السّعودية .. خطاب جديد لسرديّة جديدة


جراسا -

ترتبط السعودية في طفولتي المبكرة بسجادة معلقة على حائط في بيتنا في مخيم الكرامة شرق نهر الأردن، لم تكن سجادة صلاة، كانت لوحة منسوجة على السجاد تبين مشهداً لفرسان ملثمين يخطفون امرأة على ظهور الجياد. كانت تلك هدية من ابن عمي الذي سافر إلى السعودية كمعلم في مطالع ستينات القرن الماضي، آلاف من الشبان الفلسطينيين شاركوا في تلك العشرية رحلة المعلمين السحرية التي أخرجت الجزيرة العربية من الخرائط وأحضرتها إلى وحدات السكن الموقتة وبيوت الطين في مخيمات اللاجئين. كانت تلك فرصة عمل مثالية لا تخلو من حظ لأولئك الفتية الذين أنهوا المرحلة الثانوية بمشقة ووقفوا أمام مستقبلهم وعائلاتهم المستنزفة من دون تأهيل أو إعداد أو إمكان مواصلة تحصيلهم، ستمنحهم جامعة بيروت العربية تلك الفرصة عبر فتح باب الانتساب إلى مساقاتها، البرنامج الذي سمح لهم بالعمل خلال السنة والتقدم للامتحانات في بيروت خلال الصيف، بما تعنيه تلك الرحلة من تنقل غريب بين قسوة الحياة والعمل في الصحراء والقرى النائية من جهة، والدراسة في الحاضرة العربية الأهم بوعودها واقتراحاتها وغوايات الانفتاح. ابن عمي محمد كان واحداً من هؤلاء.

هذه مقالة مؤجلة، كانت دائماً على الطاولة، تسللت بعض أفكارها ولكنها بقيت هناك محاطة بالملاحظات وقائمة مصادر تتراكم حولها، والأهم طبقات الحكايات حول تلك البلاد الموجودة بقوة من المعلقات السبع إلى قصص الدعوة والصحابة المحفورة مثل إشارات سلامة، وصولاً إلى روايات المستشرقين والحجاج والمعلمين والرواية القاتمة لليساريين.. ولكنني في كل مرة كنت أبدأ من تلك السجادة، منحازاً إلى حكايات المدرسين العائدين في الصيف بهدايا متفق عليها؛ قمصان وقطع قماش وساعات يد وسجاد وأقلام حبر.. كنت هناك خارج الاحتفالات بتوزيع الهدايا حيث تتسلل الحكايات عن القرى والطرق والناس، العادات وبدائل الخبز والطعام والأعراس والجنازات والملابس .. كانت حكايات لا تشبه حكايات الحجاج الذين احتكروا السرد لعقود طويلة، وضيقوا المشهد لينحصر المكان في نقطتين بين مكة والمدينة والطريق البري الطويل المؤدي إلى هناك.

حكايات المعلمين كانت تشدني، حكايات بشرية وممتلئة حتى حوافها بالحياة والمغامرة ورواتها من الشباب الذين تنقصهم التوبة وتتدفق أصواتهم الفتية لتملأ تلك النواحي البعيدة بالفضول والمغامرة والمبالغة والحماسة، بينما حكايات الحجاج متداولة ومكشوفة ويقينية، ورواتها من الساعين وراء التوبة حين تتحول الغيبيات إلى رضا والأحلام إلى أدعية، حكايات تسلك طريقاً وحيدة وتصل إلى مكان وحيد، تستعرض الخبرة المتشابهة والنيات الواضحة للذاهبين إلى الحج، حكاية وحيدة مع اختلافات بالتفاصيل تعتمد على مهارة الراوي ومخيلته وهو يعرض، كوثيقة حاسمة، صورة باهتة له بالأبيض والأسود بملابس الإحرام.

كانت حكايات المدرسين الفتيان الذين ذهبوا في تلك المغامرة خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي خروجاً على النص، مغادرة تلك الطريق الطويلة التي تذهب إلى مكة بين محطتين يحرسها المطوعون من جماعة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، والتجول أبعد حيث يتفتح مشهد غريب لا يخلو من السحر. نوع من إضافة الألوان إلى مخيلة بالأبيض والأسود.

ولكنها، حكايات المدرسين، هي التي بنت الصورة الجديدة المختلفة والمفتوحة على التوقعات والتفاصيل، في الحكايات ظهرت وجوه الناس والطبيعة والنباتات والحيوانات البرية، ظهرت قرى نائية وانكشفت جزر مخفية وينابيع وأودية خصبة، وكانت هناك صور لصيادين وبحر وجبال يغطيها الضباب، وكان يمكن تأمل صور لأشخاص على دراجات نارية في رحلة في البادية.

في ما بعد سيتدخل آخرون في بناء الصورة، أشخاص ذهبوا إلى المدن، عمال ومهندسون وأطباء وتجار، وستظهر "أرامكو" مثل كائن غامض وكأنها بلاد وحدها، وستظهر ملامح الأسواق والبنايات العالية والسيارات الحديثة والشوارع المضاءة والورش والموانئ والناقلات الهائلة، وبدا أن الصورة تتقدم وتتسع وتتنوع وتخرج من مشهد القرى النائية والمساحات الخالية والعرائش، التي تحولت إلى مدارس بينما تتجول الأفاعي بين القش في السقف.

لم تعد السعودية تشبه صورة "العربي بائع النفط الجالس قرب مضخة في صحراء خالية"، لعلها لم تكن كذلك، كانت تتنفس وتسعى وتتقدم خارج كتب الاستشراق والروايات القاتمة لليسار خلال الحرب الباردة.

لكل طبقة من هذه السرديات خطاب، خطاب يصدر عن الناس والمكان يقابله الخطاب القادم من الخارج والقائم عليه.

الآن تصعد سردية مختلفة، تستدعي خطاباً مختلفاً ومخيلة مختلفة، سردية تتطلب لفهمها الخروج من الصور القديمة والتحرر من السرديات المتراكمة، ليس نفيها ولكن قراءتها في ضوء جديد ورؤية جديدة ومعايير جديدة، قراءتها في تحولاتها وليس سكونها.
يصعب تفادي الإعجاب بعمق التحولات التي تشهدها هذه البلاد في العقد الأخير، تحولات شملت معظم مناحي الحياة؛ الاقتصاد والجيش والثقافة والتعليم والرياضة والسياسة والمجتمع، وما ظهر في البداية مبالغة تشوبها القسوة، يبدو الآن مثل بنية تحتية لتحولات بعيدة المدى، تشمل الاستفادة من ارتباك البدايات وصدمة الخروج إلى العالم.

خارج الصورة الاستشراقية التي رسخت لعقود طويلة، صورة الصحراء الساكنة الموزعة في ثنائية ثابتة بين طريق الحج وأنابيب النفط، تتشكل دولة قوية حديثة مؤثرة في محيطها وقادرة على التحرك في العالم الجديد من دون "وكلاء"، قادرة على الجمع بين "مدائن صالح" الغارقة في التاريخ ومدينة المستقبل المدهشة "ذا لاين".



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات