على قبر الحجة مِزنه


كنت أقف وعين الفضول تكاد تفضحني ، هذا الرجل العجوز صورته في ذاكرتي ما زالت لرجل شديد البأس ، آه من هذه الدنيا حين تكشفنا أمام ذاكرتنا القديمة ، وتعبث بنا كحصى مهملة على طريق تدوسه أقدام الذاهبين والآيبين بلا أدنى اهتمام، عيني ما زالت تجوس في المكان ، أليس هذا الكهل هو ذاك الفتى اليافع الذي كان يفرد جناحيه كطاووس متباه؟ يا لهذا الزمان العجيب ، كل هذا العنفوان غدا ظلالا باهتة ولم يبقَ منه إلا بقايا شارب كث.

نودع جعفر وزيد يشيعنا وعبدالله يرقب خطانا ، نسلم أقدامنا للطريق ، الموت مهماز يدفعنا فنسرع الخطى ،وركب الحجة مزنة يسبقنا ولا نكاد نلحقه ، وكأنها تقول لنا : إني إلى خير مقبلة فوسعوا من خطاكم.

تبتلعنا المقبرة ويتوزع المشيعون بين باحث عن قبر عزيز وآخر يحمله الفضول لتتبع (نصائب) القبور وهو يوزع الرحمات ، الأشجار المبثوثة بين القبور بغير انتظام تبعث فينا رعشة الموت ، تضيق الدائرة على القبر فتتعالى الأصوات شيئا فشيئا معلنة البدء بطقوس الرحيل ، أدرت وجهي وكلي فضول لأكشف هيئات المتحلقين ،أحدهم ينظر والوجوم يرسم خطوطا واضحة على وجهه ، آخر يعبث بمسبحته وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة ،وثالث يقف بأناقة وخيلاء وحذاؤه الملمع يلامس قبرا تغيرت معالمه .

شعرت بتقزز ، وقلت في نفسي : أفي هذا المكان ؟ ازددت حنقا ، وكدت أخرج عن هدوئي ، وراودتني رغبة بصفع هذا الغرور والخيلاء ونحن في منزلة من منازل الآخرة ، حوقلت مرارا ، وتذكرت وأنا في دوامة انفعالي قول العزيز الجبار :( ألهكم التكاثر ،حتى زرتم المقابر....) أدرت وجهي نحو دائرة المشيعين ، وقلت في نفسي : نعم ، حتى زرتم المقابر.

تنتهي الطقوس ، الخطيب يلقى موعظته التي جذبتنا حتى حافة الآخرة ، وجعلتنا نقف وقد خلعنا ثوب كبرياءنا المزعوم ،ولم ينسَ أن يثني على الراحلة وعلى جميل سجاياها ، فهي العابدة ، وهي كافلة الأيتام ، ولها يد خير لمثل هذا اليوم ادخرتها.

البعض ينظر للقبر بعين باكية ، وآخرون يشعرون بنوع من الرضا لأنهم أدوا واجبا اجتماعيا ، ينسحب الجميع فرادى وجماعات ، الدنيا تجذبنا ، فتعود الأصوات لترتفع تارة وتخفت تارة ثانية ، أحدهم يمشي بحذر حتى لا يدوس قبرا دارسا ، وثانٍ يقتفي أثر رفيقه ، وثالث ما زالت خيلاؤه تركبه فحذاؤه الملمع لا يأبه لما تحته ، راقبت هذا المشهد ، انتفخت أوداجي ، وكدت من جديد أصفع هذا الكبرياء، ولكن المعري هذه المرة أنقذني من سورة غضبي ، حين تذكرت قصيدته:

خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد

سر إن أسطعت في الهواء رويداً لا اختيالاً على رفات العباد

وضعت أقدامي على عتبة بوابة المقبرة ، ونظرت خلفي وقلت : رحمك الله أيتها المرأة الطيبة ، فقد كنتُ صبيا صغيرا تقودنا أقدامنا الغضة في شارعنا القديم إلى تلك الزاوية ، وكان وجهك يثير فينا الفرح ، فننظر بقلوبنا الصغيرة فترتسم الابتسامات على شفاهنا راضين ،فعسى أن يبدلك الله خيرا ، وعسى أن يكون لكِ من اسمك نصيب.



تعليقات القراء

الى زكريا
كلامك صح مئة بالمئة بس مات ناس كثير بالمزار شو اللي جعلك تكتب للحاجه مزنة الله يرحمها ولاتكتب لغيرها اتمنى ان لا يكون ذلك رياء وان يكون قصدك معالجة الخيلاء فقط
03-06-2011 08:47 PM
هاشم النوايسه
اشكرك اخ زكريا لقد ابدعت
03-06-2011 09:14 PM
هاشم النوايسه
اشكرك اخ زكريا لقد ابدعت
03-06-2011 09:16 PM
زكريا النوايسة - إالى صاحب التعليق رقم (1)
أخي نعم أنا كتبت عن الحجة مزنة لأن ذاكرة الطفولة استيقظت بين يدي هذه الفقيدة ، وما زلت أذكر يناعتي بين يديها وآخريات من الراحلات اللاتي أبكي رحيلهن في كل حين ، وما دفعني هو ما ذكرت أنت وهو الخيلاء ، ولو قرأت بتمعن لوجدتني استشهدت بقول الله تعالى ( الهكم التكاثر) وفي موقع آخر أبيات أبي العلاء المعري ، وبربك استفتي قلبك هل تراني ممن يراءون ، ولمن أرائي، وأنا غني بالله عن عباده أجمعين
03-06-2011 11:08 PM
نايف النوايسة ـ ابو عمر
لا والله يا اخي زكريا انك احسنت واصبت حين كتبت ما كتبت.. واستغرب من اخينا صاحب التعليق 1 هذا الكلام الذي انقذف على لسانه .. ربما بغير قصد، لكنه جارح جدا .. وانا اشهد ان الحجة مزنة فقيدة على كل الطيبين الذين عرفوها وتستحق الدمعة .. بورك قلمك
03-06-2011 11:38 PM
طراونه الى السيد المعلق رقم واحد
حرام عليك يا رجل ..هل تعرف زكريا النوايسه ؟ ..لو تعرفه لم تكتب هذا الكلام ...اكتب اسم زكريا النوايسه على غوغل رايح تعرف انك ظلمته..اقرأ رده الدمث واعرف انك ستندم
04-06-2011 01:06 AM
هديل نايف النوايسة
اللهم ارحمها فوق الارض وتحت الارض ويوم العرض عليك و قها عذابك يوم تبعث عبادك
اللهم انزل نورا من نورك عليها و نور لها قبرها ووسع مدخلها وآنس وحشتها
اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة و ادخلها جنتك وكرمك جنات النعيم
اللهم اني اسالك الفردوس الاعلى نزلا لها
اللهم وابني لها بيتا في الجنة واجعل بملتقانا هناك
اللهم واسقها من حوض نبيك محمد صلى الله عليه وسلم شربة هنيئة مريئة لا تظمأ بعدها ابدا .
04-06-2011 04:41 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات