الحريق السوداني ومخاوف الجيران!


جراسا -

ما يحدث في السودان لا يبقى في السودان. "لعبة الرصاص" هناك أكبر من صراع بين جنرالين على السلطة، صراع إقليمي ودولي على السودان نفسه، حريق لن يظل داخل حدوده، بل يحرق الجيران ومن وراءهم. بالتجربة التاريخية تتبع الحروب السودانية نسقاً معتاداً مروعا، مواجهات شرسة، في بدايتها يعتقد كل طرف أن الحظ حليفه، يتعهد بإحراز انتصار سريع، وبمرور الوقت تتكشف المأساة، زلزال مدمر تتجاوز ارتداداته الحدود إلى ساحة الإقليم برمته!

وضع حرج
اندلعت المعارك في السودان منتصف الشهر الماضي، وما زالت المواجهة الفوضوية بين قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، ومنافسه ونائبه الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع، صراع ألحق بالبلاد أضراراً جسيمة وقتل أبرياء ساقهم حظهم العاثر لأن يكونوا بين المطرقة والسندان، في حرب شوارع بالأسلحة الثقيلة، وفي ظل غياب الأمان والنقص الحاد في الخدمات والطعام والدواء. نزح كثيرون من الخرطوم إلى ولايات أخرى، أو فروا هاربين إلى دول الجوار، والخشية بالغة أن يتفكك السودان إلى "حدود الدم"، ترسمه دماء آلاف الضحايا، عبر الحروب الأهلية والإقليمية.

صحيح أن الجيش أعلن سيطرته على قواعد "الدعم السريع" في 16 من ولايات البلاد الـ18، كما تتوالى محاولات وقف إطلاق النار، عبر هدنة هشة تلو هدنة، لكن النزاع يتصاعد بشكل حرج، ينذر بتحوله إلى حرب أهلية، تستهدف المدنيين بناء على هوياتهم. يصف بعض المراقبين الحروب الأهلية بـ"المرقطة"، أطرافها منتشرون في بقاع البلاد كافة، بقع أمنية متناثرة، وبالتالي فإن لم يجر حسم عسكري أو حل دبلوماسي؛ فـ"البقع" هذه ستسعى إلى التواصل بين بعضها بعضاً، في حرب طويلة مثلما كان الوضع بين جنوب السودان وشماله، وبين شرق ليبيا وغربها، أي تصبح الحرب الأهلية "ستاتيكو متقطعا"، لا ينطفئ إلا ويعاود الاشتعال على نحو أشد وأخطر. بل قد تتحول الحرب، في واقع كهذا، إلى حرب إقليمية، وفقا لنظرية "الدومينو"، يمتد شررها إلى دول الجوار السبع: مصر وليبيا وتشاد وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى وإثيوبيا وإريتريا. وهي دول تعاني أزمات اقتصادية وسياسية وهشاشة أمنية عابرة للحدود؛ ناتجة من عدم الاستقرار الإقليمي.

على سبيل المثال وبعد انطلاق المواجهات بين الجيش السوداني والدعم السريع، حدثت اشتباكات بين قوات جنوب السودان وقوات "الجنجويد" القادمة من أفريقيا الوسطى باتجاه جنوب كردفان في السودان، بهدف مساندة قوات الدعم السريع التي تحاول السيطرة على مدينة جنينة عاصمة غرب دارفور، كمدخل للتوسع في كامل الإقليم. وبالمثل تحركت مجموعات من الميليشيات المتأسلمة من النيجر ومالي مروراً بتشاد، باتجاه شمال دارفور؛ ما قد يجعل تشاد نفسها ساحة لمواجهات، كما ترددت أنباء عن قيام قوات شرق ليبيا بإرسال تعزيزات عسكرية إلى "الدعم السريع".

أما إثيوبيا وإريتريا، فستتأثران بأحداث شرق السودان التي طغى عليها صوت معركة الخرطوم، فقد حذرت "مجموعة الأزمات الدولية" من تجدد المواجهات في الإقليم الذي يعاني التهميش الاقتصادي والسياسي. تدعم إثيوبيا "حميدتي" وقد انتهزت فرصة الصراع لإعادة توزيع قواتها على الحدود السودانية، لاستعادة الفشقة والقضارف عندما تحين الفرصة... وفي شمال السودان، تفيد التقارير أن "قوات محلية تنوي السيطرة على مطارات لجلب قوات خارجية"، وهذا بالطبع يدفع مصر للاهتمام بحدودها الجنوبية، كما أن الأعداد الكبيرة من اللاجئين المتدفقين عبر الحدود، خاصة إلى مصر وتشاد وجنوب السودان، تمثل أعباءَ إضافية ثقيلة للدول المستقبلة التي تخشى تدفق السلاح والمقاتلين والتهريب وموجات الهجرة غير المشروعة، في ظل مؤشرات إلى نشاط الحركات المتأسلمة (الميليشيات) مثل بوكو حرام، لاستعادة حيوية عملياتها المسلحة، في منطقة الساحل والصحراء من البوابة السودانية، في ليبيا وتشاد ومالي وبوركينا فاسو ونيجيريا وغيرها. تغتنم الجماعات الإرهابية فرصة الصراع السوداني وانشغال قوات الجيش عن الحدود بالحرب في الداخل.

صواعق التفجير
لدى حميدتي حلفاء يساندونه ولدى البرهان حلفاء يساندونه. اتهمت الصفحة الرسمية للجيش السوداني على منصات السوشيل ميديا أطرافاً إقليمية بالتورط في تقديم المساعدات لقوات الدعم السريع، في حين اتهمت تلك القوات أطرافاً أخرى بالتورط في تقديم المساعدات للجيش، ويتوقع أن تزيد المخاطر على حدود السودان مع جيرانه أمد الصراع؛ ما يخرج الأزمة عن إطار الحل الممكن، ويتعذر معه الوصول إلى سلام دائم.

إذا اندلعت النيران في منزل جارك يمكن أن تصلك ألسنة اللهب ما لم تبادر إلى إخمادها. يظهر استقراء الحرب السودانية وجود تأثير عميق للحرب على حالة "السيولة الإقليمية"؛ في ظل الخلافات الحدودية بين السودان وكل من إثيوبيا وجنوب السودان أو الخلافات على الموارد مثل قضية سد النهضة الإثيوبي، بالغة التعقيد والحساسية، كل منها "صاعق تفجير" يمكن أن يشعل الأوضاع في أي لحظة ولأهون سبب، إلى حرب أكبر مدى وأكثر اتساعاً.

لذا تحاول بعض القوى الإقليمية إطفاء نار الصراع في السودان، إذ يدرك الجميع أنه لو استمر أطراف الصراع على مبدأ "المباراة الصفرية"، فقد تنتقل الأوضاع إلى طور آخر من الصراع، كأننا أمام تكرار لحالة الفطرة الأولى التي تحدث عنها توماس هوبس في كتابه "التنين". إن التدخلات الإقليمية والدولية المتزايدة في الشأن السوداني تهدد السودان وجيرانه بعواقب وخيمة؛ برغم تأكيد الجانب السوداني بمكونيه المدني والعسكري رفض التدخل الخارجي، لكن التدخل حدث بالفعل، فقد قامت الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا بإجلاء رعاياها من البلاد، بمعونة قوات عسكرية، لاسيما من قواعدها في القرن الإفريقي والبحر الأحمر، ما ينقل رسالة إلى الداخل السوداني بأن عدم الاستقرار يؤدي إلى مزيد من التدخلات ومن دون استئذان؛ ويهدد ليس فقط أمن السودان بل الأمن القومي لدول الإقليم برمته؛ ومن ثمّ تنشغل دول جوار السودان العربية والإفريقية بتهدئة طرفي الصراع، لكن حتى الآن لم تتبلور رؤية واضحة تكفل الوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار.

سباق المبادرات
العلاقات الدولية والإقليمية ليست خطية، بل تتقاطع خلالها المصالح وتتوافق وتتفارق. والسودان بلد غني بالثروات ذو موقع استراتيجي في القرن الإفريقي والبحر الأحمر والشرق الأوسط، ما يجعل منه ساحة مصالح متضاربة لبعض الدول الإقليمية والقوى الكبرى؛ وقد يؤجج حدة الصراع ويطوعه لحساباتها. تختلف رؤى أميركا وروسيا والصين وإسرائيل وتركيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا إزاء السودان، كل منها يريده على مقاس مصالحه، هذا "الكباش" يؤخر إمكان حسم أي طرف للصراع بسهولة وفي وقت قصير.

أمام هذه البديهية، ينطلق سباق بين مبادرات سلام إقليمية، يستعجل العرب والأفارقة الوصول إلى تهدئة التصعيد واستئناف العملية السياسية وفق منهج جديد، يشمل توسيع قاعدة القوى السياسية، وتحقيق أكبر قدر من التوافق الوطني، وتشكيل حكومة مدنية، مع احتمالية إبعاد البرهان وحميدتي عن المسرح السياسي، وفرض عقوبات دولية عليهما في حال عرقلتهما انتقال البلاد نحو الحكم المدني الديموقراطي.

يتجرع الشعب السوداني مرارة الصراع بين الجنرالين، صراع دموي يتحول من أزمة إلى كارثة، ينذر بتفكيك السودان وتمزيق وحدته الترابية، ويهدد بانتقال الحرب إلى دول الإقليم، مع حضور القوى الكبرى بأطماع لا تنتهي. قديما قالوا: "الطغاة يجلبون الغزاة!".



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات