بيت البيدر المسكون .. الجزء الثالث


نظرت ستيفاني مسحراتي الى الرسالة التي اتتها من طلال حمادة على هاتفها المحمول، كان هاتفها على النظام الصامت و لكن اهتز فجأة و هو على الطاولة امامها في مجلس النواب، التقطته و النائب رائد صليبا يقف عند منصة الحديث في المجلس يدلي برأيه حول الفلتان الجمكري الذي اصاب الموانئ مؤخرا، قرأت مبتسمة "اتمنا لكِ نهارا سعيدا مليئا بالإنجازات الطيبة، احبك، الشمس لن تشرق في عالم حبي لكِ لو لم اقلها لك في كل يوم،" اجابته و قلبها يفيض بمشاعر الحب الصادقة له و الإمتنان لكلماته "يا ضياء عيناي، انا احبك ايضا، بعد الجلسة سأتصل بك، و هل نستطيع تناول طعام الغذاء بعد غد الأحد، في مطعم الريفيرا،"
ارتفع صوت النائب رائد و هو يقول "ان الدولة تكبد ت خسائر كبيرة من جراء المحسوبيات بالموانئ و التهرب من دفع حقوق لها بالنسبة للبضائع الواردة الى البلد، فهنالك رجال فلان و رجال فلان و لا وجود لرجال الدولة في المرافئ، يُزَوِرونَ اوارق الشحنات و كمياتها التي تدخل البلد و هذا امر لا يمكن السكوت عنه و يحتاج الى رقابة من الجهات المسؤلة لمكافحة الفساد،" فجأة صرخ النائب شارل خوري المناصر لحزب ايلي حبيقة "هذه اتهامات باطلة و تحتاج الى ادلة ثبوتية تسندها،"
صرخ رئيس مجلس النواب ليث بيضون "سيد شارل لا يحق لك التكلم من دون إذن! رجاءا التزم الهدوء!"
صرخ نائب آخر "سيد ليث الإدعاءات بحاجة لأوارق ثبوتية،"
كرر ليث بيضون "هدوء من فضلكم، اكمل سيد رائد و لكن ألفت انتباهك ان اسناد التهم من دون ادلة ثبوتية سيعرضك للمسائلة القانونية،"
اجاب رائد "شكرا معالي الرئيس، انا لم اكمل كلامي، فبأكثر من مناسبة اطًلَعتُ على حركات المواد الواردة من خلال المرافئ اللبنانية للسنة الماضية لأتفاجئ ان الكميات البضائع الخاضعة للجمارك نسبة الى دخل الدولة من حركة هذا الوارد اقل من المفترض، لأتسائل عن ماذا يجري بخصوص هذا الأمر، و اطلب من الجهات الرقابية التدخل فورا و تدقيق العمل الاداري بالمرفئ لنتأكد من ان حركة الوارد يتم معالجتها وفق للقانون و وفقا للأصول، عندي سجلات وافية اتتني من مصادر موثوقة استطيع موافات الجهات الأمنية بها، كما انني اتسال عن كيف تدخل البلاد كميات من المواد الغذائية تصنفها المختبرات الصحية بأنها صالحة للأستهلاك البشري و بعض حالات التسمم التي سجلت بالمستشفيات في بيروت تتبين انها للحوم فاسدة و مواد غذايئة فاسدة كالدجاج المجمد، تجار اللحوم الواردة الى لبنان معروفين، لن اقول اكثر، شكرا لكم معالي الرئيس،"
غادر رائد منصة الحديث لتنطلق تمتمات في مجلس النواب لم يفهم منها شيئ، طالب ليث بصوت مرتفع "الهدوء ايها الزملاء الكرام، السيدة ستيفاني مسحراتي، الكلمة لك الآن،"
نهضت ستيفاني من مكانها و بيدها بعض من الأوارق، سارت من مكانها تجاه منصة الحديث، نظر اليها ايلي حبيقة و هي تسير في الممر ببعض التوتر ثم قال للنائب طارق سماحة الذي كان يجلس بجانبه "كلها طلقات بالهواء، لن يستطيعون اثبات شيئ علينا، ارسلت لك رسالة على الموبايل منذ قليل، طالعها،"
اجاب طارق "يريدون ان يجدوا عملا لأنفسهم كنواب، يهاجموننا حينما يريدون اقناع الشارع اللبناني انهم يعملون، اصبح المرفئ مكسر عصا للذي يريد اثبات نفسه انه يحارب الفساد، لا عليك يا ايلي،" امسك هاتفه و قرأ "وصلني التأكيد على موعد وصول باخرة النفايات الكيميائية الآن، ستصل الى مرفئ بيروت اليوم ليلا، الرجاء التصرف بالحاوية التي ستفرغها على ارض الميناء فورا،" رد طارق على ايلي برسالة "سيتم التخلص منها سريعا برميها في البحر، سيكون هذا عبر اكثر من شاطئ في لبنان،"
قرأ ايلي رسالة و ستيفاني تستهل حديثها "بسم الله الرحمن الرحيم، و الصلاة و السلام على سيد المرسلين سيدنا محمد و على آله و صحبه اجمعين،" انطلقت همسات للصلاة على النبي من اكثر من شخص بالبرلمان، فأكملت ستيفاني "ابدأ كلمتي بأمنياتي لكم بصيام مقبول حيث ان صيام الشهر الفضيل قريب منا طالبا من الله ان يكون شهر بركات على لبنان بكافة ربوعه العامرة، زملائي النواب الكرام..."
"الثانية ليلا مناسب لتحميل الحاويات التي تحتوي على النفايات، و مثل دائما المرابح من هذه العملية بالتناصف بيني و بينك،"
اكملت ستيفاني "مع الأسف احمل اليكم بعض البراهين للجرائم التي نوه عنها زميلي رائد صليبا في مرفئ بيروت، ففي اواخر اب من عام 2022 وصلت الباخرة حورية المحيطات التابعة لخطوط ان سي أس الإيطالية، و اسمها الكامل الوطنية لخدمات البحرية، و هي محملة بالحاويات الى مرفئ بيوت، اي منذ تقريبا شهرين من الآن، و كان جزء من جمولتها يخص شركات لبنانية و هذا مثبت من اوراق بوالص الشحن البحرية التي حصلت عليها لرحلتها في تاريخ 20 اب لعام 2022، حيث وصلت الباخرة الى ميناء مبرفئ بيروت في تمام الثانية عشرة و النصف ظهرا، و تم تفريغ ما يقارب مائة حاوية من حمولتها الكبيرة حيث كانت هذه الحاويات تشحن لصالح اكثر من شركة استيراد و تصدير لبنانية، و كانت حمولة الباخرة التي وصلتنا متنوعة جدا، فمنها ما هو أَرُزْ و معلبات و مواد تموينية و منظفات لشركات سجلها موجود عندي، و منها مع الأسف معلبات للحوم و ابقار و دجاج قاربت على الإنتهاء، و لكنها دخلت بالرغم من هذا الأمر الى الأسواق اللبنانية، و معي بوالص الشحص" امسكت ستيفاني رزمة من الأوراق و اشهرتها امام النواب، ثم اكملت " و بالرغم من التاريخ الموجود على العلب الا ان بعد وصول هذه الشحنات ببضعة ايام دخلت الى الستشفيات قي بيروت في تاريخ الثلاثن و الواحد و الثلاثين من شهر اب حالات تسمم بالعشرات، و جيمع الفحوصات المخبرية افادت انها جميعها جراء تناول لحوم معلبة فاسدة،"
وقف النائب سطيفان عبود و صرخ بوجه ستيفاني "لا تضيعي وقتنا بإدعاءات كاذبة، فانت و رائد تتهمون كوادر مرافقنا زورا بالتقصير من دون ادلة ثبوتية،"
صرخت ستيفاني بوجه سطيفان قائلة "ايها النائب الفاضل حينما طلبت من ادارة المرفئ اوراق هذه الباخرة لم تتعاون معي بشيئ، و مازلت انتظر منهم الأوارق منذ شهرين، و قد حصلت على بوالص الشحن الرئيسية من قبل علاقات خاصة في ايطاليا، حيث تبين ان للشركة المتحدة اللبنانية التي يملكها زميل نائب لنا حاويات معلبات على الباخره، لا أتهمه مباشرة بشئ و لكن اطلب بتحويل الأوراق التي بين يدي للمكاتب الأمنية للتحقيق بها، و المثير للجدل ان مصدر معلبات المتحدة شركة مواد غذائية ايطالية تاريخها مشبوه و في ملفها قضايا توزيع معلبات لبلدان افريقية اتهمت حينها انها غير صالحة للإستهلاك البشري، و تسببت بوفيات في بلد افريقي،"
صرخ النائب اسطيفان "اخرسي، المتحدة شركة محترمة و صاحبها اشرف منك و من امثالك،"
صرخ ليث "اهدء سعادة النائب، من حق النائب ستيفاني تقديم ما لديها و من حق المجلس الإطلاع عليها ايضا،"
نظرت ستيفاني الى مقعد ايلي حبيقه، كان صامتا ينظر اليها و علامات الصدمة مرسومة على وجهه، ابتسمت و اكملت "سيد ليث اطلب من مجلس البرلمان الموافقة على تحويل ادارة شركة السيد ايلي حبيقة الى التحقيق بقضية التسمم في آخر شهر اب، كما اطالب بتجريده من حصانته ليتم التحقيق معه بهذه القضية،"
فجأة نهض ايلي و غادر قاعة البرلمان وسط زوبعة تمتمات من النواب الحاضرين،
قال ليث "هدوء من فضلكم، هدوء، ست ستيفاني اؤجل النظر بهذا الملف الى الجلسة القادمة و سننظر بأمر احالة المتحدة و اوراق هذه القضية الى الأمن اللبناني،" اكمل ليث "النائب حازم الحلو فاليتفضل بقول كلمته"
سار ايلي داخل مبنى مجلس البرلمان اللبناني و الغضب يغلي بعروقه لما سمع من ستيفاني بكلمتها، كان يعلم انها إمرأة ذكية و قوية و تتمتع بعلاقات نافذة و لكن لم يتصور يوما ان تستطيع الوصول الى ما وصلت اليه من معلومات و فضح تجارته بهذا الأسلوب، شعر بضيقة كبيرة تجتاح صدره و بضيق تنفس، فارخى ربطة عنقه و خلع سترة البذلة التي كان يرتديها، تسارعت اليه كايمرات الفضائيات لأخذ اوقاله و لكنه اعتذر منها و اتجه نحو مدخل مجلس البرلمان ينتظر سائقه ليجلب له سيارته، التقط هاتفه النقال و كتب رسالة الى منيب "انتظرك في المكتب لنتباحث برد مناسب لرائد و ستيفاني على تصريحاتهم اليوم،"

نظر النائب سليمان كرم الى ايلي و هو يخرج غاضبا من مجلس النواب، كان قد غادر الجلسة للحديث بهاتفه الخلوي حيث اتته مكالمة دولية هامة لم يستطيع تأجيلها، كان يتوقع اندلاع هذه المواجهات بين اعضاء الأحزاب المختلفة خصوصا مع سطوة ايلي على المرفئ و و الستهيلات التي كان يعطيها للشركات مقابل رشاوي كان يتقاضاها هو و كادر المرفئ، و لكن لم يتوقع ان يكون هجوم ستيفاني شرسا عليه الى هذه الدرجة، فمع ما بثه الإعلام لمجريات جلسة اليوم بات اللبنانيون على يقين ان حالات التسمم قد يكون هو المسؤل عنها، و لكن في كل الظروف كان لا بد له ان ينفذ ما كان ينتظر فهجوم ستيفاني اليوم كان هدية من القدر له لن تتكرر، فما كان سيقوم به سيقرب البعيد الذي كان ينتظره، التقط هاتفه المحمول و كتب لساعده الأيمن بحزبه، "اريد لطلال حمادة خطيب النائب ستيفاني ان يصوم شهر رمضان و هو في احضانم ابراهيم بأقرب فرصة ممكنه، اريد ان اسمع خبره في الصحف اللبانية،" قال في ذاته "با باي ايلي حبيقه،"
*****************************************
(بعد يومين - الأحد)
نظرت ليلى الى التلاميذ في الفصل امامها، كانت على وشك البدء بحصة علوم لولا اوقفتها لبضعة ثواني فوضى عارمة اجتاحت المكان فجأة، فكان بعض من التلاميذ في الصف الأول منهمكين بمطالعة هاتف ذكي كان مع احدهم، بينما انهمك ثلاثة تلاميذ آخرين في زاوية من زوايا الفصل بالحديث حول حفلة كان سيقيمها احدهم في منزله، لم تفهم كل الحديث فضاع بعضه وسط التمتمات و الفوضى حولها و لكن فهمت من النقاش الدائر ان كل المدعوين سيطلب منهم اصطحاب رفيقة للحفلة، ابتسمت قليلا للفكرة فكان احد الطلاب معجب بواحده اسمها باميلا، كانت بعض من الطالبات بجهة ثانية بالفصل منهمكات بمطالعة كتاب العلوم فكن يتجادلن حول اسئلة الإمتحان القادم، انطلقت تمتمات كثيرة من حولها فشعرت ليلى و كأنها مسامير تَدُقُ في راسها، فكانت تعاني من صداع قوي منذ الصباح الباكر، و لكن كانت تعلم ان الظروف الشخصية مشكلتها هي و ليست مشكلة الطلاب، فتحملت ما كان يدور في الفصل قدر ما استطاعت، امسكت مسطرة خشب طويلة كانت على طاولتها امام الفصل و ضربتها بضعة مرات لتستقطب انتباه الطلاب، فجأة هدء الفصل قليلا و نظر الطلاب اليها، ابتسمت لهم رغم الصداع التي كانت تشعر به و وضعت كتبها على الطاولة، كانت الوجوه كلها تترقب لما ستقول،
قالت للطلاب "يا جيل المستقبل الافاضل اهكذا يكون النظام؟ اهكذا يكون احترام المعلم؟ المفروض انه لحظة دخول المعلم عليكم ان تسكتوا احتراما له و ان تعطوه انتباهكم،
رفع احد الطلاب يده، فقالت ليلى "تفضل يا طارق،"
قال لها "مادموزيل (آنسة) هل لكِ لو سمحت بمراجعة وحدة التمثيل الضوئي للأوراق و النباتات لنا، هنالك بعض النقاط التي لم افهمها،"
قال جابي "اذا كنت غبي فهذه مشكلتك،"
وبخته ليلى قائلة "عيب يا جابي ان تصف زميلك بالغباء، و بما انك فطحل زمانك، سأزيد امتحانك انت فقط سؤالين فسيكون تسعة اسئلة بدل سبعة، هيا لنرى شطارتك يا فطحل،"
ضحك الفصل على جابي بينما توترت تعابير وجهه، فقال لها مترجيا "لو سمحت يا مادموزيل، لم اقصد، سبعة اسئلة تكفي،"
"هذه عقوبة من لا يحترم زملائه في الفصل يا جابي،"
"حسن، انا اسف،"
قالت ليلى بنبرة آمرة "سيغطي الإمتحان الفصلين الأول و الثاني فقط، و سيكون من خمس و ثلاثون علامة اي خمسة علامات لكل سؤال، و سيغطي وحدة التمثيل الضوئي و وحدة اجزاء الخلية كاملة،"
رفعت احدا الطالبات يدها، فأمرتها ليلى قائلة "تفضلي يا داليا،"
وقفت لها و قالت "هل نستطيع استخدام الكتب؟"
"لماذا وقفتِ يا داليا؟"
"احتراما لك مادموزيل،"
"ارايتم احترام المعلم و المعلمة، شكرا لك يا داليا، تفضلي بالجلوس، لم اطلب هذا منك ولكنك طالبة مهذبة، فكرت في امر الكتب و لكن وصلت لقرار نهائي، سيكون من غيرها، اريدكم ان تدرسوا بِجِدْ و نشاط، الامتحانات التي يستخدم فيها الكتب تجعلكم تتكلون على الطرق البسيطة و السهلة بالدراسة، هذا سيضر بكم كثيرا، اريدكم ان تستعدوا جيدا للأمتحان و ان تدرسوا،"
رفع يده طالبا آخر، فقالت ليلى "تفضل يا هاني"
"هل لك بمراجعة شاملة للدروس التي سيشملها الإمتحان؟ هذا سيساعدنا كثيرا،"
"حاضر يا هاني، ستكون حصة اليوم و الغد للذي عنده اسئلة حول الوحدات،"
فجأة انتبهت ليلى الى طوني، فكان يجلس هادئا على درجه و كأنه في عالم آخر غير عالمهم، اقتربت منه ليلى و لكنه كان سارح بالهواء امامه، نظرت الى شعره الأسود فلاحظت وجود بعض من الشعر الأبيض به، تذكرت انها لم تراه بشعره من قبل، امسكت شعره بيدها و قالت له بهدوء "و انت يا طوني،"
فجأة تنبه الى ان المعلمة تقف بجانبه فقال "ماذا هنالك؟ و لماذا تمسيكن شعري؟"
"لا شيئ، لاحظت وجود بعض من الشعر الابيض براسك، و لاحظت انك لا تركز معنا بالحصة، هل انت على ما يرام؟ هل انت مريض او تشعر بتعب؟"
"انا اسف، انا بصحة جيدة،" امسك شعره قائلا "شعري كله اسود، هذا ما اعرفه،"
سارت ليلى نحو مقدمة الصف بين الطلبة و هي تقول "هل درست للإمتحان؟"
اجاب "انا درست جيدا، اسئليتي ما شئتٍ؟"
"ممتاز يا طوني؟"
مال نحوه جابي، فكان يجلس بجانبه و قال "ان لم تساعدني بالأسئلة فسالقنك درسا قاسيا،"
قالت ليلى بغضب "هدوء بالفصل، لماذا تتكلم يا جابي من دون اذن؟"
"كنت اقول لطوني..."
"قل له ما شئت بعد الفصل، ماذا و إلا سأعطيك صفر بالإمتحان،"
فجأة رفع طوني يده، قالت له ليلى "تفضل يا طوني،"
سألها "مادموزيل هل تؤمنين بوجود الأشباح؟"
نظرت ليلى اليه بإستغراب من سؤاله، فلم تكون تتوقعه إطلاقا، قالت له "قطعا لا، هذه اساطير لم يتم اثبات صحتها علميا إطلاقا، و لماذا هذا السؤال،"
****************************************
كان مطعم الريفيرا من اشهر المطاعم العريقة في بيروت، و كان يقع بين قطعة جميلة من شواطئ لبنان الذهبية و بين شارع رئيسي في منطقة جبيل، فكان يحتل اربعة دونومات من شواطئ هذه المدينة السياحية العريقة، كان هنالك المجمع الرئيسي الذي يضم المطعم بطابقيه، و كان هنالك امامه مَصَفٌ فسيح للسيارات يتسع لمئتي سيارة يقوم بتنظيم الحركة به موظفون اكفاء لهذه الغاية، كان المطعم معروف باطباقه الإيطالية الشهية و زواره الذين يأتونه من جميع انحاء بيروت و ضواحيها، فكانوا من ابرز العائلات الثرية حيث عرف ايضا بأسعاره الغالية و خدمته المميزه، فكان من بين زوراه عدد من رؤساء سابقين للجمهورية و مستثميرين بارزين و سياسين و مشاهير معروفين لدى الشارع اللبناني، لذلك لم يخلو الأمر ايضا من تواجد للصحافة من الحين للآخر حيث كانت تلمع فلاشات الكاميرات فجأة و الفنانين يتناولون طعام الغذاء او العشاء على طاولاتهم، و لم يخلو الأمر ايضا من المشادات حيث كان يشكو عدد منهم من مطاردت الصحافة لهم، فكان تاريخ المطعم حافل بهذه المواجهات التي كانت تتحول الى مشادات عنيفة احيانا، فزادت ادارة المطعم الكادر الأمني لديها ليتعامل مع هذه الحالات حين حدوثها،

جلست ستيفاني مسحراتي على طاولة لشخصين في زاية من زواية المطعم تطل على الشاطئ، اختارت هذه الطاولة خصيصا لأن خطيبها كان يحب منظر البحر، و لأنها كانت الطاولة التي جلسا عليها منذ ستة اشهر حين صارحها بعواطفه و حبه لها، كانت تتذكر هذه اللحظات الرومنسية جيدا، فبعد ان التقت به بحفل ساهر بفيلا لأصدقاء لها بمناسبة اجتماعية لاحظت انه كان ينظر لها نظرات خاصة طيلة وقت الحفل، كانت ستيفاني بطبيعتها انيقة جدا فكانت ترتدي ثوب انيق اشترته في السنة التي قبلها حينما زارت فرنسا لحضور حفل اطلاق دار للأزياء لموسمها الشتوي، كانت الدار لأصدقاء لها فاهتموا بامر الثوب و اطلقوا عليه بعض التعديلات ليناسبها فبدت كأميره بالحفل بتلك الليلة، كان ثوب طويل سكني اللون ذو فتحة تصل الى منتصف ساقها، و كانت تغطيه من الخصر الى اسفله كسرات بالقماس تعطي لاحة امواج انيقة كلما سارت او استدارت بمسيرها، و كانت ترتدي نعل عالي سكني اللون اتى كطقم مع الثوب و كانت بيدها حقيبة خمرية اللون، كان الثوب دي كولتي حيث بزر جزء من صدرها فاخترات ان تغطيه بشال خمري كان يلف كتفيها و يغطي جزء من صدرها، اختارت ان تترك شعرها الاسود بتلك الليلة يناسب حول كتفيها، فكان بطبيعته طويلا يصل الى منتصف ظهرها،

انتبهت لنظراته رغم انه حاول ان يخفيها، فكان يتبعها حيثما ذهبت على تيراس الفيلا الكبير، فكان الحفل مقام على تيراس تحيط به جديقة جميلة جدا، كان يراقبها و يراقب كل خطوة تأخذها و كأنه جن جنونه بها منذ النظرة الأولى، فكان لديها معارف كثيرة و كانت تتنقل من مجموعة لآخرى تسامر جميع الموجودين، فكانت كرئيسة حزب ذات شعبية كبيرة و شخصية يشاهدها بالإعلام الجميع من حين لآخر، لم تسلم من السلام على الناس فكان الجيمع يناديها و يطلب رفقتها بالحفل الذي شهد حضور نخبة من ألمع العائلات اللبنانية، إنْقَضَتْ الأوقات السعيدة بسرعة و عادت الى منزلها و هي منهكة القوة بساعة متأخرة من الليل، و لكن لم يغب عن نظرها نظرات طلال الراغبة لها، فشعرت بحدس داخلي يقول لها انه سيتصل بها في الايام القليلة القادمة،

اتاها الرد سريعا في الصباح التالي، فارسل لها باقة ورود صغيرة و لكن جميلة جدا مع دلفري من محل للورود، كانت لا تزال تذكر رائحتها الفواحة، كان معها بطاقة مكتوب عليها "تشرفت بمعرفتك بالحفل، ارجوك ان تقبلي مني باقة الورد هذه الجميلة و دعوتي لك للغذاء معا اليوم،" صدمت من عرض طلال، فكان صاحب مجموعة شركات تعمل بالإستيراد و التصدير و كان من اكبر اثرياء بيروت، كان رجل انيق و وسيما جدا و شعرت برغبة بالتقرب منه، فشعرت بشيئ تجاهه بعد حديثهما بالحفل، كانت تذكر حينها جيدا انها لم تتمالك نفسها حينما التقت عينيها بعينيه، و كأنه قدر اقوى منها كان يحركها فامسكت هاتفها الخلوي و طلبت الرقم الموجود على البطاقة، حتى لم تفكر بما يجب ان تقوله فكان قلبها يحثها على الحديث معه، ابتدأت علاقتها به منذ تلك اللحظات وتاولت لقاءاتهما الى ان دقت قلوبهما اكثر لبعض، فاعترف لها بعد فقط عدة لقاءات بحبه لها، و كان هذا في الريفيرا...حيث غازلت كلماته لها هدير امواج البحر التي كانت تداعب رمال الشط الذهبية...حيث انتظرته اليوم،

فجأة استيقظت من شلال الذكريات الذي اخذها لبضعة دقائق، ارتفعت من جديد تمتمات الناس في اذنيها، نظرت الى ساعة يدها، كانت تشير الى الثانية ظهرا، تأخر عليها ساعة كاملة بغير عادته فكانت بالعادة مواعيده دقيقة جدا، نظرت حولها في المطعم الذي كان يعج بالناس لعلها تلمحه و هو يدخل عليه، او يسير بإتجاه طاولتها، لم تراه وسط الوجوه و الناس الذين انتشروا على الطاولات من حولها، كانت هنالك عائلة تهم بالخروج من المطعم، و كانت هنالك آخرى تقترب من طاولة كانت على مقربة منها، سارت بعض من النُدُل بين الطاولات لتخدم من يطلبها، و لكن كان لا أثر لخطيبها، التقطت هاتفها لتطلب طلال للمرة الرابعة، وضعت الهاتف على اذنها، اعطاها الرد الآلي انه خارج نطاق الخدمة، كلمها منذ نصف ساعىة و اعتذر على تأخره و اكد لها انه قادم، و لكن لم تسمع صوته بعدها فاصبح هاتفه خارج نطاق الخدمة، شكت ان السببب ربما هاتفها فاحبت ان تتأكد، كان في ركن من اركان المطعم بار للمشروب و كان يضيف الناس خلف الكاونتر به نادل كان يخدمها من حين لآخر بالمطعم، نهضت عن الطاولة و اقتربت من البار، قابلها النادل بإبتسامة صادقة مربحا بها "السيدة سيتفاني كيف حالك،"
اجابته مبتسمة "انا بخير و الحمدلله يا احمد، كيف حالك انت،"
اجاب "باأف خير و الحمدلله، تفضلي كيف لي ان اساعدك؟"
"اتصل بخطيبي طلال منذ نسف ساعة و لكن هاتفه خارج نطاق الخدمة، نحن على موعد هنا، هل لي بالمحاولة من هتافك؟"
"تحت امرك، رقم السيد طلال عندي، يتصل بي من وقت لآخر لأدبر له حجوزات الطاولات لضيوف شركته، سأتصل به،"
اخذ هاتفه من جيبه و طلب رقم طلال، فجأة لفت انتباه ستيفاني التلفاز فوق البار، كانت فضائية بيروت تي في تبث مشاهد مباشرة لحريق كبير بأحد المجمعات التجارية في جونيه، شعرت و كأنها تعرف المكان فابتعدت قليلا عن الكاونتر و تمعنت بالحريق الهائل الدائر في الطابق الأرضي للمجمع، كانت سيارات الإطفاء تملأ المكان و كانت الخراطيم الكبيرة ترش المياه على المجمع بمحاولة للسيطرة على الحريق، انتشر بالمشهد الدرك و سيارات الإسعاف و الجيش، اخذت من على الكاوتنر جهاز التحكم عن بعد و رفعت الصوت قليلا، ارتفعت بالاجواء في المطعم صوت الصفارات و صراخ الناس بالشارع و الفوضى ، فجأة تجمدت الدماء بعروقها، تابعت بصدمة عنيفة الكلمات بالبنط العريض التي كتبت تحت المشاهد "انفجار مقر ادارة المجموعة الماسية للإستراد و التصدير بجونيه، و انباء عن وفاة طلال حمادة و عدد من موظفين الشركة داخل المبنى،" دمعت عيناي ستيفاني و عصف بها الهلع و الخوف و هي تنظر الى الكارثة التي ألَمًتْ بجونيه، فجأة انتقلت الكاميرا الى مذيعة كانت تقف على مقربة من الحريق و ابتدأت بالشرح عن الحادث، قالت المذيعة "انفجار ضخم هز منطقة جونيه في الساعة الواحدة و النصف حيث افاد شهود عيان انه حدث فجأة بعد ان رأوا سيارة للشركة الوطنية لخدمة البريد السريع تصطف في مصف السيارات قبالة الشركة، و على ما يبدو ان ترجل منها شخص اوصل طردا للشركة ثم هم بالخروج منها بالسيارة، و بعدها بخمسة دقائق سمع الناس بالأسواق و المحال المحيطة صوت دوي انفجار هائل دمر مقر الشركة الماسية، حيث اندلع الحريق التي تحاول كوادر الإطفائية السيطرة عليه امامنا بالمشهد، و على ما يبدو من شهود العيان و السيارات التي دمرت في المصف امام الشركة فإن معظم الموظفين كانوا في داخلها مع مالك الشركة طلال حمداه..."

نظر اليها احمد و تعابير الحزن ترتسم على وجهه، قال "الهاتف خارج نطاق التغطية،"
فجأة انطلقت من ستيفاني صرخة مدوية هزت المطعم بأكمله، نظر اليها الناس في المطعم و هي تصرخ بجنون "يا حبيبي!!! قتلوك يا حبيبي!!! يا حبيب قلبي!!!" توالت صرخات ستيفاني الموجوعة فأسرع اليها عدد من ضيوف المطعم مع احمد بمحاولة للمواساتها، حاولوا الإمساك بها و تهدئتها الا انها انتفضت و تلوت بين ايديهم و هي تصرخ "يا اولاد الكلب!!! قتلوا خطيبي!!!" نظر بعض الذين تجمهروا حول ستيفاني على الأخبار بصدمة عنيفة، قال بعضهم ضاربين كف بكف "لا حول و لا قوت الا باللهّ!!! متى سيتركوا اولاد الكلب هذه البلد لنرتاح من سفالتهم!ّ!!"
اجلسوا قوم من الناس ستيفاني على طاولة قريبة منهم و هي تصرخ بصورة هيستيريا "قتلوك يا حبيبي!!! انا السبب!!! لم يخطر ببالي ان يفعلوها!!! اااخخخ يا امي!!! يا حبيبي!!! كنا على وشك الزواج و اعلان تاريخ زفافنا!!!"
قال بعض الواقفين حول ستيفاني "تقوي بالرحمن! انت مؤمنة بالله! رحمهم الله! هم قديسون بجنة الرحمن! لا حول و لا قوة الا بالله!" اكمل الجمع بالمطعم مشاهدة ما تبثه المحطة و هم يستنكرون بشدة ما كان يحصل......يتبع
**********************************
سار سعيد منصور في الشارع الرئيسي في عين ابل و الترقب يملئ كيانه، فآخر مرة سار بنفس الشارع كانت منذ سنين طويلة، عادت اليه ذكريات كثيرة و هو يسير به يستنشق هواء الصباح البارد المشبع بندى الطبيعة و رائحة الغابات من حوله، كم انعش صدره هواء القرية الصافي بعد ان عاش سنين طويلة بمدن الغربة المشبعة بالتلوث و ضجيج الشوارع، قضى سنين طويلة من حياته بالعمل بالتجارة و بالإستيراد و التصدير المضني و السفر و الترحال، فزار مدن كثيرة و عاش بعدد آخر منها حيث فرض عليه عمله، ابتدأ غربته و هو شاب بالعشرينات من العمر و الشعر الأسود يكسو رأسه، فكان ممتلاً بالحيوية و النشاط و الصحة فجاش صدره بالرغبة في تحقيق الأحلام الجميلة جينها، عبرت به ايام شقاء مُرًةٍ قضاها بالعمل المتواصل، و المؤلم بالموضوع انه كان يمر في بلاده ضيفا لبضعة اسابيع ثم يعود الى معسكر العمل في بلاد الخارج...و لكن كان يتذكر دائما بأنه في كل مرة اشتهى بصدق ان يستقر في دياره، كانت عين ابل حلم عابر في وجدانه حرمته قسوة الحروب و المشاكل السياسية من السكن به، كانت رائحة تربته و غاباته الجميلة كالبخور المقدس تنعش حواسه في ذكريات لم تبارح وجدانه اطلاقا، و بالرغم من قراره اخيرا الإستقرار في بلاده، هل سيحمل له القدر بلبنان الراحة بعد العناء و التعب، سار و الأسئلة تتوالى في ذهنه، فالغد مجهول و لكن اليقين الحالي كان يريحه، فهذه ديار والديه و اجداده، كان في قرارة نفسه مقتنع انه القرار الصائب، و لكن لبنان ما كان مستقرا بعد،

اخيرا وصل الى المجمع الذي كان يمتلكه والده، ابتسم للمكان فلم يتغير به شيئ...الا المحلات التي كانت مغلقة حاليا، و لكن لون الدهان عليها... ابوابها... المزراب الذي يمتد من سطح المجمع الصغير الى الشارع في الاسفل لتجري به مياه الأمطار، فكان لا يزال يعمل...فقطرت منه بعض المياه و هو يتأمل المكان، كان والده يجلس في طفولته على كرسي و بجانبه طاولة و عليها فنجان قهوته، سارت بعض السيارات في الشارع امامه ثم هدء المكان، فكان لا يزال الوقت مبركا، وضع مفتاحه بقفل باب محل والده، واداره بضعة مرات ثم رفع الباب عاليا، دخل نور الصباح الى المحل و اضاء عتمته، وقف سعيد على عتبة الباب و فتح فاه من الصدمة...يتبع



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات