مقابر إلكترونية


عُدتُ منذ مدةٍ الى إستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بعد إنقطاع دام لأكثر من ستِ سنوات، ولاحظتُ الكثير من التغيُّرات فيها، كإرتقاء لغة البعض، وتجنُب المشادّات والنقاشات الحادة، وكذلك في طبيعة المنشورات التي ينشُرها الأصدقاء، وهي في أغلبها تطورات إيجابية ومحمودة.

إلا أن أكثر ما لفت إنتباهي هو تعددُ منشورات التعزية في الوفاة أو الإعلان عنها، فأكادُ أجزمُ بأنني قد قرأت أكثر من 400 منشور إعلانٍ عن وفاةٍ أو تعزيةٍ في يوم واحدٍ، وعند التدقيقِ في التفاصيل؛ وجدتُ أنها تخُص أربع أو خمس أشخاص إنتقلوا الى رحمة الله تعالى، أي بمعدل 80 الى 100 منشور لكل حالة وفاة، وهو رقمٌ كبير ٌجداً، حوّلَ وسائل التواصل الاجتماعي في نظر الكثير من الناس الى مقابر إلكترونية.

وجدتُ أن إخوان المتوفى، وأولاده، وأقاربه، وجيرانه، وأنسباءه، وزملاءه؛ يضعون منشورات الإعلان والتعزية، كلٌ على حِدة، في حين من الممكن أن يضع أحد أولاده أو إخوانه منشوراً، ويكتفي البقية بالتعليق عليه، أو مشاركته كحدِ أقصى.

ومن جهة أخرى؛ لا يكفُّ البعضُ عن تذكير نفسه والآخرين بالأحزان والموتى رحمهم الله، فيذكِّر ُالجميع بالذكرى الأسبوعيةِ لوفاة المرحوم بإذن الله، والذكرى الشهرية، والنصف سنوية، والسنوية، ومما يلفت الإنتباه أن أحدهم قد وضع منشوراً يذكَّرنا فيه باليوبيل الذهبي لوفاة جده، أي مرور خمسين عاماً على وفاته رحمه الله، وقد أعتبر ُهذا الشخص من النوع العِظاميّ، الذي يفتخر دائماً بأجداده الذين لم يبقَ منهم إلا عِظاماً بالية.

طبعاً ذكرُ الموت والموتى مناسبٌ وجيدٌ للإعتبار والإتعاض، والخوف من لحظة مفارقة الدنيا، وبالتالي يدعونا للإقبال على الحسنات والهروب من السيئات، ولكن الأسلوب المتَّبع في منشورات مواقع التواصل الإجتماعي مخالفٌ للسنة النبوية الشريفة في تخصيص أيام محددةٍ للعزاء والحِداد، وبعدها يعودُ الناسُ الى حياتهم الطبيعية، ويتذكرون ميتهم بالبرِ والصدقةِ والدعاءِ، وليس بتذكير الناس بتاريخ وفاته بين الحين والآخر، وقد تجد أن الوقت المستخدم لكتابة المنشور قد يكفي للدعاء للميت ويزيد.

قد يبررُ البعضُ تعدُّد منشوراتِ الوفاة والتعزية على حسابه بأنه نوعٌ من أنواع التواصلِ مع الآخرين، وآداء الواجبات الاجتماعية، وهو تصرف محمودٌ، وله بالغُ الأثر الإيجابيّ في نفوسِ الناسِ طبعاً، ولكن؛ لماذا لا أجدُ نفس العدد من التهاني والتبريكات في أفراح الخِطبة والزواج والنجاح والتخرج وغيرها على صفحته؟ أم أن نشاطه الاجتماعي يقتصر على الأتراح فقط؟

من وجهة نظري أجدُ أنَّ اللجوء الى أسلوبٍ كهذا قد يرجِعُ الى الإفلاس الثقافي، وعدم القدرة على مجاراة الناس من حوله في المنشورات، ويجد منشورات التعزية الجاهزة التي من الممكن أن يملأ بها الفراغ الثقافي لصفحته على موقع التواصل، هذا من جهة؛ ومن جهة أخر، يجدها طريقة لإثبات وجوده للجميع بين الحين والآخر.

أما التفسير الذي أتمنى ألا ينطبق على أحد، فهو أن البعض قد يستغل خبر الوفاة أو الإعلان عنها بقصدِ جمع أكبر عدد من الإعجاباتِ والتعليقاتِ في ظل هوس الناس بها، لأن الناس تتعاطف مع هذا النوع من المنشورات، ولا تتجاهلها عادةً، وهذا مما سمعته بنفسي في أحدِ بيوت العزاء؛ حين تباهى أحدُهم بأن التعليق على منشوره قد تجاوز جميع الحاضرين.

خلاصة القول:
إن آداء الواجب الاجتماعيّ في حال الوفاةِ يتمثّلُ بحضور الصلاة على الميت والدفن، للشفاعةِ للميت والدعاء له وكسبِ الحسنات، ومن الجيدِ طبعاً إستخدامُ التكنولوجيا في الإعلانِ عن الوفاة من خلال منشورٍ أو إثنين، وتحديدِ أوقات الدفن والعزاء ومكانهما.

إنّ تغوّل عمليات النفاق الاجتماعي ووصولها الى صفحات التواصل في التعزية لا يمتُ للدين بصِلة، بل من الممكن الإكتفاءُ بالكتابة على صفحة صاحب العلاقة وتعزيته، أو إرسالِ رسالةٍ له أو الإتصال به، ولا يوجد داعٍ لهذا كله في حال حضورِ الصلاة على الميت ودفنه.

تذكروا دائماً: "إنما الأعمال بالنيات"، فمن كان يرجو الحسنات من تعزيته بالمتوفى، فليحرص على الصلاة والدفن ومن لم يتمكّن فليكنْ عمله خالصاً لوجه الله الكريم، ويبتغي به الثواب من الله تعالى فقط، وينأى بنفسه عن جميع شُبُهات النفاقِ العلني عبر صفحاتِ مواقع التواصل الاجتماعي، ويحولها الى مقابر إلكترونية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات