فتنة البحر الأحمر .. وغياب الحِكمة


جراسا -

بالفعل فتحت الحرب المُشتعلة في قطاع غزة منذ نحو تسعين يومًا بين إسرائيل وحركة "حماس"، ثغرةً لجبهات جديدة للقتال في منطقة الشرق الأوسط المُلتهبة بالأزمات والصراعات، والمفعمة بالأجندات والمُؤامرات، ومحاولة السيطرة وفرض النفوذ على دولها النامية، وهو ما حذَّر منه رجال السياسة وخبراء الأمن كثيرًا؛ من تمدُّد الصراع واتساع رقعته، بغية تحقيق مآرب وأهداف ظاهرها مُؤازرة الضعيف، وباطنها التهامه أيضًا.

لقد أتت الرياحُ على حركة التجارة المارة عبر البحر الأحمر بما لا تشتهي سُفنها، حيث تعرَّضت السفن العابرة مياهه لهجماتٍ غاشمةٍ من مُسلحين بالقُرب من مضيق باب المندب، رغم كونها سفنًا تجاريةً تحمل بضائع وسلعًا ومواد غذائية ومنتجات بترولية لا علاقة لها بحربٍ هنا أو هناك، وربما لا تحمل طلقةً واحدةً بغية مهاجمة الغير ما لم يكن مُعتديًا عليها، وحُجة هؤلاء أنهم يُناصرون إخوانهم في غزَّة والجميع يعرف مَنْ يدفع بهم ولهم.

لا توصيف يُناسب هذه الأفعال الإجرامية سوى أنها تُعادي الإنسانية، وتبغي على الشعوب التي تستفيد من حمولات هذه السفن مباشرةً أو غير مباشرة، كما أنه لا ذنب لطواقمها الآمنة بمداهمتهم وتهديد حياتهم من دون أن يتورّطوا في أيِّ أعمالٍ عدائيةٍ، وقد يكون من بينهم مَنْ لم تطأ أقدامه أرض المنطقة من قبل، ولكن حَملته المعايش على أن يكون ضيفًا موقتًا في البحر، يحسب الساعات والأيام حتى العودة من جديد إلى أحضان ذويه بسلامٍ.

في منطقتنا العربيَّة التي تعوم على فوهة بركان، تحمل الحروب أوزارها وكلنا يتألَّم، إلا أنه لا مُبرِّر يُمكن الارتكان إليه لقتل المدنيين تحت أيِّ مسمّى، فالإنسان له حق العيش والحياة الآمنة المُطمئنة، وألا يكون جزءًا من حسابات كبرى لا يعلم عنها شيئًا، وهناك عشرات الآلاف من الضحايا الذين لقوا حتفهم في أتونها، في رقاب قلة من البشر يُنفِّذون أجندات خارجيَّة، يتقاضون عليها أجورًا مصبوبة عليها دماء بريئة ستكون لعنةً على كلِّ مَنْ تسبَّب في إراقتها.

وبتطبيق القانون الثالث من قوانين نيوتن للحركة في الميكانيكا التقليديَّة؛ والذي ينص على أنه لكلِّ فعلٍ رد فعلٍ مُضاد، فإن استهداف السفن العابرة البحر الأحمر، لن يمر من دون أن يكون هناك ردُّ من ملاكها الذين لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام تعرُّض تجارتهم لهجومٍ بربريٍّ، فمعظمها ترفع أعلام دولٍ كبرى لها جيوش جرَّارة، وتمتلك أحدث الأسلحة التي تكفي لإبادة هذه الجماعات التي لا تحسب عاقبة أفعالها وما يُمكن أن تسبَّب فيه لنفسها والمدنيين من شعبها الذين أنهكتهم ويلات الحروب وصراعات المصالح، ويُريدون التقاط الأنفاس المتقطعة، والعيش في أمانٍ بعيدًا من ضجيج السلاح ولهيب النيران.

وبالنظر إلى جولة وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في المنطقة، إلى جانب اتصالاته التي لا تنقطع بعشرات الدول المُتضرِّرة من هذه الهجمات على بضائعها وتجارتها؛ نستشعر الحشد لإنشاء تحالفٍ لمواجهة هذه الجماعات المُسلَّحة في عقر دارها بكلِّ قوةٍ، وقد أسفرت جهود أوستن عن موافقة نحو 20 دولة راغبة في تأمين تجارتها وأموالها السابحة في مياه البحر من أوروبا والبحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الهندي وشرق أفريقيا والدول الآسيوية، والتي لن تسمح لمصالحها في أيِّ مكانٍ أو موقعٍ أن تكون تحت التهديد مهما حدث.

صحيح أن التحركات الأميركية رفقة حُلفائها في هذا الشأن لم تكن كما المأمول منها حتى الآن، لكنها آتية لا محالة، وقد شاهدنا عملية نوعية استهدفت ثلاثة زوارق دُمِّرت بمَنْ فيها، كانت في طريقها لاستهداف سفينة حاويات، وبعدها بأيام تمكَّنت قوات أميركية وبريطانية من إسقاط 18 طائرة مسيَّرة مُفخَّخة، و3 صواريخ أطلقها الحوثيون، وهذه بداية سوف تتبعها عمليات أخرى من القطع البحريَّة التابعة للأسطول الأميركي الخامس، الذي يتخذ من الشقيقة البحرين مقرًا له، ومن قواعد أميركا المُنتشرة في المنطقة، أو تلك التي تخص الدول المُتحالفة معها.

رأينا أيضًا أن المنطقة القريبة من مضيق باب المندب باتت تزدحم بالقواعد العسكريَّة؛ وذلك بعد تدشين أميركا قاعدة عسكريَّة لها في جيبوتي، عام 2002؛ لتأمين الملاحة في المضيق في مواجهة تنظيم "القاعدة" والقراصنة الذين كانوا ينتشرون هناك في ذلك الوقت، وفي عام 2008، سارعت إسبانيا واليابان وإيطاليا والصين إلى إنشاء قواعد بالمِثلِ؛ للوقوف في وجه القرصنة التي زادت عند نقطتي باب المندب وخليج عدن حمايةً لتجارتها، كما دشَّنت تركيا أكبر قاعدة عسكريَّة في العالم في الصومال، واتجهت الإمارات إلى إريتريا والصومال لإنشاء قاعدتين بهما، بينما اتفقت السعوديَّة على إنشاء قاعدة في جيبوتي، ولحقت إسرائيل بمَنْ سبق وجعلت لها موطئ قدمٍ في المنطقة من خلال بناء قواعد عدة في الجزر التابعة لإريتريا.

قطعًا كان الهدف الكامن في نفوس بعض هذه الدول السالفة الذكر؛ هو المسارعة لأخذ نصيبها من «كعكة» النفوذ في المنطقة، وتأمين تجارتها، بعدما أدركت جميعها أهمية المضيق خلال حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، عندما تم الاتفاق بين مصر واليمن على إغلاقه في وجه السفن المُتجهة إلى إسرائيل، وتضرَّر من القرار العديد من دول العالم، وحاليًا يعبر من باب المندب 21 ألف سفينة سنويًا وما يُعادل 12% من حجم التجارة العالميَّة، إلى جانب 6.2 ملايين برميل من النفط والمنتجات البترولية يوميًا؛ أي ما يُمثِّل نحو 10% تقريبًا من النفط المنقول بحرًا، وذلك طبقًا لإدارة معلومات الطاقة الأميركية التي كشفت عن هذه الأرقام عام 2018.

وفي خضم الحديث عن العمليات العسكريَّة المُرتقبة ضد الحوثيين، يجب أن نُشير إلى التحركات البريطانيَّة التي كانت أشد وطأةً في استراتيجية التعامل مع المسلحين، وربما تتبدَّل الأدوار مع واشنطن وتُصبح لندن صاحبة الدور الأكبر في هذه المهمة على غير العادة، فالأخيرة يقينًا لا تُريد التهاون مع هذه العمليات حتى لا تكون نواةً لتوسُّع المسلحين في هجماتهم على السفن المارة في البحر الأحمر، والأيام المُقبلة ستكون حُبلى بأحداثٍ لن تكون سارةً للمنطقة، في ظل سعي بعض الأطراف إلى جرِّ آخرين إلى مستنقع الحرب، لذا فجميعنا أحوج ما نكون إلى صوت الحِكمة والعقل والصبر وعدم الانسياق لدُعاة الفتنة.

وحتى لا ينسى البعض، فإن القضية الفلسطينيَّة تجري في عروق كل مواطنٍ عربيٍّ مُخلص، والدفاع عنها أمرٌ فطريٌّ بحُكم الأخوَّة والدماء، ولكن المُتاجرين بالقضية والمُنتفعين على أطلال غزَّة يُقامرون بأرواح المدنيين ليصلوا إلى أهدافهم ويُحقِّقوا مكاسبهم، وقد ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا وكلاء لقوى إقليميَّة تُريد بالمنطقة شرًا منذ زمنٍ، فاللعبة باتت مكشوفةً ولم تعد خافيةً على العوام، ولا تحتاج لمحللٍ عسكريٍّ أو خبيرٍ استراتيجيٍّ لقراءة الواقع، ولتعلم هذه الأطراف أن مساعيها معلوم للكافة، وحجم المكائد التي تُدبَّر لهم بليلٍ ضخمٌ وفوق الاستيعاب، كما أن الرغبة في محاولة إنهاء حرب شعب مكلوم ومعاناته ومأساته لا يُمكن أن تتحقَّق بفتح جبهات أخرى للحرب، ومن ثم تُصبح الحرب اثنتين وثلاثا، والضحايا بالآلاف.

وفي الختام أبعث برسالة صادقة أُخاطب بها كل ذي عقلٍ وبصيرة فحواها عدم العبث بالمضايق الدولية اتساقًا مع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي تُتيح حرية الملاحة للجميع في البحار والمحيطات الدولية، ما دامت لم تصل إلى المياه الإقليمية، فقد حبا الله المنطقة موقعًا جغرافيًا مميزًا، جعل فيه اثنين من أهم المضايق؛ وهما هرمز وباب المندب، والواجب على الدول المُشاطئة لهما أن تكون مصدر أمنٍ يحميها من المتربصين، وألا تستخدمهما ورقة ضغط في الحروب بما يضر بالتركيبة الجيوسياسية للمنطقة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات