قراءة في سجل ميلاد «زعيم عربي استثنائي»


جراسا -

هناك مشاهد تظل عالقة في ذاكرة التاريخ، رغم مرور 105 أعوام على مولد طفل لرجل صعيدي بسيط يعمل في مصلحة البريد.. وبالطبع لم يكن أحد يعلم الغيب حتى يدرك أن هذا الطفل سوف يقوم بدور استثنائي عظيم يسنده إليه القدر، وإن كان الكاتبان الفرنسيان جاك دومال وماري لوروا، قد استشهدا بواقعة انفجار المظاهرات عام 1930 في مصر ضد دستور إسماعيل صدقي (رئيس الوزراء آنذاك)، حين وقع غلام لا يتجاوز عمره الثانية عشرة، تحت ضربات أحد رجال الشرطة فنهض من جديد وعاد إلى منزله والدماء تسيل من وجهه، كان اسم الغلام جمال عبد الناصر وهو على بعد أكثر من 1000 كيلو متر من قريته «بني مر» في صعيد مصر، وكانت الإشارة الأولى كما يرى جاك دومال وماري لوروا، لغلام يتسم بالحيوية والشهامة وبحرارة الدم المميزة لأهل الصعيد.

وهو نفس الشاب الذي أصبح رئيسا لمصر ويرسل خطابا إلى أستاذه في اللغة العربية محمد أحمد القوراني، يشكره فيه لدروسه في القومية العربية، وفي زمن لم تكن القومية المصرية تسير على خط متلاق مع القومية العربية.


وهي إشارات تاريخية، ترجمها فيما بعد أديب فرنسا الكبير أندريه مالرو، بالقول إن «عبد الناصر كان تجسيدا لأمته في مرحلة تحول هام، وكان وسوف يبقى لسنوات لا نستطيع من الآن أن نرى مداها، تجسيدا في الحياة لمصر والأمة العربية».. وحين تجسد موعد التاريخ في صورة شاب ـ 34 سنة ـ يقود ثورة الضباط الأحرار، ويصبح رئيسا لمصر، بدأت رياح التغيير تهب على العالم العربي، ولم يعد منطقة يمكن أن يتخذ بشأنها القرارات في خارجها ، كما كان، وحتى لو حدث كان الرجل يحبط كل محاولة في مهدها، ويقلب الطاولة على المشاركين ومن بينهم أطراف عربية، كان هواها غربيا !!





ربما كان الشخص الوحيد الذي استشرف مبكرا جدا الموعد مع القدر، هو الحاج حسين خليل، والذي كان يعتقد أن حفيده جمال، سوف يكون له شأن آخر في بر مصر، وأذكر ما قاله الحاج طه حسين عم الزعيم الراحل، ونحن في ضيافته بقرية بني مر، إن والده كان شديد التعلق بجمال «حفيده»، وحين نقل والده عبد الناصر إلى مكتب بريد أسيوط في عام 1921 وبقي في القرية أكثر من عامين، لم يفارق جمال جده الذي تنبأ له بـ «مستقبل ذي شأن خطير»، كان جمال ابن الثالثة من عمره تقريبا وقتئذ، وكان الجميع يتصور أن تنبؤات «الجد» هي من فرط حبه لحفيده، ولكنه يقول لأبنائه: تذكروا ما أقوله بعد رحيلي..وصدقت تنبؤات الرجل الطيب.



كانت مصر على موعد مع القدر، وهي تعاني ظلما وقهرا، وسوء توزيع لثروات الوطن، وغياب للعدالة الاجتماعية، وقد بلغت نسبة الفقر والأمية 90% من أبناء الشعب المصرى، ومعدلات المرض حققت أرقامــا قياسية حتى أن 45% من المصريين كانوا مصابين بالبلهارسيا، وغيرها من مختلف الأمراض التى تنتج عن سوء التغذية، وكانت نسبة المعدمين من سكان الريف 80% من جملة السكان عام 1952.. وكان المشروع القومي وقتئذ هو «القضاء على الحفاء» فغالبية الشعب المصري من الحفاة وخاصة في الأرياف والأقاليم، وكانت نسبة البطالة بين الـمصريين 46% من تعداد الشعب، فى الوقت الذى كان يعمل فيه الغالبية فى وظائف دنيا ــ سُعاة وفراشين ــ وكانت آخـر ميزانية للدولة عام 1952 تظهــر عجزًا قــدره 39 مليون جنيه، فى حين كانت مخصصات الاستثمار فى المشروعات الجديدة طبقـًـا للميزانية سواء بواسطة الدولة أو القطاع الخاص صفرًا، فقد كان الاقتصاد المصرى متخلفــا وتابعا للاحتـكارات الرأسمالية الأجنبية، يسيطر عليه بضع عشرات، أو مئات على أقصى تقدير !!.

كانت تلك أبرز ملامح الصورة لمصر حين تولي الشاب جمال عبد الناصر ـ 34 سنة ـ مسؤولية إنقاذ الوطن، وكانت الأمة العربية، ومن الساحل إلى الساحل، من شواطىء البحار وحتى حواف الرمال، في حالة أسوأ من الغياب، ثم كان موعد الأمة مع القدر، حين أعطى الشاب أمته يقينا متجددا بأنها موجودة، وأعطى لهذا اليقين المتجدد بالوجود حركته التاريخية ، وأنجز بهذه الحركة مهاما كبيرة على أرضها وحول أرضها وفي العالم.


لم تحظَ شخصية وطنية أو قيادة شعبية في تاريخ مصر الحديث بقدر من الجدل والاهتمام مثلما حظيت شخصية جمال عبد الناصر، وظل يحظى بجماهيرية غير مسبوقة، وشعبية جارفة حتى بين الجيل الذي لم يعاصره، ونُسبت إليه بطولات وأمجاد، ونُسجت حوله روايات تصل إلى حد الأساطير، حتى صار وكأنه أحد أبطال التراث الشعبي، لا في وجدان المصريين فحسب، وإنما في وعي ووجدان الأمة العربية على امتداد أقطارها من الخليج إلى المحيط، ليظل دائما الغائب الحاضر

ولذلك لا يزال الرجل متفردا بزعامته في وجدان الأمة، وأن يتحرك خاطرا يحوم حولها كل يوم، والأمة تنعي حاضرها، وهي تطل على مشاهد الدم العربي والنار، وكل ما يدبر ويخطط لها من «سيناريو التدمير والاستنزاف»، وكان «فجا» في العراق، و«وقحا» في سوريا، و«موجعا» في ليبيا واليمن، وأشد مكرا وخبثا في فلسطين.

مسيرة حياته
ولد جمال عبد الناصر، في حي باكوس الشعبي بالإسكندرية، لأسرة متوسطة الحال تنتمي إلى قرية بني مر بمحافظة أسيوط في صعيد مصر، وانتقل في مرحلة التعليم الأولية بين العديد من المدارس الابتدائية، حيث كان والده دائم التنقل بحكم وظيفته في مصلحة البريد، فأنهى دراسته الابتدائية في قرية الخطاطبة إحدى قرى دلتا مصر، ثم سافر إلى القاهرة لاستكمال دراسته الثانوية، فحصل على شهادة البكالوريا من مدرسة النهضة الثانوية بحي الظاهر بالقاهرة في عام 1937، وبدأ عبد الناصر حياته العسكرية وهو في التاسعة عشرة من عمره، فحاول الالتحاق بالكلية الحربية، لكن محاولته باءت بالفشل، فاختار دراسة القانون في كلية الحقوق بجامعة فؤاد (القاهرة حاليا)، وحينما أعلنت الكلية الحربية عن قبولها دفعة استثنائية تقدم بأوراقه ونجح هذه المرة، وتخرج فيها برتبة ملازم ثان في يوليو 1938.

عمل جمال عبد الناصر في الوحدة العسكرية بمنطقة منقباد بصعيد مصر فور تخرجه في الكلية الحربية، ثم انتقل عام 1939 إلى السودان ورُقي إلى رتبة ملازم أول، بعدها عمل في منطقة العلمين بالصحراء الغربية ورُقي إلى رتبة يوزباشي (نقيب) في سبتمبر/ أيلول 1942 وتولى قيادة أركان إحدى الفرق العسكرية العاملة هناك، وفي العام التالي انتدب للتدريس في الكلية الحربية، وظل بها ثلاث سنوات إلى أن التحق بكلية أركان حرب وتخرج فيها في 12 مايو/ آيار 1948، وظل بكلية أركان حرب إلى أن قام مع مجموعة من الضباط الأحرار بثورة يوليو.


شارك في حرب فلسطين 1948 خاصة في أسدود ونجبا والفالوجا، وكانت الهزيمة العربية وقيام دولة إسرائيل دافعا لعبد الناصر وزملائه الضباط للقيام بثورة 23 يوليو/ تموز 1952، وكانت القومية العربية الهاجس الكبير لدي الزعيم جمال عبد الناصر، وقد أصدر خلال حياته السياسية العديد من القرارات الهامة، كان أبرزها تأميم قناة السويس عام 1956، وإعلان الوحدة مع سوريا عام 1958، ومساندته حركات التحرر العربية والافريقية.

وبعد هزيمة 1967 اهتم عبد الناصر بإعادة بناء القوات المسلحة المصرية، ودخل في حرب استنزاف مع إسرائيل عام 1968، وكان من أبرز أعماله في تلك الفترة بناء شبكة صواريخ الدفاع الجوين وإعداد ااجيش المصري لخوض معركة التحرير في العام 1973، وكان مقدرا لها موعد 1971، ولكنه رحل قبل تحقيق الحلم الوطني والقومي الذي عمل من أجله طوال ست سنوات.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات