معركة السلام في اليمن!


جراسا -

يعيش اليمن منعطفاً جديداً في مسار كارثة الحرب والتمرد الحوثي القائم، ويطلق البعض على ذلك أنه حالة اللاسلم واللاحرب، وهو مصطلح بحاجة إلى إعادة ضبط.

فالحرب لم تتوقف عملياً، ولكن تراجعت المواجهات العسكرية الواسعة فقط، أما الجوانب الأخرى للحرب فقائمة.

الحرب السياسية والإعلامية والنفسية على أشدها وأبرزها تعزيز التشظي المجتمعي، وقتل الأمل لدى الناس.

ولا يزال الوضع المعيشي وحرب العملة على أشدها، فتمرد ميليشيات الحوثي الذي أعلن في أيلول (سبتمبر) 2014، لم يقتصر على ضرب مؤسسات الدولة الشرعية والتدمير العسكري ولكن عمد إلى ما هو أشد من ذلك عبر:

أولاً: خلق حالة تشظٍ مجتمعي مخيف سيعاني منه اليمن لعقود حتى إذا نجحت خطوات الحوار السياسي المنتظر وفق الوسطاء.

ثانياً: هذا الانقسام الممنهج في بناء جيل منقسم، وتقسيم المؤسسات والعملة الوطنية، وسيبقى التعافي من الضرر الاقتصادي بحاجة إلى وقفات ليست سهلة، ولا يجب أن تكون مجرد خطوات مرتجلة.
فهناك إفقار ممنهج يتم بشكل مفجع لكل نواحي الحياة وبناء المجتمع. والتحدي الأكبر أمامنا هو ما يجري من ضرب أسس السلام.

السلام لا يعني فقط في وقف المعارك العسكرية، بل هو عملية متكاملة من إعادة الأمان المجتمعي، وإعادة التوازن للإنسان اليمني الذي صار في أعماقه ألم وجرح غائر، وحالة خوف من الحاضر والآتي، وبالتالي فإن إطلاق عملية السلام أو وقف الحرب وإعادة الإعمار، تتطلب وقفتنا جميعاً في كيفية بناء البشر قبل الحجر. وتتطلب أن تكون قوة الدولة الحاملة لمشروع الوطن راجحة الكفة، قابضة على زمام المبادرة التي تعني إنهاء حالة الاختطاف القائمة للوطن.

لدينا جيل كامل اختطف تماماً في معارك الموت، يفتح عينيه على واقع عجيب ليس فيه مدرسة أو قيم تربوية سليمة، يتشرب كل يوم خطاب الكراهية والتشظي وتُغرس في أعماقه مفاهيم الخرافة والعداء لقيم العصر، ومحاط بمجتمع مرهق نفسياً، وذاك أكبر تحدٍ أمام معركة البناء والسلام.

ولدينا ميليشيا تريد إعادة ضبط التاريخ وليس فقط تدمير الحاضر، والأنكى محاولتها التي لا تتوقف لجعل اليمن منبتاً للتطرف.
إن معايير السلام لا تعني فقط وقف المواجهات العسكرية وإن كانت تلك خطوة أولى ذات أهمية، بقدر ما تعني الاستقرار الجماعي والفردي في المجتمع، بما في ذلك زوال المشاعر السلبية من خوف وتوتر وانعدام الأمل.

ما جرى ويجري في اليمن للأسف يفوق أزمة وسيط دولي، وأكبر من مجرد وقف المواجهات العسكرية، إلى كارثة تتعمق كل يوم عبر استمرار حرب مدمرة للنفس، تعزز حالة من الإحباط الواسع والممنهج يقتات على سوء الإدارة وانعدام القدوة، ويكبر بسبب تنوع الصراعات المحلية والإقليمية والمصالح الكبرى... الحرب قائمة على ضرب كل المُثل الإيجابية وتدمير القيم ونزع الثقة من كل شيء.

نعم، تدمير الروح مخيف وليس المواجهات العسكرية فقط، بل قتل الأمل وغياب المشروع الجامع للناس، أما مفردات الحرب والسلام فهي جزء من مشروع يقاتل الناس من أجله ويهدف لاستعادة وطن يراد له أن يتبخر بين ميليشيات فاقدة للعقل والانتماء.

ندرك أن معظم ذلك انعكاس للحرب الطويلة القائمة، ولكن عندما تتفرغ قوى بكاملها لنشر فوضى القيم والنيل من كل المُثل الإيجابية و"ترسيخ التفاهة"، فنحن أمام معركة أخرى تتجاوز طرق حلها مجرد توافق على وقف إطلاق نار بين متحاربين، إلى قضية مجتمع بحاجة إلى صفوة تعيد الاعتبار للعقل والضمير.

تلك معركة اليمنيين الكبرى بعد أن تتوقف مواجهات السلاح وهي ستتوقف حتماً، حتى لو عادت المواجهات العسكرية الواسعة خلال أيام كما تلوح نذرها في الأفق الآن، بسبب فشل ما تسمى مساعي السلام، وإصرار تجار الحروب من الميليشيا على الكارثة، وعجز المجتمع الدولي.

وأساس كل ذلك حقيقة واضحة هي أن ميليشيات الحوثي بحاجة إلى إعادة إشعال جبهات القتال بسرعة، كون ذلك مصدر عيشها، فهي بالسلام ستخضع لشروط لا تقوى عليها وأولها احترام القانون وإعادة الاعتبار لمؤسسات الدولة ووقف نهب المواطنين والكف عن امتهان كراماتهم، وهي لا يمكنها الخضوع لذلك، مثل كل ميليشيا، كما يصعب عليها أن تتحول إلى حزب سياسي، ولا يمكن لكل من كانت الحرب مصدر حياته التي يزدهر بها، أن يغدو دولة تقبل بالتنوع، والقبول بعدم احتكار السلطة والثروة.

لذا، فالحرب لها ضرورة وبحجة مواجهة عدوان خارجي، وهي حجة تبقيها دوماً، لتبقى قبضتها قابضة على أرواح الناس في صنعاء وضواحيها.
وبالتالي حتى تعود موازين القوى لصالح قوى الدولة القادرة على فرض السلام الحق والعادل، ستبقى دوامة هذا الدمار، وستستمر حروب ضرب أسس السلام، وأبرزها للأسف حرب تدمير جيل صاعد وخلق اضطراب نفسي مدمر حتماً هو أسوأ من أي قصف.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات