انتفاضة سوريا والمصالح الدولية


فشل مجلس الأمن حتى بإصدار قرار إدانة لعمليات القتل والتعذيب والاعتقالات التعسفية في سوريا رغم التقارير المؤكدة لسقوط أكثر من 600 شهيد وأكثر من ألفي معتقل سياسي خلال أسابيع الثورة، وساهم في عدم التوصل لقرار الإدانة كل من الصين وروسيا ولبنان بالإضافة لضعف الموقف الأمريكي الذي كان يستطيع ممارسة نوعا من الإقناع والضغط السياسي على هذه الدول وآثر الحراك الديكوري الناعم.

هذا يؤكد ما نعرفه جميعا بأن الدفاع عن دماء وكرامة الجماهير العربية في نظر (الآخر) لم ترقى في حالات عدة إلى قيمة المصالح الفعلية لهذه الدول كما في حالة سوريا الآن، حيث تستخدم قيم الحرية والجرائم ضد الإنسانية عند توافق الحاجة لها مع ضرب المصالح الوطنية العربية لصالح المنظومة الخارجية فقط، وتجربتا إدانة (إسرائيل) وسوريا تكادان تكونا متشابهتان في النتيجة لدى طرحهما للحل العالمي أمام المصالح الغربية المشتركة في بقاء النظامين كما هما بصفتهما التسلطية والقمعية للشعوب أصحاب الموقف الأصليون.. وبغض النظر عن تبادل الأدوار بين الدول المؤثرة على قرار مجلس الأمن.

وهنا يجب أن لا تثيرنا تصريحات السناتور الجمهوري جون ماكين الذي اعتبر فيها أن الرئيس السوري فقد شرعيته ودعوته له للتنحي، فالدعوة الحقيقية للنظام السوري جاءت من (رايس) الوجه الرسمي لأمريكا والتي طالبت فيه بتعديل السلوك للنظام السوري فقط، وهنا لا يعني هنا إننا نعول على وجود منطق حقيقي في الطرف الآخر من العالم.. ولكن يجب أن ننظر إلى هذا (الآخر) كما يجب حتى لا نعول عليه أبدا.

فمعظم التحركات الدولية الغربية تبدو حق يراد به باطل، بل نجد أن التدخل الغربي في معظمه يهدف إلى إدامة الصراع الشعبي مع سلطته لإنهاك المجموع والكيان وذلك بالمحافظة على حدود دنيا من الصراع وأدواته بين يدي الطرفين للوصول إلى حالة موافقة للمشروعات الغربية في المنطقة، وما الحالة الليبية إلا نموذجا لعملية فرش للفوضى في دول المغرب العربي وتجّذيرها في توطئة لما بعد القذافي حيث يمثل الكيان الصومالي حالة قياسية يتم المقاربة الفعلية باتجاهها وبجهود مشتركة حتى من القذافي نفسه الذي يعمل تحت مبدأ (أنا ومن بعدي الطوفان).

وبالنسبة للحالة السورية يدرك الجميع أن النظام كان وما زال يشكل بيضة القبان بالنسبة للصراع العربي الصهيوني، حيث استطاع أن يسابق الجميع على حماية حدود الكيان الصهيوني ويحافظ على حدود الجبهة الشمالية لفلسطين ومنذ بداية (الحركة التصحيحية- استلام العائلة الحالية للحكم) وبنفس الوقت استطاع أن يحافظ على توتر إعلامي وصوتي ودعائي مع (الكيان الصهيوني) وليتم استخدامه في التغول على جميع الدول العربية واصطياد حركات التحرر ومشاريعها والتي قام ببلع معظمها لإنتاجها كاذرعا ضاربة له في صراع بقاءه.

ولا شك أن الغرب والكيان الصهيوني تدرك الفضائل الخفية للنظام السوري وتحفظ له الجميل في الهدنة الطويلة على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة (أربعة عقود) وفي قمع الثورة الفلسطينية في تل الزعتر عام 1976 وفي الجنوب اللبناني عام 1977 وتسليم بيروت بانسحاب القوات السورية من الجنوب ومن الجبل وجزين ومشغرة في الاجتياح الصهيوني في عام 1982 وفي نهر البارد والبداوي عام 1983، ودوره الرئيسي في أكثر من محاولة للانشقاق عن فتح.

كما شكل النظام السوري بسبب تركيبته المشوهة وعلاقته العضوية مع إيران حالة ناشزة في الوطن العربي خلق فيها أكثر من أزمة وحافظ على أكثر من تناقض مع الدول العربية، ويمكننا بذلك فهم تصرف النظام السوري ضد نظام الرئيس الراحل صدام حسين وعدائه الشديد له رغم التوافق الكامل الأيدلوجي البعثي بين الحزبين الحاكمين آنذاك الذي تلاشى أمام حاجة إيران والغرب لاستخدام النظام السوري لإدامة حالة الإرباك والتفرغ للتناقضات الرئيسية من خلال التناقضات الفرعية في الوطن العربي وتمثل ذلك باستعمال النظام السوري للنيل من النظام العراقي السابق والعمل على استقطاب المعارضة العراقية وتدريبها وتهريبها للعراق لأكثر من عقدين.

الآن وأمام فظاعة الماكينة الأمنية السورية وحيث أن الوضع المتفجر في سوريا يخلق إشكالية فاضحة لاوباما بسبب وضوح انحراف البوصلة الأخلاقية والأسلوب الانتقائي للسياسة الأمريكية ما بين سوريا كنظام وبين العراق أو ليبيا مثلا.. مما يتعارض مع محاولة أمريكا للمحافظة على صورة رعاة وحماة الديمقراطية العالمية كمدخل منطقي للسيطرة العالمية مما يجعل الوضع المتأزم في سوريا والذي وصل إلى مرحلة اللاعودة لما سبق لا يمكن إن يتم حله عالميا بمعزل عن تفكيك كامل للوطن العربي وإعادة تركيب لشرق أوسط جديد وبحيث يتحكم فيه لاعب وأكثر من أجندة مع محاولة المحافظة على دوام الحال السوري بشكله العام الذي يلبي حاجة الكيان الصهيوني للهدنة المزمنة في الجولان بالإضافة إلى ترضية إيران (الشاهد الملك) في المحافظة على تشكيلة النظام بهيئة (حصان طروادة) للمشروع الإيراني في المنطقة والذي يمثل الشق الثاني في متلازمة التفكيك للوطن العربي.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات