً الحكم على شكل "الوفاق الودي" بين مصر وتركيا وانعكاسه على قضايا الإقليم ومصالح بقية اللاعبين الكبار، لكن الحقيقة الساطعة تقول: إن الخلافات يمكن تجاوزها، لكن "صلف بعضهم" لا ترياق له سوى لغة الأقوياء ومواقفهم!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات