الرقص والسّياسة


جراسا -

"أنا حرّ يا زوربا. كلا، لست حراً؛ كل ما في الأمر أن الحبل المربوط في عنقك أطول قليلاً من حبال الآخرين"... كان هذا ردّ "زوربا الهمجي الذي يعيش الحياة كما هي"، على "باسيل" المثقف، على نحو ما أوردته رواية "زوربا اليوناني" للكاتب نيكوس كازانتزاكيس. يبحر باسيل وزوربا في محيط الحياة، أحدهما ثري وعقلاني، مُرتّب ومنطقي، يسير مع التيار، والآخر مغامر عفوي رحّالة مقامر، شراعُه القلب لا يبالي بالعواقب، يضحك عند الوجع ويرقص عند الانكسار، باتت "رقصة زوربا" أيقونة وسيمفونية تُعزف على أوتار القلوب لمحاولة فهم حقيقة الحياة.

متوالية إيقاعية
الرقص سلوك إنساني، متواليات حركية، إيقاعية، منتظمة، غير لفظية، هادفة، يرتبط بقيم جمالية ومعانٍ إنسانية واعية، وحمولات رمزية عميقة، من حيث الزمان والمكان والجهد - خلافاً للأنشطة البدنية المعتادة، فالرقص نشاط عضوي ووجداني معقد، مؤطر ثقافياً، ومُنمط اجتماعياً. تشير المصادر التاريخية إلى أن الرقص وما يرتبط به من طقوس ومراسم اقترن بالوجود الإنساني منذ أقدم العصور، ومن خلاله وعن طريقه يتم التعبير عن الحالات النفسية والوجدانية كالفرح والحزن، والقلق والاستعداد للقتال والغزل وغيرها، وكان منها ما يؤدى خلال الاحتفالات الدينية من رقصات تعبيرية رمزية للتقرب بها من الآلهة أو للحصول على مباركتها.

بل إن البروفسور روبن دنبار، أستاذ علم النفس التطوري بجامعة أكسفورد، يذهب إلى أن الموسيقى والرقص قد ساعدا على بقاء المجموعات البشرية مع بعضها البعض. ما يوضح أن الحياة – كأمثولة - ليست إلا مرقصاً كبيراً، لكنها "كباريه" بالطبع؛ ولا خياراتها هينة؛ فالرقص لغة الجسد عند الكائنات، تفاعل غريزي مع الطبيعة، الوجود ماء يرقص على أنغام الجوامد، ترقص الأرض حول الشمس، تطارحها الغرام في رحلة الفصول الأربعة، والقمر في انسيابه بين شفائف السحب، مثلما الفراشة الزاهية، زهرة طائرة بقلب راقص، تمتنع إناث الطيور والحيوانات عن التزاوج إلا بعد أن يؤدي الذكر رقصات الغزل، الرقص بلاغة الحركة لدى البشر، طاقة مشاعر أرق من حنان الأم وأعنف من معارك المتآمرين، من الإشارات المثيرة إلى الإيماءات السامية.

حين تصفو البصائر، تمخر بحار الأحاسيس الكونية، بحثاً عن إجابات تثقل النفوس، يفعلها الدراويش والمولوية، فالإيمان بعقيدة معينة يمد الراقص بالطاقة والحماسة اللتين تدفعانه بسهولة للتفاني في الرقص؛ فنرى أجساد الراقصين متحررة من كل القيود النفسية والجسمية، ويتحقق أمامنا نوع من التوازن الذي كنا نظنه مستحيل الحدوث؛ يقول جلال الدين الرومي: لا يفنى في الله من لم يعرف قوة الرقص. الكون نفسه رقصة بلا انقطاع في محبة الذات الإلهية، العدد اللانهائي من الذرات إلى المجرات كل في فلك يسبحون، مدارات عشق أبدي في تآلف لحني جمالي معجز!

دورة الحياة
الرقص موروثات تزخر بها ثقافات الشعوب، طقوس احتفالية، تعبِّر عن مضامين حضارية ودينية واقتصادية وسياسية، من رقصات شكر الآلهة وتقديم القرابين وطرد الأرواح الشريرة، إلى رقصات النار والمطر والثأر والحرب وبث الذعر في قلوب الأعداء في المجتمعات البدائية، الرقص جملة حركية، تشبه الجملة الأدبية، تُعبِّر عن ماضي الشعوب بنصوص مَعيشة غير مدوّنة. صنفت الكاتبة الزنجية الأميركية بيرل بريمياس الرقصات الأفريقية المختلفة في مجموعات، تمثل دورة الحياة الكاملة من بدايتها إلى نهايتها، رقصات للإخصاب، والميلاد والبلوغ والخطبة والزواج والموت. يرقص الأفارقة حتى في مواجهة رهبة الموت، يعتقدون أن الموت يكمل الحياة، والذين يموتون ينتقلون إلى حياة الخلود والخير المطلق؛ ما يستحق من الأحياء أن يشعروا بالفرح ويعبروا عن سعادتهم بالرقص والغناء. إن الرقص الأفريقي انعكاس صادق للظروف القاسية التي يعيشها الإنسان في بيئة شرسة، والصراع من أجل البقاء، فالحركات السريعة العنيفة في الرقص تحتفي بالقوة والشجاعة والنشاط وخفة الحركة لتجاوز الصعاب والتحديات، مثلما كان الرقص - والفنون إجمالاً - صيحة تحرر تحمي ثقافة الأمم الأفريقية من عبث الاستعمار؛ لذلك يخلق الأفارقة الموسيقى من كل شيء، يجعلون الأشياء تنطق نغماً؛ إنهم يتعلمون الرقص مثلما يتعلمون الكلام؛ ليعبروا به عمّا يجول في داخلهم من انفعالات ومشاعر.

في المقابل، نجد مجتمعات "متحضرة" تعمل على تقييد الذوق الخاص للرقص والغناء؛ باعتباره فعلاً "منحلاً"، لا أخلاقياً، يهدد النظام العام، خاصة إذا حدث خارج السياقات الاجتماعية المتفق عليها، يقول الكاتب جيلين ويلسون إن "الأمر يتطلب أشخاصاً ملهمين يذكروننا أن الإغريق القدامى أمثال أفلاطون قد وصفوا الشخص غير المتعلم أو الأمي بأنه شخص لا يعرف الرقص".

ولعل هذا ما دفع مفكراً بوزن الدكتور إدوارد سعيد إلى الكتابة عن تحيّة كاريوكا باعتبارها أروع راقصة شرقية، وقال إن جوهر فن الرقص العربي التقليدي، شأن مصارعة الثيران، ليس في كثرة حركات الراقصة بل في قلّتها... أما راقصات الباليه فإنهن كائنات سماوية يشبهن الهياكل العظمية، تبدو أجسادهن كأنها جائعة. وتعمل الواحدة منهن على مبدأ الارتفاع في الفضاء وليس الاقتراب من الأرض، حيث البطل في الرقصة هو الفراغ المحيط بجسد الراقصة وليس الجسد ذاته، بينما الرقص الشّرْقيّ هو العلاقة القائمة بين أجزاء الجسد ذاته، حيث البطل هو الجسد. الرقص الشرقي تجسيد للحس والباليه انعتاق منه. الرقص الشّرْقيّ سطوة المتناهي والباليه إطلالة على اللامتناهي.

الراقصة والسياسي
أحياناً يصبح الرقص ترقيصاً، مثل ترقيص الحواجب والمنافسين في كرة القدم، والحيوانات في السيرك والسفن في البحار ومجالس الأثرياء والأعيان وأبناء الحظ، التي تشبه حكايات ألف ليلة. فى كتابها "اعترافات راقصة مصر الأولى"، أسهبت نجوى فؤاد في وصف تعلّق الداهية هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق بمشاهدة رقصاتها، خلال رحلاته المكوكية للقاهرة في سبعينات القرن الماضي.




الرقص بالأساس موهبة، لكنه قد يُكتسب بالتعلم، كار واسع والداخلون كثُر، في الثقافة والسياسة والاقتصاد إلخ، النتيجة غالباً مناقضة للقيمة، يحكي فيلم "الراقصة والطبال"، عن راقصة مغمورة تصعد سلم الشهرة على أكتاف "طبال"، ثم تتنكر له. الحياة مرقص والمشهد متكرر، الرقص أنواع ليس كلها خيراً، يفسد علينا "الأندال" عالمنا برقصاتهم، أبشعها "رقصة الذبيح"، بعد أن تنزل السكين على رقبته. رقصت سالومي أمام هيرود ملك اليهود، إبان الحكم الروماني لفلسطين، مقابل رأس نبي الله يحيى "يوحنا المعمدان"، فقدمها لها على طبق من فضة. مثل سالومي الراقصون على كل الحبال والراقصون على طبل الأذن، الواشون بين الناس، من أجل غنيمة هنا أو مكيدة هناك، هؤلاء يخنقون الأرض بأقدامهم الثقيلة، أمثال الراقصين في المذكرات السياسية، يحشونها بالزيف وادعاء البطولة، وغالباً ما تكون رقصة البجعة أو تغريدتها الأخيرة قبل الأفول أو "الدبور" عندما يزن (يرقص) على خراب عشه.

لو أنك شاهدت الفيلم الأميركي "الرقص مع الذئاب" ربما توافقني أن حيوانات الغابة، أرحم من بعض البشر، رقصة الأفعى المجلجلة خطيرة، لكن أخطر منها رقصات المتاجرين بالشعارات والهامسين في أذن السلطات والمادحين لها بالباطل، والمطبلين أمام اللجان الانتخابية، العلاقة بين الرقص والسياسة موغلة القِدم، بينهما قواسم كثيرة، الرقص سياسة بحركات البدن، بينما السياسة رقص بحركات اللسان، مثلما خاطبت البطلة معالي الوزير في فيلم "الراقصة والسياسي".

تأتي أزمنة يكون الرقص في المجتمعات "على أشده"، يغرق الجميع إلى عواقب غير مأمونة، قبل عام ونصف قدمت رئيسة وزراء فنلندا سانا مارين (36 عاماً)، اعتذاراً للشعب عن مشاركتها بحفلات ماجنة؛ خشية أن تلقي بها من القمة... قد لا ترقص الشعوب طرباً، بل هرباً من أزماتها. حفلات تنكرية يقيمها أهل السلطة وحواريوها. انظر إلى العراق وليبيا وسوريا واليمن، إيقاع جنائزي يحتفي بالموت، ويحكي معاناة الشعوب التوّاقة إلى السلام والحرية، الرقص في الأغلال لا يشبع الروح أو يريح الجسد!

يقول نيكوس كازانتزاكيس في رواية "زوربا": "يبدو لي هكذا أنني أفهم شيئاً ما، لكن لو حاولت أن أقوله لهدمت كل شيء، وذات يوم عندما أكون مستعداً سأرقصه لك"!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات