من حكاوى الرحيل إتْرُكْها لِلْصُدَفْ



قبل ان ألتَقيها كنتُ قد سمعتُ عنها الكثير. وقرأتُ لها وعنها الأكثر.عصرَ يومٍ ذهبتُ إلى لقاءها في دارتِها، المُطِلَّةِ ببذخٍ على مشارفِ فلسطينَ المحتلة . كنتً قبل أنْ أُدْخَلَ إليها قد وقَفتً في بهوِ بيتِها، متأملاً لوحةً زيتيةً ضخمةً لها، تُزيِّنُ صدرَ البهوً. بَهوٌكلُّ ما فيه يَشي بِبَحبوحةٍ، تليقُ بالكثيرِ مِمَّا كنتُ قد سمِعتْ.
شدَّني في اللوحةِ وجهٌ صبوحُ، تُزَيِّنُه شامةُ أنيقةٌ، تتربعُ على يسارِ الشّفةِ العليا، وغمازةٌ في صحنِ الخدِّ الأيمن. وإنتبهتُ إلى حَزَنٍ نبيلٍ يشوبه. حَزَنٌ تُجيدُهُ العينان وكلُّ تضاريسِ الوجه. تتجسدُ أحرفُه على الشفتين وفي سواد العينين. كِدتُ أنْ أمدّ كَفِّي لإلتقاطِ شئٍ من الحَزَنِ أمامي لوضوحِهِ، وخوفي عليهِ من التساقُطِ أرضاً، لولا أن جاء من يطلبُ مني مُرافَقَتَهُ إلى حيثُ تَجْلِسْ.
ما أن دخَلْتُ صومَعتَها حتى صدَمني جمالها الطاغي، فأنكسر نظري عنها بإتجاه الفراغ الذي بيننا. سألتني مُستغربةُ لماذا أنظرُ إلى أسفلٍ ؟ تهرَّبتُ مُتَأتِأ بما لَمْ أتبين، ثم ، بلسانٍ فصيحٍ استكملت ما بَسْمَلَتْ به تأتآتي قائلا : مع هذا الجمال يا سيدتي لا ينفع قول. فهو مما لابد أن تراه لتسمع حكاويه.
كانت قويّةَ الشخصيّةِ وطاغيةَ الحضور، غيّرتْ جلْسَتها وإنتَصَبَتْ، وقالت بنبرةٍ مُحَيِّرَةٍ : قالوا أنَّكَ خَطِرٌ، إلا أنَّك على ما يبدو أكثرَ مما قالوا. لذا سأتولى بنفسي مقارَعَتَك.
قبل أن أغادِرَ مَدّت لي بطاقةً عليها عنوان، وحددت لي ساعة. وعندما وصَلْتُ في اليوم التالي إلى هناك، وجدتُها في منظرٍ لا يمكن أن أنساه، بهيةً مُترفةً بأُنوثةٍ مُتزنة، واقفة بِنُبلٍ لا تُخطؤه عين بصير، تنتظرني تحت ظلال أشجارٍ مُتعانِقةٍ من السَّرْوٍ ومن الخروب والبلوط. صَعَدَتْ إلى سيارتي، أدرتُ المحرك، ومع صوتِه تناهى إلينا من المذياع صوت الست تُكملُ ما ابتدأت من رائعتِها شمسُ الأصيل، وسألتها مُبتسما: إلى أين تُريدينا أن نذهبْ ؟
قالت: أُخْرُج بِنا من المدينة، إذا أردتَ أنْ تستمتع فلا تُخطط، إترُكْها لِلصُّدَف.
إستمرّ التلقي، وتواصَلَتْ جُرُعات الإدمانِ المُتَمَدِّدِ. كنا نخرج معا في سيارتها، بغرض الفُسحة دون أن أسألها إلى أين، مُلتَزِماً بِناموسِها: إتركها للصدف. مكثْتُ في أطُرِها، تعرفْتُ على كلّ مُقيمٍ فيها وعابر. أصْبَحْنا لِساناً وشَفَتَيْن دون أن يحصلَ ما لا يليق.
تَتزاحمُ عليّ الذكريات، ولم أعُدْ أعرفُ من أين ابدأ، ولا أين أقف، في الأقصر، في النيل والغردقه ،أمْ في وادي شعيب وظلال توتِه ، او في طلة الفحيص البهية ، أُمْ قيس في عليائِها ، أوقرية المخيبة المُرْخِيَةِ شيئا من جدائلها فيما تبقى من مياه نهر الأردن المُتَصَحِّر؟! كلها أماكنٌ لها وقعٌ غير عادي. كلما مررتُ بأيٍّ منها تأخذني إليها، أقف فيها عِزَّةً وتُقى، لا تُخَيَبُ ظني، فهي ما تزال ترتل الكثير من هواجس لُغتنا.
في عالمٍ يَتغير مع كل دقةِ ساعةٍ، تتزاحمُ الذكريات ومداعباتُها، فلا أعود أميز الأقرب مني أو إليها. ومع ذلك لم يدر بِخَلَدي يوماً أنني سأتعرض لإنكسارٍ أفظعَ من رحيلٍ، إعتصرَ البعضَ بَمرارةِ سَيْروراتِه.
مع كلِّ نورٍ، عَتمةٌ كان أو ضِياء، أعود اليها في سرير الشفاء، فتتزاحم عليّ آهاتها وآهاني، فلا أعود عارفاً أين أقف. أنظرُإلى ضفافِ عينيها الحزينتين ، أدلفُ في معارج صراعها مع المرض اللعين، يهب علي الأسى ويغمرني وجعها، فيتزاحمُ خليطُ آهاتنا مُتضرعا للشافي المعافي ، سائلا لها الشفاء التام والعاجل، فالله سبحانه قريب ولا مثيل لقربه، يجيب دعوة الداعي.
الاردن – 4/6/2022



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات