رياح النكبة تهب على الأمة العربية


جراسا -

من المصادفات القدرية أن ذكرى «النكبة» في فلسطين تجيء هذه السنة متقاربة زمنياً مع الذكرى المئوية لمعاهدة «سايكس ـ بيكو» التي تقاسم فيها الحليفان المنتصران في الحرب العالمية الأولى، بريطانيا وفرنسا، منطقة المشرق العربي. وقد حرص البريطانيون، يومذاك، على التمهيد، عبر هذه المعاهدة، لإقامة الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين بخطوات محدّدة، إذ كان ضرورياً إقامة سور من الدويلات الضعيفة من حول فلسطين ليمكن زرع الكيان الإسرائيلي فيها.

التزامن بين «النكبة» في فلسطين وبين النتائج العملية لمعاهدة «سايكس ـ بيكو» أوضح من أن يحتاج إلى شرح. إنه كالعلاقة بين السبب والتداعيات المنطقية الناجمة عنه.


وهكذا كان ضرورياً أن يقسم المشرق العربي، وبالتحديد «الهلال الخصيب»، أي المساحة الممتدة بين البحر الأبيض المتوسط والصحراء العربية بدءاً بالكويت على الخليج العربي وانتهاء بعدن على بحر العرب واليمن ـ شمالاً ـ عند باب المندب الذي يربط أو يفصل بين البحر الأحمر والمحيطين الهندي والأطلسي، لكي تتم السيطرة على ردود الفعل المحتملة في البلاد العربية المحيطة بفلسطين على عملية خلق الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين العربية.

والحقيقة أن «النكبة» لم تقتصر على فلسطين، بل هي شملت بتداعياتها كل المشرق العربي.
شواهد زمن القرصنة فوق ربى فلسطين وتلالها


وفي تلك الأيام ــ من زمن القرصنة ــ كانت رائحة البارود بدأت تفوح على ربى فلسطين وتلالها..وقبل أن تبدأ العمليات العسكرية بين الجيوش العربية والقوات اليهودية ليلة 15 مايو /آيار 1948 والتي توقفت بتوقيع الهدنة في رودس في شهر فبراير/ شباط 1949، كانت الشواهد والوقائع تشير إلى عناصر مساعدة لعبت دورها بالتآمر على حقوق الشعب الفلسطيني، وكانت البداية مع تمهيد الأرض العربية على خطوط معاهدة «سايكس ـ بيكو» ، وعبر مدى زمني تجاوز الثلاثين عاماً، شهد تطورات خطيرة تناولت الخريطة الجديدة لهذه المنطقة.

مؤامرة بريطانية


ولعبت سلطات الإنتداب البريطاني على فلسطين، دورا كان في صدارة العناصر والعوامل المساعدة، ولعبت دورها بتنسيق مواعيد إخلاء معسكراتها مع قوات الهاجاناه (قبل الموعد المحدد لانتهاء الانتداب يوم 14 مايو/ آيار 1948) والتي كانت تبادر باحتلال القواعد البريطانية، وقد مكنها ذلك ـ على سبيل المثال ـ من احتلال حيفا في ظرف أربع وعشرين ساعة.

كان للقوات البريطانية جدول أولويات له توقيتات لافتة للنظر، ذلك أن الجزء المقرر لليهود بمقتضى قرار التقسيم بدأ تسليمه لقوات الهاجاناه مبكرا، ومبكرا جدا في بعض الأحيان، حتى أن القوات البريطانية قامت بتسليم مناطق الجليل ابتداء من شهر مارس/ آذار، وأوائل شهر أبريل / نيسان، وأما فيما يتعلق بالجزء المخصص للعرب بمقتضى قرار التقسيم، فإن القوات البريطانية كانت تتمسك بالأمر والنهي فيه حتى الدقيقة الأخيرة من سريان موعد إنتهاء الإنتداب، ولا تسمح للقوات العربية درء أخطار قادمة.
الدول العربية تتقدم بخطى متثاقلة


وساعد على هذا الوضع ( أجواء النكبة) حقيقة أن الدول العربية كانت تتقدم نحو ساحات فلسطين بخطى متثاقلة، وبحسابات خاصة تختلف أكثر مما تتفق، وعوالق شك في النوايا، وقبل كل هذا لم تكن الجيوش العربية تملك فكرة واضحة عن القوة العسكرية للدولة اليهودية، ولا حتى فكرة واضحة تنسق إستراتيجية عملها في فلسطين، وربما كان أسوأ أو أطرف ما يعبر عن الموقف والإستعداد العسكري العربي قبل الحركة في ميادين القتال، هو ما حدث قبل أسبوع من بدء القتال، في واقعة كانت أكثر تعبيرا عن الحالة العربية العسكرية وقتئذ، وهي من العلامات المثيرة للتأمل رغم طرافتها المحزنة !!

كانت اللجنة العسكرية لجامعة الدول العربية تستعد لعقد إجتماع برئاسة اللواء العراقي «إسماعيل صفوت» باشا، الذي أسندت إليه القيادة العامة للجيوش العربية، وفي الصباح خرج «صفوت باشا» من فندق شبرد الذي يقيم فيه في القاهرة، ليتريض قبل أن يحضر الإجتماع، وبالقرب من الفندق وبجوار سور الأزبكية شاهد مجموعة صغيرة من المارة يلتفون حول رجل يلعب معهم لعبة «الثلاث ورقات» ووقف القائد العام للجيوش العربية يشاهد ما يجرى، ويبدو ان اللعبة أثارته فشارك فيها، وفي عشر دقائق كان قد خسر كل ما معه من نقود ـ 286 جنيها ـ ولم يكتف «صفوت» باشا بخسارة أمواله، وإنما دخل في مشادة مع لاعب «الثلاث ورقات» وصلت إلى قسم بوليس الأزبكية، وتعطل القائد العام للجيوش العربية عن حضور إجتماع اللجنة العسكرية، وحين وصل إليها متأخرا كانت تفاصيل حادثة النصب التي وقع ضحيتها قد سبقته إلى مقر الإجتماع !!

ودلالات الواقعة لم تكن بعيدة ـ بالطبع ـ عن المؤشرات المبكرة للنكبة العربية الكبرى في فلسطين !!
القدس في عين العاصفة


قبل أن ينتهي مشهد النكبة الكبرى، إستولى اليهود على القدس الجديدة ـ القسم الغربي من المدينة ـ وكان الفلسطينيون يملكون 40% من مبانيها، واليهود 26.12% أما بقية القدس الجديدة فكانت ملكا للدوائر الدينية والحكومية، ثم هاجم اليهود القدس القديمة «القسم الشرقي» فيما بين 14 و18 مايو/ آيار، ولكنهم فشلوا أمام صمود الفلسطينيين، حتى دخلها جيش الأردن في 19مايو / آيار، وبهذا توزعت القدس على قسمين: شرقي تحت السيادة الأردنية، وغربي تحتله إسرائيل.

وكان يوم 15 مايو/ آيار 1948 بداية سلسلة متواصلة من المخططات والمؤامرات تتسلق أسوار القدس، فامتلاك اليهود للقدس واتخاذها عاصمة لإسرائيل، هو سعى لامتلاك تاريخ فلسطين نفسها، فهي جغرافيا في قلب فلسطين ومركزها، وهي رابطة العقد لكل الطرق الممتدة في كل إتجاه على طول الأرض الفلسطينية وعرضها.
مولد «دولة الاحتلال»
ولم يسجل العام 1948 النكبة العربية الكبرى فقط، ولكنه تولى الإعلان عن أول سابقة في العالم، بمولد دولة بلا حدود أو ترسيم جغرافي لسلطاتها ونفوذها، بعقيدة أن الدولة تتمدد باستمرار مع مدى ما تصل إليه قوة جيشها !! ويقول المفكر الفرنسي «رجاء جارودي» في كتابه «فلسطين أرض الرسالات السماوية» إن السمتين الرئيسيتين للسياسة الإسرائيلية هما: العنصرية والتوسع..وأن المبدأ الأساسي الذي يربط إحداهما بالآخر، قد صاغه بكل وضوح « تيودور هرتزل»، والذي كتب يوم 8 أكتوبر/ تشرين أول 1898 : سألني الأمير «هو هنلوه» مستشار الإمبراطورية الألمانية، عن الأراضي التي ننوي الحصول عليها، هل ستكون إلى الشمال حتى بيروت، أم أبعد من ذلك ؟ قلت له: سوف نطلب ما نحتاج إليه، وكلما زاد المهاجرون يجب أن تزيد الأرض!!

بريطانيا خلقت «الوطن القومي ».. وأمريكا خلقت «الدولة اليهودية »!!



وكان من المستحيل منذ البداية أن يتحقق حلم الصهيونية إلا بالمساعدة الكاملة من قوى السيادة العالمية، ومن هنا التقت الإمبريالية العالمية مع الصهيونية لقاءا تاريخيا على طريق واحد هو طريق المصلحة الاستعمارية المتبادلة، وعلى هذا الطريق تحرك ارتباط الصهيونية بهذه القوى حسب تحرك مركز الثقل في زعامة الإمبريالية، فكانت بريطانيا هي التي خلقت «الوطن القومي» منذ الحرب العالمية الأولى، بينما خلقت الولايات المتحدة «الدولة اليهودية» منذ الحرب العالمية الثانية!!

تفاصيل المؤامرة البريطانية
كان حاييم وايزمان ـ رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، والرئيس الإسرائيلي في بداية تأسيس الدولة ـ أكثر وضوحا في تحديد المواقف والمقاصد، ورسم المشاهد الحية التي جرت ، وأجواء صناعتها ، وراحت كلماته تستكمل صورة للحقيقة تفصيلا بعد تفصيل ، في مذكراته التي نشرها في كتاب «التجربة والخطأ».. يقول وايزمان: لقد كان يجب أن تساعدنا دولة كبرى، وكان في العالم دولتان تستطيع كل منهما مساعدتنا : ألمانيا وبريطانيا .. أما ألمانيا فقد آثرت أن تبتعد عن كل تدخل. وأما بريطانيا فقد أحاطتنا بالرعاية والعطف. ولقد حدث في المؤتمر الصهيوني السادس الذي عقدناه في سويسرا ، أن وقف « هرتزل » يعلن يهود الدنيا أن بريطانيا العظمى، وبريطانيا العظمى (وحدها) دون كل دول الأرض، قد اعترفت باليهود كأمة ذات كيان مستقل، منفصلة عن غيرها، وأننا نحن اليهود خليقون بأن يكون لنا وطن، وبأن تكون لنا دولة!!

وثيقة الانتداب البريطاني في فلسطين


تنتقل صفحات مذكرات « حاييم وايزمان » إلى السنوات التالية ، ويقول: عدت إلى لندن في خريف سنة 1921، وكان الغرض من رجوعي أنني دعيت إلى لندن لأشرف على كتابة مشروع وثيقة الإنتداب البريطاني في فلسطين ، وكان يجب أن تعرض هذه المسودة على عصبة الأمم لتصدر بها قرارا ، وكان لورد « كيرزون » قد تولى وزارة الخارجية البريطانية ، بعد لورد بلفور، وكان هو المسئول عن وضع مشروع الوثيقة ، وكتبنا نحن في مشروع الوثيقة عبارة أردنا بها أن نقيد بريطانيا بوعد بلفور، وبأن تكون خطتها في فلسطين قائمة على أساس الوطن القومي لليهود، وكان نص العبارة التي كتبناها نحن «والإعتراف بحقوق اليهود التاريخية في فلسطين ».. وقال كيرزون أنه يقترح تخفيف العبارة حتى لايهيج العرب عند قراءتها ، وأنه يرى أن تكون كما يلي : «والاعتراف بصلات اليهود وعلاقتهم التاريخية في فلسطين » !!

وتلك بعض أوراق من صفحات التآمر على فلسطين…اعترافات ووثائق من زمن القرصنة الدولية..وصناعة كيان أطلقوا عليه اسما مستجدا «إسرائيل»، لم يكن له من قبل وجودا باي صفة!!






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات