"ترامب الأرجنتين" يتحدّى عواصف الاقتصاد!


جراسا -

حذر خافيير ميلي في أول خطاب بعد توليه رئاسة الأرجنتين من "انهيار اقتصادي"، مؤكداً أنه لا خيار أمامه إلا التزام مسار مؤلم لإصلاح أسوأ أزمة اقتصادية تشهدها البلاد منذ عقود، فالتضخم يبلغ 200%، وقد يصل إلى 15 ألفاً % لو ترك وشأنه، وتعهد بمحاربته بقوة. وأضاف أن الحكومة السابقة "تركتنا في كارثة"، لافتاً إلى قنبلة ديون عاجلة بقيمة 100 مليار دولار، كما أن العملة الأرجنتينية "البيزو" تعاني تراجعاً حاداً، وتابع: "الوضع سيزداد سوءاً، لكن بعد ذلك سنرى ثمار جهودنا؛ للأسف ليس لدينا خيار"، وأضاف "إنها نهاية الليل الشعبوي، سنعيد الأرجنتين للوقوف على قدميها ونجعلها عظيمة مرة أخرى"!

مثير للجدل
ولد خافيير جيرادو ميلي عام 1970 في ضواحي بوينس آيرس لعائلة من الطبقة المتوسطة، وصف علاقته بها بأنها حافلة بالعنف الأبوي. تخرج في الاقتصاد بجامعة بلغرانو بالأرجنتين، وحصل على دراسات عليا في النظريات الاقتصادية، وعمل مستشاراً للحكومة الأرجنتينية في المركز الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار، وكبير الاقتصاديين في مؤسسة "أكور دار"، ومستشار مجموعة العشرين في تصميم السياسات، وهو أستاذ اقتصاد في الجامعة، ومن أبرز مؤلفاته: "السياسة الاقتصادية ضد الساعة"، "العودة إلى طريق الانحطاط الأرجنتيني"، "قراءات في الاقتصاد في عصر الكيرشنرية".

وميلي سياسي مثير للجدل، ينتمي للتيار اليميني المتطرّف، يصف نفسه بأنه "رأسمالي فوضوي"، دخل معترك السياسة عام 2019، ونال عضوية مجلس النواب عام 2021، ثم فاز برئاسة الأرجنتين في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بنسبة 55% من الأصوات، خلفاً لألبرتو فرنانديز، الذي فشل في وقف ارتفاع الأسعار، متغلباً على منافسه وزير الاقتصاد الوسطي سيرخيو ماسا، في مفاجأة من العيار الثقيل. وقد أسهم حضوره المكثّف على صفحات التواصل الاجتماعي، ومنشاره الكهربائي الذي لوح به في اجتماعاته الشعبية - في إشارة منه إلى الاقتطاعات التي ينادي بها من ميزانية الدولة - في تكوين صورة مغايرة عن السياسي الأرجنتيني، لدرجة أن البعض شبهه بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، مظهراً ومخبراً. نادى ميلي بالقطيعة مع "السياسات الحكومية التي تجوّع الشعب الأرجنتيني"، منبهاً إلى أن الدولة غنيمة يتم توزيعها منذ عقود على السياسيين وأصدقائهم، ومن أجل ولادة الأرجنتين المزدهرة ينبغي أن تولد الليبرالية من جديد، ولأن الأرجنتين تمر بواحدة من أسوأ لحظاتها الاقتصادية والاجتماعية منذ استعادتها الديموقراطية قبل أربعين عاماً، اجتذبت رسالة ميلى ضد "الطبقة السياسية" الكثير من الناخبين المحبطين.

فساد الجنرالات
والحقيقة أن الأرجنتين غنية للغاية بالثروات الطبيعية من زراعية وحيوانية ومعدنية وموقع استراتيجي بقارة أميركا اللاتينية. ظلت البلاد مغناطيساً للمهاجرين الذين توافدوا إليها من أوروبا، بحثاً عن أي عمل في "أرض الفرص في العالم". لكن البلاد بدأت تحولاً بسبب فساد الجنرالات، منذ الانقلاب العسكري الذي قاده خورخي فيديلا عام 1976 ضد إيزابيل بيرون رئيسة الأرجنتين، والذي أرسى نظام حكم استبدادي، مارس أبشع أساليب القهر والإرهاب. وكان الرجل مسؤولاً عن اختفاء 30 ألف معارض، بين عامي 1976 و1978. كما مرت البلاد بكثير من العواصف والأزمات الاقتصادية والسياسية، حتى صارت الأرجنتين في إحدى الفترات دولة منبوذة، تخشى تحليق طائراتها الرئاسية في الجو أو إرساء سفنها البحرية في عدد من المدن بالخارج، خشية أن يتم الاستيلاء عليها وفاءً لديون عجزت عن سدادها.

من أجل ذلك؛ قدم خافيير ميلي خطة تقوم على تغييرات جذرية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، تتبنى سياسة العلاج بالصدمة للاقتصاد الأرجنتيني، بلا تدرج أو أنصاف حلول، من خلال تقليص الإنفاق ووضع نهاية للعجز المالي بشدة، ونالت خطته استحسان المستثمرين الذين يرون أنها يمكن أن تؤدي إلى استقرار الاقتصاد المتعثر، لكنها تخاطر بدفع مزيد من السكان لمواجهة مصاعب مالية قاسية، إذ يعيش 40% من السكان في حالة فقر، ولا يتجاوز صافي احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية 10 مليارات دولار، وهي أكبر دولة مدينة لصندوق النقد الدولي. وذكرت "الإيكونوميست" أن الدين العام الأرجنتيني بلغ 90% من الناتج الإجمالي، وتتجاوز ديونها السيادية 400 مليار دولار، منها 110 مليارات دولار مستحقة لصندوق النقد الدولي وحاملي سندات اليورو المعاد هيكلتها والمملوكة للقطاع الخاص، بحسب وكالة "رويترز".

وأعلن الرئيس الأرجنتيني أنه سيصدر مرسوماً رئاسياً لتحرير الاقتصاد المتعثر، يشمل تعديل أو إلغاء أكثر من 300 من القيود واللوائح والضوابط المعمول بها حالياً، بما في ذلك تلك المتعلقة بالإيجارات وقوانين العمل، وأوضح ميلي أنه سيتم إلغاء القوانين التي تمنع خصخصة الشركات العامة، بالإضافة إلى تحديث قانون العمل لخلق فرص عمل حقيقية، وإلغاء سلسلة طويلة من القيود التنظيمية في قطاعات السياحة والإنترنت عبر الأقمار الصناعية والصيدلة والزراعة والتجارة الدولية، أما المفاجأة فكانت تأييد خافيير ميلي لتقنين "تجارة الأعضاء البشرية"، بل ذهب إلى حد المطالبة بدولرة الاقتصاد وإغلاق البنك المركزي الآرجنتيني الذي رأى أن سياساته النقدية سبب إفلاس البلاد، داعياً للتخلص من الطبقة الطفيلية وتقليم الدولة المعادية (الدولة العميقة والطبقة السياسية)، محذراً من أي حركة اجتماعية لمقاومة إصلاحاته. وقال ميلي، في خطاب تلفزيوني، إن الهدف هو بدء المسار نحو إعادة إعمار البلاد، وإعادة الحرية والاستقلالية للأفراد، والبدء في نزع سلاح الكم الهائل من اللوائح التي عرقلت وأعاقت ومنعت النمو الاقتصادي في الأرجنتين.

الدواء المر
لا يخفي الرئيس الأرجنتيني علمه بأن الدواء شديد المرارة، اختار كلاً من لويس كابوتو وزيراً للاقتصاد وسانتياغو بوسيلي رئيساً للبنك المركزي، وقد تشكلت لجنة مشتركة من مجلسي النواب والشيوخ لدراسة بيان الرئيس الأرجنتيني، وما إذا كان ينبغي قبوله أم رفضه، لكن العديد من الخبراء يتوقعون أن يتعارض البرنامج الانتخابي لميلي مع نظام الضوابط والتوازنات في الديموقراطية الأرجنتينية، لأنه يفتقر إلى الأغلبية في الكونغرس وسيتعين عليه التفاوض حتى مع المنافسين الذين شتمهم في الحملة الانتخابية.

يبدي خافيير ميلي نفوراً من علاقات بلاده المتنامية مع دول مجموعة "بريكس"، ولا سيما روسيا، وكذلك الصين والبرازيل الشريكين التجاريين اللذين انتقدهما خلال حملته الانتخابية، فيما يظهر انجرافاً لتوثيق العلاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل، على المستويات كافة. كان خافيير ميلي قد تخلى عن المسيحية واعتنق اليهودية. ومع العدوان الإسرائيلي على غزة، أعلن دعمه الصريح للدولة العبرية. بدأت قصة ميلي مع هذه الديانة بعد مقابلته الحاخام الأكبر للجالية اليهودية المغربية في الأرجنتين، في يونيو 2021 لقراءة التوراة، إذ أعلن آنذاك أن اليهودية أقرب دين إلى قلبه وعقله، كما زار رموز الطائفة اليهودية في أميركا، وعقب فوزه بالرئاسة صرح بأن الفوز لم يكن بفضل أصوات اليهود في الأرجنتين، ولكنه "بفضل الرب الذي بارك اقترابي من الدين اليهودي"، وقال إنه سيزور إسرائيل "لشكر الرب" ودعم "إخوته اليهود" في محنتهم هناك، في تحول عن الموقف الأرجنتيني التقليدي تجاه القضية الفلسطينية.

يحاول خافيير ميلي انتشال الأرجنتين من أزمتها الحادة، لكن بعض التوقعات المتشائمة تذهب إلى أن تجربة "ترامب الأرجنتين" ستفشل وتتسبب في هجرات جماعية وانخفاض عدد السكان. ستحول البلاد إلى صومال جديدة، منطقة نزاعات بين عصابات، وتنتهي إلى ديكتاتورية يسارية بدعم من الصين من خلال اندلاع ثورة.

إن الأرجنتين مثال حزين لانهيار هرم الديون وخطورة الديكتاتورية والفساد وغياب الديموقراطية الحقة والحكم الرشيد.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات