حكاية من نسج الخيال



قبل أكثر من اثنين وثلاثين عاماً وفي عام 1990 بالتحديد قررت أن أشتري قطعة أرض مناسبة لأقيم عليها مسكني الخاص لإيواء أسرتي الصغيرة المكونة من ستة أفراد .... كنت حريصاً أن يكون موقع سكني قريباً من بيت العائلة الذي كان يضم والدي وإخوتي في إحدى مناطق عمان الشرقية ....

وقع الخيار على قطعة مساحتها قرابة أربعمائة متر مربع لا تبعد عن بيت أهلي سوى مئة متر تقريباً وبسعر لا يتجاوز ثمانية عشر ديناراً للمتر المربع الواحد .... كانت القطعة "عز الطلب" إكْوَيْسِه وإرْخَيْصَه وبنت ناس ... صفة واحدة فقط لم تعجبني فيها ... فقد كانت تقع في نهاية شارع غير نافذ ... كانت تغلقه عمارة قديمة من طابقين اثنين فقط ... تقع في وسطه تماماً وتفصله بشكل كامل عن الجزء الآخر الواقع في الجهة الثانية من الحي .... وقتها قال لي البائع الذي اشتريت منه القطعة بأن الشارع سيتم فتحه بعد هدم هذه العمارة خلال فترة أشهر قليلة فقط ...فقد قامت أمانة باستملاك العمارة وأصدرت اخطارات اخلاء لساكنيها ....

استبشرت خيراً واستكملت شراء قطعة الأرض وأقمت عليها البيت الذي سمحت به امكانياتي المادية في ذلك الوقت ....
مرت أشهر وتلتها أشهر أخرى ... ثم سنة واحدة فسنتين والشارع مغلق والعمارة مكانها ... وقد خطر لي ذات يوم بعدها أن أقوم بمراجعة المعنيين في أمانة عمان الكبرى للإستفسار عن موعد فتح الشارع ... يومها أبلغوني بأن الموضوع قيد الإجراء وبأن ذلك يتطلب المزيد من الوقت ...

لا أدري كيف علم سكان العمارة بزيارتي لمكاتب الأمانة... الأمر الذي أثار غضبهم الشديد ... لدرجة أنني شاهدت امرأة ذات ليلة تطل من أحد شبابيك العمارة المقابلة لنا وتيمم وجهها صوب بيتنا رافعة يديها إلى السماء داعية الله عزوجل أن ينتقم ممن يسعى لهدم عمارتهم وتشريدهم منها ....

لا أكتمكم فقد شعرت بالخوف الشديد ليس فقط من احتمال أن يصيبني دعاء تلك المرأة فالموضوع قديم وسابق لسكني ووجودي في المنطقة .... ولكنني خشيت أن يتعرض أحد سكان العمارة وهم من عائلة واحدة لي أو لأي من أفراد أسرتي بالسوء أو الضرر .... وقررت أن أهمل الموضوع وأتجاهله تماماً ... بل وأتجنب ما استطعت النظر صوب تلك العمارة ....

أذعنت للأمر الواقع بعد أن علمت بأن شخصاً متنفذاً في الحكومة تربطه صلة قربى بسكان العمارة قد أوقف تنفيذ قرار هدم العمارة رغم أن المخطط التنظيمي المصدق والنهائي يتطلب فتح الشارع .... وقد فقدت الأمل نهائياً بإمكانية فتح الشارع عندما قام سكانها لاحقاً بإنشاء طابق إضافي عليها ....

تتابعت السنوات تلو السنوات والشارع مغلق تعترضه العمارة إياها صامدة في مكانها كسور برلين الذي كان يفصل جزئي المدينة شرقها عن الغربي ... وقد قَرَرْتُ بعد ما يزيد عن العشرين عاماً أن أنتقل من منزلي إلى منزل أوسع في منطقة أخرى أقل ازدحاماً ... وأن أؤجر منزلي السابق إلى أسرة تقيم فيه وتحافظ عليه ....

بعد ذلك بحوالي خمس سنوات وبسبب تحسن الظروف المعيشية للأسر التي كانت تقطن في العمارة فقد قاموا بمراجعة أمانة عمان وأبلغوها برغبتهم بإخلاء العمارة والحصول على التعويض المقرر لهم ... وهكذا كان ...

عندها ولدى ملاحظة عدد من المجاورين بأن العمارة قد تم إخلاؤها فقد قام أحدهم بمراجعة المعنيين في الأمانة وأبلغهم بإعتراضه الشديد على هدم العمارة وفتح الشارع لأن إزالة العمارة سوف يؤدي إلى الإختلاط بسكان الجهة الثانية من الشارع وهي منطقة أكثر شعبية وأشد اكتظاظاً على حد زعمه ... وقد استطاع إيقاف إجراءات الأمانة التي كانت ستؤدي إلى هدم العمارة وفتح الشارع ....

بقيت العمارة خالية قرابة ثلاث سنوات تحولت خلالها إلى مكرهة صحية وبيئية ومنطقة تجمع للمشاكسين والأشرار والحيوانات الضالة ....
ولأن التغيير سمة حتمية وصيرورة تاريخية لا بد منها فقد قيض الله للمنطقة مدير جديد قرر أن يشرب حليب السباع ويهدم العمارة ويفتح الشارع وأن يتخذ قراراً فورياً بذلك ضارباً عرض الحائط باعتراضات المعترضين ...

وقد مررت بعدها ذات يوم من المنطقة فلم أصدق ما رأته عيناي .... فقد تمت إزالة جدار برلين أخيراً وتم هدم العمارة بعد انتظار طال أكثر من ثلاثة عقود .... وتغير شكل المنطقة بشكل جذري ...
وقد سارع مدير المنطقة بفتح الشارع ووضع طبقات البيس كورس ودحلها على أن يتم تعبيد الشارع بعدها بأيام أو أسابيع كحد أقصى ...

لم يتم للآن تعبيد الشارع الذي لا يتجاوز طوله ثلاثين متراً بالإسفلت برغم مرور قرابة سنتين اثنتين على إزالة العمارة ... فقد انتقل مدير المنطقة وحل مكانه مدير آخر ....

أفكر في حال تم تعبيد الشارع وهو أمر قادم لا محالة مهما طال الزمن أن أقوم بعمل جدارية ضخمة على سور منزلي تشرح بالكلمات والصور تاريخ هذا الجزء من الشارع ... وسوف أسعى لإستقطاب السائحين والزوار للقدوم إلى الموقع والإطلاع على تاريخه ... وكلي أمل وتفاؤل أن يقوم مبدعون في الشعر أو في الرسم أو الكتابة أو حتى الموسيقى بإنتاج أعمال تخلد هذه الملحمة التاريخية ... فما حصل لا يروي تاريخ شارع أو جزء صغير من شارع فقط ... فالحكاية بمعانيها ودلالاتها أكبر من ذلك بكثير .... أليس كذلك ؟؟؟



تعليقات القراء

عبود العكر
صدقت يا سيدي الفاضل الحكاية بمعانيها ودلالاتها اكبر من ذلك بكثير وهناك حالات كثيرة مشابهة.لاشخاص يعطلون مرور شارع تنظيمي في نهاية شارع مغلق...بالضبط كما في قصتك..وبطريقة بسيطة جدا....هي عدم ازالة الشيوع عن الارض التي يمتلكونها هم وشركاء اخرين مما يؤدي الى تعطيل شق الشارع وعدم تمديد خدمات اساسية مثل الصرف الصحي...بالاضافة الى حدوث مشاكل بين قاطني المنطقة بسبب ضيق الشارع...الموضوع بحاجة الى مسؤول شرب حليب السباع...ليتخذ زمام المبادرة
20-03-2023 11:08 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات