دردشة عن انحسار الأقبال على السينما


هل ماتت السينما كليا؟ هل انتهى عهدها من الحياة الترفيهية لإنساننا المعاصر؟ هل فقدت بريقها و رونقها و اصبحت مبانيها اما قديمة و مهجورة او على لائحة المباني التي يجب ازالتها عند الهيئات الحكومية، هل مع تَغَيُرْ مفاهيم الصناعة الترفيهية باتت تاريخ قديم لا يعرف عنها شيئ الجيل الحالي و لن يعرفها القادم و لن يعرف قيمتها؟ و هل ستنتهي كليا و تصبح موجودة فقط في صفحات التاريخ؟ ام هل السينما كيان يحتضر و يلتقط انفاسه الأخيرة و يمكن انعاشه قبل فوات الأوان؟

هذه الأسئلة ابتدا يطرحها نقاد كثيرون بمحاضراتهم و نداواتهم في مصر و في اكثر من مهرجان حول الوطن العربي منذ عقد من الزمن اذ شعر الكثيرون ان التحديات العصرية باتت اكثر مما تستطيع تحمله دور العرض، فلذلك شهدت دور العرض انخفاض ملحوظ بالإقبال مما تسبب بإنحفاض عددها بمصر عموما و انحسار وجودها فقط بالقاهرة*، فَتَضَمًنَ تقرير حديث للجهاز المركزي للتعبئة العامة و الإحصاء معلومات بينت انخفاض كبير بدور العرض في مصر بين سنة 2013 و 2016 و خلو 8 محافظات من دور العرض معظمها في الصعيد، فانخضفت في هذه الفترة من 269 الى 65 دار فقط، اي ان الإنخفاض كان بنسبة 75.8 بالمئة بالرغم من ارتفاع عدد المشاهدين في نفس الفترة من 7929 الى 10474، و يتبين لنا بالبراهين الثبويتة و الأحصاءات الرسمية تأثر السينما سلبا من المنافسة التي توفرها اساليب البث الحديثة، و سنمر على بعض منها بهذه المقال و كيف اثرت على هذه الصناعة و افقدت الجمهور الحماس لها و كم هي مهددة بالفعل من التطور الحديث لعالم المرئي و المسموع،

فبين عصر ذهبي شهدته هذه الصناعة الكلاسيكية ايام زمن الفن الجميل و التي صنعت لها نجوما خصيصا و بريقا راقيا لهم نشأ عنه و اسًسَ لمفهوم الفن السينمائي و الفنان، و نشأ عنها اعلام خاص لمتابعة اخبار السينما و اهلها، فانبثق منذ اولى افلامها الناطقة في اول عقد الثلاثنيات من القرن الماضي العلوم المختلفة بالإخراج السينمائي الذي كان يحاكي الإمكانيات المتاحة بذاك الوقت في مصر، و بين عصرنا الحالي بالوطن العربي الذي يشهد على انهيارها، تتوضح مشروعية الأسئلة التي تُطْرَحْ عن مستقبلها و ماذا سيحل بأمرها،

في حقيقة الأمر السينما شهدت تحديات هددت بإنخفاض جمهورها الكبير منذ عقد السبعينيات، فشهدت هذه الفترة تتطور تكنولوجي أسس لمفهوم الترفيه المنزلي home entertainment، فصدر في نوفمبر من عام 1975 من شركة سوني اول جهاز فيديو لأشرطة تسجيل مرئي و مسموع بإسم بيتاماكس Betamax في اميريكا، و كان مرفق معه جهاز تلفاز ملون قياس 19 بوصه، و هذه الأشرطة (او كاسيت) كانت عبارة عن عبوات بمواصفات 15.6x9.6x2.5 سم، و تحتوي على فيلم (مرئي و مسموع) بمواصافات 12.7مم، و بالرغم من انه اصغر حجما بكثير الا ان آلية عمل الكاسيت تشبه آلية عمل الرول السينمائي لجهاز العرض السينمائي من حيث انه يحتوى على بكرتين للف الفيلم، فمثلما يدخل الفيلم من جهاز العرض اثناء العرض بالسينما و يخرج من مكان آخر من الجهاز ليلتف على بكرة فارغة، كان داخل الكاسيت بكرتان صغيرتان، و يمكن لف الفيلم من و الى البكرتين و هو داخل جهاز الفيديو من خلال اوامر تقديم الفيلم او اعاده (ترجيع الفيلم الى بدايته)، فالذي يريد مشاهدة الفيلم يضغط على امر اعادة الفيلم الى نقطة البداية، انتشر من هذا الكاسيت عدة انواع وصلت مدت عرضها الى 5 ساعات، و مع انطلاق هذا الجهاز بالسوق ابتدأ عصر جديد من الترفيه لم تشهد له البشرية مثيلا من قبل، فانتشرت اشرطة البيتامكس و الفيديوهات بصورة كبيرة بأمريكا بالمنازل لينطلق في عام 1976 اشرطة مع فيديوهات منسافة لها من نوع VHS، و هذه الأحرف الإنجليزية هي اختصار Video Home System و تعني نظام الترفيه المنزلي، و هذه الأشرطة هي للشركة الصانعة Victor Company Japan و اطلقتها بأمريكا ايضا في نفس السنة، و دخلت هذه الشركات التي تحمل اجهزتها انظمة عرض منزلي متشابهة بمنافسة شرسة و كبيرة مع البيتاماكس الى ان استحوذت انظمة ال VHS ببلوغ عام 1980 على 60 بالمئة من سوق الولايات المتحدة الأمريكية، و اصبحت هي المسيطر على عصر الأشرطة المسجلة، انتشر مصطلح VCR في هذه الفترة ايضا و يعني Video Cassette Recorder و بالعربي مسجلات الأشرطة فهذا كان عصرها بأمتياز،

مع فَوْرَةْ هذه الأشرطة التي انتشرت بالبيوت انتشرت معها امكانيات تسجيل الأفلام الروائية و البرامج الترفيهية و المنسابات الإجتماعية بأنواعها في العالم، فبعد صدورها بمدة من قبل شركات الإنتاج اصبحت الأفلام الروائية الطويلة بمتناول الأسرة بالمنزل، فحتى لو شهدت اول صدورها مُدَدْ عرض زمنية بالسينما اصبحت العائلات لا تعتمد على الذهاب للسينما لرؤية كل فيلم جديد يصدر كما كان المعتاد، بل اصبحت تنتظر هذه الافلام حال انتشارها بمحلات تأجير الاشرطة التي باتت موجودة خلال الثمانينات و الستعينيات بوفرة بكل بلد حول العالم تقريبا، فمع صدور الأشرطة و الفيديو تجاريا تطورت معها لغة تجارة خاصة بها زادة من ريعها المادي و طورت من أساليب تسويقها، فدخلت ابعاد جديدة تجارية لتسويق الفيلم السينمائي، فالموزع لم يعد يعتمد على توزيع الفيلم بالسينما فحسب، بل اصبح يأخذ بعين الإعتبار امكانيات تسويقه تجاريا عن طريق توفيره ببلدان اصبحت تسجل آلآف النسخ منه عبر اشرطة الفيديو ليكون موجود بوفرة بالأسواقو و بالمنازل،

مما لا شك به ان هذه الحركة التجارية اثرت على جمهور السينما، فأصبح مشاهدت الفيلم ممكنا جدا بالمنازل و على اوقات فراغ الناس، فالرَيْع المادي اصبح اضخم للفيلم بهذه الفترة، و لكن مما لا شك به ان السينما تأثرت بنسبة مُعَيًنَة من هذه التكنولوجية، و بالرغم من ذلك بَقِيَتْ صامدة تتحدا هذه التجارة الضخمة الى ان اتتها ضربة قاضية آخرى بسبب تطور خصائص و امكانيات الحاسوب المنزلي و اللاب توب في النصف الأخير من فترة التعسينيات، و بلمحة سريعة حيث لا مجال لنا هنا للتوسع كثيرا بالشروحات لأن للموضوع تفرعات كثيرة، و لكن الحاسوب الشخصي المعروف بالإنجليزية بال PC اي ال Personal Computer كان موجودا تجاريا بوفرة منذ عصر الثمانينات و لكن امكانياته كانت محدودة و برمجياته كانت محدودة جدا، انا شخصيا اخذت دروسا في الصفوف المتوسطة في المدرسة التي كنت ادرس بها على جهاز Apple II GS حيث كان احدث جهاز بالسوق حينها و حيث وفرته شركة ابل للسوق في عام 1986، و كان مفخرة شركة ابل في ذاك العصر، درسنا عليه عمليات برمجة كطلاب كجزء من باب تعريفنا على ما كان يستجد بعالم الحواسيب، و أذكر تماما انه في عام 1992 و التي هي سنة تخرجي من المدرسة و مع تطور الحواسيب كان في مختبرنا اول اصدارات طابعات الليزر، و كانت لدى الطابعة الواحدة القدرة لتلقي امر طباعة من اكثر من حاسوب شخصي بمختبر الحاسوب بالمدرسة، قبل هذه الطابعات كانت الطابعات بطيئة لا توفر عامل السرعة المطلوبة للمراسلات التجارية، و لكن كان هذا العالم يشهد تطورات سريعة جدا، و كان مرفق مع هذه الأجهزة البدائية بالإضافة الى ذاكرتها الثابتة البسيطة في داخلها ذاكرة متنقلة توضع بالجهاز و تسحب منه اسمها قرص مرن او فلوبي دسك floppy disk 5.25 انش، و كان يتمتع بذاكرة اصافية بسيطة، و حتى حينما شهد الفلوبي تطورا طرحت شركات الحواسيب قرص مرن بسعة 1.44 ميغابايت فقط،

لم تنتشر هذه الأجهزة ببرمجيات و امكانيات كبيرة الا حينما ابتدأ عصر معالجات microprocessor البنتيوم لشركة إنتل Intel بالاسواق، فأصبحت عمليات الحاسوب اسرع، و ابتدأ عصر انتشار الحاسوب مع البنتيوم واحد او Pentium oneفي عام 1993حيث استطاعت الشركات الإستفادة منه بصورة كبيرة، و اصبحت الطابعات اسرع و ممكنة تجاريا اكثر، و اول حواسيب تضمنت محرك القرص المدمج او cd drive تم تصنيعها و شحنها في عام 1996 من قبل شركة فيجتسو، اما بأميركا فتم تداول الحواسيب مع محركات الأقراص المدمجة في عام 1997، و اتسوعبت هذه الحواسيب اقراص الDVD حيث كانت تستوعب كمية معلومات كبيرة، و من هنا و مع ثورة الإنترنت في الألفية و سرعة انتشار عالم المواقع الإلكترونية تلقت السينما الضربة التي فعليا هددت كينونتها، فإنتشرت تجارة الأفلام عبر الأقراص المدمجة، و مع الإنتشار الضخم للسي دي CD و تجارة الأفلام و حيث اصبح اقتناء الحواسيب بالشركات و المنازل سهل جدا، و مع تقدم امكانياتها، و مع انتشار اجهزة نشغيل السي دي او CD Player ايضا اصبحت السيطرة على سرعة انتنشار الأفلام صعبة جدا، فاصبحت تجارة مربحة حول العالم للجميع، و بناءا على سهولة اقتناء و مشاهدة الفيلم بالمنزل ابتدأت مع الألفية عصر انهيار دور العرض السينمائي، و الامر لم يتوقف عند هذا الحد، فهددت السينما كارثة كبيرة القت بظلالها على المنتيجين الذين حاولوا التمسك بها، فتطور مميتزات الهواتف الذكية مع انتهاء اول عقد من الألفية، و حيث اصبحت تتمتع بمميزات تسجيل مرئي و مسموع لساعات طويلة، و مع تطور ذكائها انتشرت ظاهرة نسجيل الفيلم السينمائي اثناء عرضه ثم بثه على قنوات و مواقع بصورة غير قانونية على الإنترنت، مما جعل الجمهور يفقدر حماس مشاهدت الفليم في دور العرض السينمائي،

و القشة التي كسرت ظهر الجَمَلْ كانت المنصات على الإنترنت و الإشتراكات التي توفر الترفيه المنزلي بأسعار رخيصة جدا، فتشتري هذه المنصات حقوق بث الأفلام و تعرضها لتثري مفهوم الترفيه المنزلي، بل اصبح من الممكن مشاهدت افلامها على أجهزة الموبايل الذكية، و على سبيل المثال لا الحصر بعض من هذه المنصات و الإشتراكات بي اي ان Bein و نتفلكس و شاهد، و بواقعية و مع كل أسف لا ارى متنفس للسينما لتحافظ على نفسها و دورها التقليدي بإبهار المشاهد بأجوائها المعتادة، انها تلتقط انفاسها الأخيرة و سط عدم الإكتراث لأمرها، فالترفيه المنزلي و التقدم التكنولوجي سرق جمهورها بلا رحة، بل انولدت عدة اجيال تربت على تكنولوجية الترفيه المنزلي و على الحاسوب و ما يوفر و على الإستمتاع بالمنصات و لا تعلم شيئ عن روعة دور العرض و تاريخها و كيف كانت يوما بالماضي ملتقى عشاق السينما و الدراما لعقود طويلة،

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، هل سنستيقظ يوما عما قريب لنتفاجئ باخبار خلو دور العرض من الزوار؟ هل مع نهاية عامنا الحالي ستنخفض دور العرض بالعالم العربي اكثر؟ هل سيؤثرهذا على مفهوم الإنتاج السينمائي و بالتالي على المهرجانات الفنية و السينمائية؟ هل سيأتي يوما ستنتهي بها المهراجات بمفهومها الحالي و ستتغير؟ هل سيكون العرض السينمائي لأفلام فقط بالمهرجانات ثم سيتم بيعها للسوق بصورة تجارية لعدم اقبال جماهيري على دور عرض؟ ربما الايام ستجيب هذه الأسئلة،






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات