على قارعة الطريق


ما دفعني إلى أن اكتب هذا المقال هو ما حصل معي أثناء سفري على طريق عمان العقبة, حيث كنت برفقة صديقي في سيارته الخاصة المتواضعة على الطريق الصحراوي عصراً متجهين إلى ثغر الأردن الباسم مدينة العقبة الجميلة لنقضي فيها بضعة أيام للراحة والاستجمام, وأثناء سيرنا على الطريق الصحراوي كانت أكثر السيارات تسير بجوارنا بسرعات لا تتجاوز 90 كم في الساعة خوفاً من الغرامة المالية أو سحب رخصة السيارة في كمائن الرادار والدوريات الخارجية على الطريق, ولكن بين كل فترة وأخرى كانت تمر بجوارنا سيارة فارهة من ذوات الدفع الرباعي والزجاج الأسود لكي لا يستطيع احد أن يرى من بداخلها - أو ماذا يحدث داخلها - وكانت هذه السيارات الفارهة تسير بسرعات تتجاوز 150 كم في الساعة نتابعها إلى أن تختفي في الطريق الطويلة المكتظة بالسيارات المتحركة كالسلحفاة.

وعند مرور إحدى هذه السيارات الفارهة المسرعة ذات الدفع الرباعي والزجاج الأسود, دار بيني وبين صديقي الحوار التالي الذي بدأته بسؤالي لصديقي ضاحكاً: "شكلها هالسيارة مركبة جهاز كاشف للرادار مزوبعة هيك؟" فرد صديقي جديا: "لا هاظ الباشا أو الهانم حوت من حيتان البلد إللّي مش شايفين حدا قدامهم, لما تكون مثلهم أكيد مش راح يشوفك الرادار" فعلقت راداً: "طيب خليك ورا الباشا بلكي الرادار ما مسكنا بمعيته" وتبعناها بقهقهة تلاها حديث طويل بيني وبين صديقي عن الحيتان وتوزيع الثروات والفساد والمفسدين.. الخ وللأسف لن استطيع أن أطلعكم عن ما دار بيننا بهذا الخصوص لسببين الأول لأسباب تتعلق بالرقابة والنشر, والثاني لأن هكذا مواضيع يطول بها الحديث وتحتاج إلى مجلدات للخوض فيها.

اثناء سيرنا على الطريق الصحرواي وبعد أن تعدينا القطرانة بقليل فجعنا بحادث سير لسيارة رنج روفر من سيارات الحيتان السابق ذكرها, يبدو انها كانت تسير بسرعة عالية ولكن وحسب ما عرفنا لاحقاً فإن السرعة لم تكن هي السبب الوحيد في انقلاب السيارة ولكن العاصفة الرملية التي أعمت بصر السائق هو وصديقته شبه العارية التي كانت تجلس إلى جانبه عن الخطر المتربص بهما, كانت السبب الرئيس لخروج السيارة عن الشارع ونتيجة لسرعتها انقلبت عدة قلبات. طبعاً لأنه ابن أحد حيتان البلد كان متأكداً أنه لا يوجد رادار يرهبه أو دورية تخالفه, ولكنه نسي انه ان لم يكن هناك شرطي يحاسبه لأن أباه من الحيتان المتنفذين في البلد, فإن الذي خلق الشرطي وخلق أباه الحوت لقادر على حسابه في الدنيا والآخرة.

تدفقت النخوة والشهامة العربية في عروقنا فتوقفنا بسيارتنا على قارعة الطريق ونزلنا لنقوم بالمساعدة بإسعاف ركاب السيارة. خاصة ان سيارة الإسعاف كانت لم تصل بعد ولم يكن هناك إلا سيارة دوريات خارجية وبعض من المواطنين الذين توقفوا للمساعدة, ولكن يا ليتني لم انزل ويا ليتني لم أرَ ما رأيته من فجاعة الحادث.. هذا المنظر الذي ما زال يلاحقني حتى اليوم ككابوس لا استطيع التخلص منه, فقد كان السائق شاباً في العشرينات من العمر, ونتيجة لانقلاب سيارة الرنج روفر عدة قلبات دخلت قطعة حديد من بودي السيارة في عنقه فذبح كما تذبح الشاة, وكان دمه متناثراً في كل مكان, وطبعاً فارق الحياة, أما الفتاة التي بجانبه فهي أيضا في العشرينات من العمر وكانت شبه عارية, وقد قتلت هي الأخرى نتيجة لانطباق حديد بودي السيارة على رأسها فكانت نهايتهم مأساوية, وما لفت انتباهي أكثر وجود أصناف من الخمور في مؤخرة السيارة, وحينها خطر لي ان هذه هي النهاية المأساوية لهؤلاء الشابين, بسبب الخمور والتعري والله اعلم ماذا أيضا! ماذا سيكون عقابهم في القبر وفي الآخرة؟!

بعد أيام قليلة تم نشر نعيهم في الجرائد المحلية وكان نعياً مشرفاً, ففي إحدى الجرائد اليومية المشهورة نزل نعي الشاب على صفحة كاملة, وعلمت فيما بعد ان هذا الشاب ابن لأحد الحيتان في البلد الذين يعتبرون ان الحصول على النقود آخر همهم, وإذا شطبت سيارته فالماما (بتجيبله غيرها أكيد) ولكن إِنْ شُطِبَ هُو (فَكِيْفْ الماما بِدْهَا اتجيب زيه؟؟!!).

كلنا سيصلنا ملك الموت ليقبض أرواحنا في أي وقت, وفي أي مكان, حتى لو كنا في بروج مشيدة كما قال الله تعالى: ﴿أيْنَمَا تكونوا يدرككُم الموتُ ولو كنتم في بروجٍ مشيَّدة﴾ (النساء 78) ولكن المصيبة أن يأتينا ملك الموت ونحن عاصون آثمون أو ونحن نرتكب ذنباً أو أن نكون كهؤلاء الذين ينظرون إلى تعاليم الدين والسنة على انها تعاليم بالية ونمط وطراز قديم. فلن يحمينا من ملك الموت لا أموالنا ولا عائلتنا ولا سى اى ايه, ولا شهادة الجامعة الأمريكية, ولا الحياة ( الهاي كلاس) فقبورنا ضيقة ليست كمانشيتات عزائنا في الجرائد لا تعرف ولا نعرف فيها بأموالنا وجاهنا وحسبنا ونسبنا وشهاداتنا ونفوذنا وخدامنا, وإنما بأعمالنا وتقوانا فندعو من الله أن يقينا عذاب القبر, وأن يجعل قبورنا وقبور المسلمين فسيحة يا رب العالمين.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات