المرافي و حياته الجامعية .. !


لقد عانيت معاناة قاسية خلال دراستي الجامعية قبل (٢٤ ) سنة خاصة في السنة الأولى والثانية و كنت أخفي تلك المعاناة عن والدتي التي غادرت إلى رحمة الله بعد سنة تقريبآ من إنهاء دراستي الجامعية بعدما فرحت بتعييني في وزارة التربية والتعليم و كذلك اخفيتها عن أهلي و زملائي في الجامعة ، فقد كنت أتظاهر أمامهم بيسر الحال إلا أنهم أكتشفوا لاحقا ظروفي الصعبة ، فقد لاحظوا غيابي عن دخول كفتيريا الجامعة و السير إلى الجامعة ذهابا وأيابا على الأقدام رغم بعد سكني عن الجامعة وقد ساعدني في ذلك أن معظم محاضراتي متأخرة ، حيث آتي إلى الجامعة بعد العاشرة يكون فيها زملائي ومعظم الطلبة متواجدين في حرم الجامعة و قاعات الدراسة وأغادرها آخر الطلبة فلا يشاهدونني وأنا أسير على الأقدام؛ كون محاضراتي متأخرة تنتهي في المساء فأكون أخر المغادرين بعدما يكونوا غادروا الجامعة في وسائل المواصلات ، فقد كنت أخجل أن أركب الباص حتى لا أتعرض للإحراج ويقوم زميل بدفع الأجرة عني وقتها لا أستطيع دفع الأجرة عنه في المقابل المرة القادمة رغم أن أجرة الباص في ذلك الوقت من الجامعة للسكن أو السوق (١٥) قرشا .

لم أكن أتذمر أمام والدتي و أهلي عندما بدأت دراستي الجامعية لأنهم كانوا متخوفين من دراستي ، فقد سمعوا من الجيران والمقربين أن الجامعة مكلفة وأن ابنكم يوسف راح (يخليكم على الحديدة) وفق قولهم ، كنت أشاهد الخوف في أعين والدتي و والدي؛ لذلك كنت أوهمهم بأنني مبسوط ومصروفي يكفيني و مسكني مناسب حتى لا أزيد أوجاع والدتي التي كانت تعاني من مرض في القلب حتى أن صديقات والدتي من الكبيرات في السن كن يسألن والدتي عن مصروفي القليل ويستغربن كيف أنه يكفيني، فقد أخفيت تلك المعاناه عن الجميع ولم اكشفها إلا بعدما أنهيت دراستي الجامعية و أصبحت كاتبا صحفيا رغبة مني في أن يتعلم الجيل الحالي من الطلبة الفقراء بعض الشيء في كيفية دراستي و تحمل المشاق من أجل التخفيف عن أهاليهم بسبب مصروف الدراسة الجامعية المكلف حاليا و الذي أرهق الآباء والأمهات في مجتمعنا حتى أن الآباء يذهبون للقروض البنكية من أجل تدريس أبنائهم وتجدهم يبكون ويتألمون بسبب مصروف ابنتهم أو أبنهم .

كنت في السنتين الأوليتين من دراستي الجامعية أعيش في غرفة شبه مهجورة تنعدم فيها وسائل السلامة ، حتى أنني كنت أشعر بطعم غريب في الماء الذي أشربه ، فلما أستأذنت من الجيران لكي أتفقد الخزان على السطح كون مجموعة من الجيران مستأجرين الطابق الثاني و خزاني مستقل على سطح بيتهم ، فلما صعدت عليه وجدت العجب العجاب وما يطير الألباب عندما رأيته مفتوحا فيه الحرابي والجرذان والضفادع والطحالب والأوساخ والرمال ، حيث أمضيت سنة كاملة وأنا أشرب منه و لا أعلم بعدم نظافته حتى أن جيراني أصيبوا بالدهشة عندما أخبرتهم أنني أشرب منه قائلين :" فكرناك بتشرب ماء صحية وما بتستخدمه إلا للغسيل" ، فلما أكتشفت عدم نظافته قمت بتنظيفه وأغلاقه بخشب وكيس بلاستيكي فلم يكن معي لشراء له غطاء ، كنت مجبرا على عدم ترك الغرفة المهجورة ، فقد كنت مستأجرها ب ( ١٥ ) دينارا دون دفع فاتورة الماء ولا الكهرباء ؛ لأنني كنت أقوم بتشغيل لمبة واحدة وبعض الأحيان استخدم فانوس الكاز عندما تنقطع الكهرباء ، وفي الشتاء لا أقوم بتشغيل التدفئة الكهربائية ، فقد التزمت أمام الجيران بذلك كون العداد مشترك ، بل كنت أمضي وقتي في الفراش وعندما اشعر بالبرد القارص أقوم بتشغيل البابور وأضع عليه غطاء من الحديد لزيادة الحرارة في تدفئة الغرفة ، وكنت أستغله وهو مشتعل لتسخين الماء ؛ لكي أغسل ثيابي وملابسي و تارة أخرى للإستحمام لعدم وجود القيزر و غير ذلك ، كما كنت استغله لعمل قلاية بندورة يوميا ؛ كون البندورة في ذلك الوقت رخيصة ، فقد كنت أشتري بكستين بندورة لأن معظم أكلي بندورة غداء و عشاء و شوربة عدس و غيرها من أكلات بسيطة كنت أنقلها معي من بيتنا في الطفيلة ، كنت أشعله في البرد القارص فقط حتى أوفر من مصروف الكاز رغم أن مادة الكاز في ذلك الوقت رخيصة جدا حتى أنني حاليا بعد مرور تلك السنوات ما زلت أشعر بأوجاع البرد التي كنت أعاني منها قبل أكثر من (٢٤) سنة، فقد كنت دائما أشرب الجعدة والمريمية أيام دراستي الجامعية خاصة في فصل الشتاء بسبب البرد وبعض الأحيان أعاني من أوجاع في القدمين عندما كنت أذهب إلى عيادة الجامعة كان يقول لي الطبيب: هذه الأوجاع بسبب البرد ، دفي حالك زين يا شب البرد شديد في الشتاء بنخر العظم" وقتها أرد عليه بإبتسامة خجولة صفراء .

كنت في الأيام التي أفتقر فيها للطعام في الجامعة خاصة في السنتين الأوليتين أقوم بدق الخبز الناشف في السكن و أضع عليه الشاي وملعقة من السمن البلدي الناتج من رعاية والدتي لثلاثة من الماعز تهتم بتربيتهن لكي تؤمن مصروفي الجامعي .

كما أقوم بتقديمه لزملائي الطلاب الذين كانوا يزورني فجأة بالليل ولا أجد ما أقدم لهم من ضيافة ، حيث يعجبون بلذتها و حلاوتها وعندما يسألونني عن المكونات وأقول لهم أنها كنافة بلدية دأبت والدتي على عملها مصنوعة من الخبز الناشف والشاي والسمن البلدي .

بعدها بسنتين أنضم لي بعض الزملاء في السكن وقمنا بعمل صيانة خفيفة للغرفة و تشاركنا في أجرتها ومصروفها الأسبوعي وتحسن الوضع قليلا .

كان مصروفي الأسبوعي خمسة دنانير ، و كنت في بداية كل يوم أحد أجمع مقدار دينارين من كل زميل في السكن على شكل جمعية مصغرة، وأقوم بشراء صندوق (بكسة) بندورة و بطاطا وكيس بصل و سكر و شاي وأدخر مقدار دينار ونصف إلى منتصف الأسبوع لكي أشتري فيها دجاجة في ذلك الوقت وأطبخ لزملائي في السكن (مقلوبة أو مكمورة) .

كنت لا أكلف والدتي ، فقد كنت أشعر معها لأنها تكفلت بدراستي الجامعية بمصروفٍ مقداره خمسة دنانير أسبوعيا رغم أنني أبقى أسبوعًا كاملاً في الجامعة لا أغادرها إلا مساء الخميس من كل أسبوع إلى أهلي ، فعلى سبيل المثال كان زملائي في شهر رمضان المبارك يقرعون الباب على محاضرتي المتأخرة التي كانت تسبق آذان المغرب بساعة ، لكي أطبخ لهم ، عندها تسألهم الدكتورة التي كانت تدرس ذلك المساق عن حاجتهم لي ؛ فيقولون :" لكي يطبخ لنا فالوقت متأخر حيث لم يبق الكثير عن حلول آذان المغرب ( الإفطار ) ؛ فقد كنا لا نأكل في المطاعم بسبب ضيق الحال والفقر المدقع ، عندها تقوم الدكتورة بالتصفيق و إلقاء عبارات الإعجاب كيف لطلبة في الجامعة أن يعملوا فطرتهم في رمضان في السكن ، فقلت لها إنّ ما نقوم به من تناول الطعام ليس في رمضان فقط ، إنما ذلك يكون في كل الأوقات على مدار سنوات دراستنا الجامعية ، فلم يسبق لنا أن تناولنا الغداء في مطعم أو كفتيريا أو ما شابه ذلك شعورا مع الأهل ، ومع ذلك أصبح زملائي بعدما تخرجوا من الجامعة يشار لهم بالبنان ، وأصبحوا متميزين في عملهم رغم أن البعض منهم في دراسته الجامعية وأنا واحد منهم لم يكن معه نهاية الأسبوع أجرة الحافلة ، فيقوم بدفعها في الأسبوع الذي يليه ، هذا هو حالنا يا شباب ، لا أخجل من سرد تلك الحياة التي عشناها ، عندما أكون في إحدى الجلسات مع أصحابي كانوا ينبهونني لعدم الحديث أمام والديهم عن مصروفي الأسبوعي عندما كنت طالبا جامعيا ، وكان السبب أن والديهم إذا علموا بمصروفي سوف يتاخذونني قدوة لأبنائهم ، في حين أن طلابا آخرين يتجاوز مصروفهم ( ٢٥) دينارا في ذلك الوقت بالتحديد ، بينما كاتب هذا المقال كان مصروفه( ٥ ) دنانير شاملة لأجرة الحافلة ذهابا وإيابا من السكن إلى الجامعة وبالعكس، وهذا مما يثير الغرابة والدهشة عند الجيل الحالي الذي يتعدى مصروفه في الأسبوع في هذا الوقت (١٠٠) دينار ، ناهيك عن الملابس والخلويات وقل ما شئت من المظاهر ما أنزل الله بها من سلطان .

وأخيرا ، أيها الإخوة والأخوات ، لا أطلب منكم أن تعيشوا على التقشف ولا الخبز الناشف و لا حتى على المصروف القليل ، بل نريد منكم التخطيط والتنظيم وإعداد موازنة أسبوعية ترأف بالوالد والاعتماد على الطبخ اليدوي في السكن بمشاركة جماعية والتعاون بينكم في المصروف، ومراعاة ظروف بعضكم في الدراسة والخدمة في السكن ، لأنها تعتبر البداية ما بعد الجامعة في اكتساب الخبرة وتكوين الأسرة فيما بعد .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات