ماذا ستقولون لروح محمّد الماغوط؟


يصرّ أناس "مؤمنون" و"حتميون" و"ماركسيون" و"ثوريون" من خارج سورية وبضمنهم أناس من عندنا، على الدفاع عن جرائم النظام فيها، رغم هول المشاهد المهرّبة من الريف والمدن وعموم المحافظات، وأفظعها قتل حوالي ألف مواطن. يفعلون ذلك من خلال إقامة "خطوط دفاع" لفظية موزّعة على ثلاث مستويات، الأول ـ تبرير القمع والقتل والعقوبات الجماعية، والثاني ـ تقديم شهادات حسن سلوك في النظام وتاريخه! والثالث ـ اصطفاف عقائدي أيديولوجي أعمى مع النظام السوري. نستعرض فيما يلي خطوط الدفاع الأساسية. ثم نحاول استيضاح أسباب التورّط في دفاع عن نظام قمعي بامتياز.
من الدفاعات التبريرية: أن قيادات التحرّك الشعبي لا تريد الإصلاح، كما صدر عنها بدايةً، وإنما إسقاط النظام! فما وجه السوء في مطلب حقّ بدأ خجولا فإذ هو وأصحابه يُقابلون بالحديد والنار والدبابات التي دفع الشعب السوري نفسه ثمنها؟ وما وجه الخطأ في انطلاق أماني الناس على مداها وطرح مطلب جذري مثل إسقاط نظام لم يُنتخب بل تم توريثه بتغيير دستور في ساعتين؟ ولماذا لا يسقط النظام ما دام بهذه الشراسة وهذا الاستبداد وهذا التفرّد في السلطة والموارد؟ ومن الدفاعات التبريرية، تبني ادعاءات من النظام تتصل باستعمال نشطاء معارضين للسلاح. بمعنى، أن المنافحين مستعدون لتبني رواية النظام ـ فقط هنا تحلو في أعينهم علامة السؤال ـ علما بأنه هو الذي قتل حوالي ألف مواطن وليس العكس! ولا يرتدع هؤلاء من ترداد روايات النظام عن "عصابات" و"مسلحين" علما بأنه ضُبط منذ العام 1963، في سلسلة مستمرة من الادعاءات الكاذبة ومن الروايات الزائفة كشفتها على مرّ السنين أعمال ونتاجات مبدعين وكتاب وفنانين سوريين على جيلين أو ثلاثة! ألأيس في هذا تصديقا وموافقة ضمنية على ادعاء حكومة إسرائيل مثلا، أنها قتلت 13 شابا فلسطينيا وأصابت العشرات وحاصرت قرى ومدنا عربية، في أكتوبر العام 2000، لأنهم أغلقوا مفرق طرق ورموا الحجارة على سيارات مواطنين يهود! فهل "الذنب" المنسوب للمعارضين هناك (على فرض أنه مثبت) يُجيز للدولة تجريد حملة عسكرية على بلدة أو مدينة ودكّ أحيائها! فهل لنا عين بعدها أن نعاتب ونحاسب حكومة إسرائيلية تقرر أن تبطش بأهلنا هنا في أكتوبر قادم؟
أما في المستوى الثاني، فإن المنافحين يذكرون للنظام السوري "دعمه للمقاومة" و"حسن سلوكه" حيال السياسات في الشرق الأوسط! يبدو أن هناك من يبني على "قصر ذاكرة" مُفترض عندنا أو على كوننا مصابين بالنسيان المبكّر! نذكر مثلا، أن أول ما فعله الجيش السوري في لبنان العام 1976 هو دكّ مخيم تلّ الزعتر والمقاومة الوطنية اللبنانية فيه! وثاني ما فعله هو اغتيال كمال جنبلاط في محاولة لضرب المقاومة الوطنية ورأسها المفكّر. وثالث ما فعله لا يُمكن حصره في واقعة لأنه امتدّ إلى كل شبر داسته قدم الجندي السوري وعناصر المخابرات، وعلى مدى سنواتهم هناك: تحكّم بمصائر البشر ورزقهم وحيواتهم كما عرفت مخابرات عنجر فقط القيام بذلك! ثم أتت الحرب على عرفات ومنظمة التحرير التي أصرّت على استقلال القرار الفلسطيني، وجاءت قوات فلسطينية تدار من دمشق وعنجر وبإشراف مباشر من القوات السورية في لبنان لتحاصر عرفات من جديد في البداوي ونهر البارد بعد أن حررته الدبلوماسية من حصار إسرائيل له ولبيروت، قبل ذلك بقليل! أما الدعم لحزب الله، فهو دعم لحليف عسكري سياسي وليس لـ"مقاومة". هو أداء ملتبس لمتعهّد توتير مقابل أجر إيراني أكثر منه دعما لـ"مقاومة" لا تقاوم إلا على إيقاع المشروع الإيراني! شراكة أمنية قمعية تمت بثمن إضعاف لبنان ودولته ومؤسساته ومنع تطوره ونموه والخطر، أنها تمّت بثمن قمع اللبنانيين وارتهانهم كأفراد ومجموعات. وما الحكمة في دعم "مقاومة" لبنانية يتحمّل تبعات نشاطها لبنان وعاصمته وأهله لكنها تضمن الهدوء التام لإسرائيل على جبهة الجولان، أكثر الجبهات هدوءا واستقرارا منذ اتفاقيات فصل القوات في العام 1974؟
أما شهادة حسن السلوك الثانية فتتعلّق بـ"ممانعة" النظام السوري و"وقوفه في وجه المشروع الأمريكي ـ الإسرائيلي"! نشير، بدايةً، إلى أن سورية انضمت إلى هذا المشروع في الحرب الأولى على العراق، وكانت جزءا من التحالف ضده! لكن قبل هذا وذاك، كان نظامها توصّل مع إسرائيل إلى تفاهمات ـ وليست إلى تفاهمات ضمنية فحسب ـ على تقاسم لبنان واحتلال مناطقه. وكانت الحدود بين مناطق النفوذ واضحة تماما، أشبه بحدود دولية، كما خبرها اللبنانيون على جلودهم! كان هذا الترتيب مريحا للسوريين الذين تذرّعوا بـ "الممانعة" لتكريس احتلالهم للبنان والتصرّف بمقدرات البلد وصولا إلى تعيين رئيس الجمهورية ـ كما حصل مع التمديد لإميل لحود مثلا ـ أو تسمية رئيس الحكومة! وكان مريحا لـ"المقاومة" التي لم تكن لتهيمن عسكريا لو التسهيلات السورية والإيرانية على ظهر لبنان! أما عندما واجهت مشاريعهم نزعة لبنانية للاستقلال والتخلّص من وصاية سورية ـ إيرانية بأداة حزب الله، قوبل أصحاب النزعة في ظلّ الوجود السوري بسلسلة من الاغتيالات طالت رئيس الحكومة وقادة أحزاب وتيارات!
أما خط الدفاع العقائدي فيتلخّص في كون النظام السوري مناهضا للسياسات الأمريكية! في هذا الادعاء أكثر من ثغرة. الأولى، مبدئية ـ فهل يكفي أن يكون طرف سياسي مناهضا لأمريكا كي نكون معه؟ إنه معيار سياسي من إرث حقبة الحرب الباردة والخطاب الثوروي المغالي القائم على الرواية السوفييتية التي خسرت معركة التاريخ! هل يُمكن بناء تصوّر للعالم قائم من اعتبار واحد هو معاداة أمريكا أو إسرائيل! هل يُمكن أن تقوم "أيديولوجيا" ويستوي مشروع سياسي، مهما يكن كبيرا أو صغيرا، على هذه النقطة! إنه الوقوع في "أثر المرآة"! صحيحة ادعاءات إدوارد سعيد في "الاستشراق" بشأن شَرْقنة الشرق بأعين الغرب بُغية إحكام السيطرة وتسهيل فرض الهيمنة، وصحيحة نقوده لهذه الرواية المعبّر عنها في سلسلة من النصوص من لدن المستشرقين وسواهم. لكن صحيحة، أيضا، الادعاءات التي أعقبت أطروحات سعيد من أن الشرق ردّ بـ"استشراق" معكوس. فرأى نفسه نقيضا لـ "المركز الغربي". وهي رؤية غير ممكنة دون افتراض "الغرب" حالة نهائية نحن نقيضها على نحو نهائي! ولأن في الأيديولوجيا كما في الأيديولوجيا، لا بدّ من نقيض ورواية نقيضة لتصحّ روايتنا وتستقيم! فإذا أسقطنا أمريكا وروايتها، انسحب البساط من تحت أرجل المنافحين. وعليه، ينبغي تثبيت أمريكا مركزا ومشروعا للتمترس قبالته وإلا فما الداعي لوجودهم! إنه المتخيّل الأيديولوجي وليس سواه. وهو متخيّل يستبدل الروابط الوشائجية القبيلية والعشيرية بالوشائج الأيديولوجيا ولسان حالهم يقول: "كن من عقيدتنا وسنغفر لك كان ما تأتي به من قتل واستبداد وتخريب دول ومجتمعات"! هذا علما أن "أمريكا" أو "الغرب" تغيّر منذ انتهاء الحرب الباردة وتحوّل وليس بإرادته بل تحت ضربات الوقائع وأهمها العولمة التي أضعفت "المراكز" في نواحي عدة وعمّقت من الصراعات بينها!
وأخيرا، تتجلى في خطاب المنافحين تلك الثغرة الأخلاقية التي لم ينجُ منها المؤدلَجون الشموليون من كل مذهب. فما معنى المنافحة عن النظام السوري وهو يحتلّ بلاده بالحديد والنار ويقتل مواطنيه؟ لهذا معنى واضح وإن جاز التأويل. يقول لنا المنافحون: "لتذهب حريات السوريين أو اللبنانيين إلى الجحيم، بل إن حياتهم وتطلعاتهم وكراماتهم غير ذات أهمية في سبيل ممانعة وصمود"! الإشكالية الأخلاقية واضحة لو سلّمنا بوجود "ممانعة"، وهي مدويّة وتشكّل مأخذا جديا على أصحابها في ظلّ "الممانعة" اللفظية السورية، وفي ظلّ تستّر النظام منذ خمسة عقود بهذا الادعاء الذي يرفضه السوريون! أو أنهم يقولون لنا: "لا شأن بالمواطنة في سوريا ولا بالكرامات الإنسانية ولا بالحقوق ولا بحياة الناس وتطلعاتها في دمشق وريف دمشق ما دام النظام في سوريا يعرف كيف يُدغدغ عداءنا المتأصّل لـ"الغرب" وكيف يعزف على وتر "مناهضة" الرأسمالية أو أمريكا"! ولا بأس ـ وفق هذا المنطق ـ إن طلع النظام على قرى بدباباته وحرسه الجمهوري وآلياته وقناصته، لأن أهلها ربّما استحقوا عقابا ما على تجرؤهم مساءلة النظام ومشاغلته في وقت يمارس فيه "الصمود" و"الممانعة"! سقوط المدوّي في ثلاث هوى سحيقة، الوعي الزائف والتعصب الأيديولوجي والتبلّد الأخلاقيّ! حالة، يكون فيها كل منافح على هذه الطريقة وفي هذه الظروف وعلى مرأى من المشاهد الدموية الوافدة من سورية، مستبدا أو حاكما جائرا لو قُيّض له أن يحكم أو يقود! أنتم، المنافحين، عن تنكيل النظام السوري بمواطنيه، ماذا ستقولون لمحمّد الماغوط إذا عاد معاتبا؟

marzuqh@gmail.com








تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات