شهيد البئر



وكأنَّ الأرض جُنّتْ حُبّاً به ، فقطعتْ كلّ دِلاء الدمع الدانية من يده ، وكأنَّ الأرض جداريّة أبصرتْ دالية نورٍ في دمه ، وكأنَّ الأرض صدر أمٍّ تنفّس الورد من فمه ، وكأنَّ شقوق البئر نقوش في كفّ والده ، برفقٍ إلى يديّ الله ترفعه ، وكأنَّ حفرة البئر أُخيّةً له تارةً يطعمها وتارةً تطعمه ، وكأنَّ المستديرين فوقه "رفاق الحي" عند نافذة غرفته ، وكأنَّ صخرة البئر قطعة من وسادته ، وكأنَّ الأرض إستسقت الله فسقاها إبريق ماء من يده ، عزاؤنا يا بُنيّ أنّ وحشة البئر لا تعلو على أُنس رحمته .

خمسة أيام يا بُنيّ ، وأنا أهرب من صورك كجنديّ عربيّ فرَّ من المعركة ، وأتوارى عن الأخبار العاجلة كطفل يختبئ تحت سريره ، وأختبئ من خبراء الجيولوجيا و رجال الإنقاذ ، وكأنّني أحد سماسرة الدم الذي تاجروا ببئرك ، فنحن العرب لسنا إخوة إلّا "على يوسف" وكلّ واحد منّا هو قاتلك ، خمسة أيام ونحن نحاول أن ننقذ أنفسنا منك ، وأن نلتقط أشلائنا من بئرك ، و أن ننجو بأيدينا الكبيرة من يدك الصغيرة ، وأن نهرب بأصواتنا الثقيلة من أنينك الخفيف ، فشلت كلّ المحاولات في إنقاذنا منك ، فتركتنا عُراةً أمام ضعفنا وعجزنا. خمسة أيام يا بُنيّ ، وظلمة بئرك ونور غرفتي خيانة ، وبرد ترابك ودفئ أريكتي خيانة ، وضيق رئتك وسعة رئتي خيانة ، ودمع دمائك ودُمى أطفالي خيانة ، وبكاء أهلك وصوت أحبّتي خيانة.

قتلناك يا بُنيّ منذُ أصبحنا أمّةً تحتاج العالم ليساعدها على "حفر بئر" ، منذ أن عجزنا عن إطعامك " قطعة سكر" تبقيك على قيد الحياة ، منذ أن سمحنا لأنظمتنا العربيٌة أن تُجهّلنا وتجوّعنا وتمزّقنا وتجعلنا في قاع بئر الأمم ، منذُ أن سمحنا لها أن تسرق نفطنا وخبزنا وقمحنا ، منذُ أن سمحنا لها أن تحبسنا في بئرٍ أضيق من بئرك و أوحش من بئرك ، إلّا أنّ الفرق بيننا يا بُنيّ ، أنّنا متنا أول ما سقطنا وأنت قاومت وقاومت وقاومت ، قتلناك يا بُنيّ منذُ قتلنا الطفل الفلسطيني "محمد الدرّة" والطفل السوري "آلان الكردي" والطفل اليمني "عمّار" والطفل الأردني "أمير" والقائمة تطول ، نحن الجناة الذين جلبنا الجناة .

"ريّان" ليس باب في الجنّة يدخله الصائمون فحسب ، بل بئر في الأرض يدخله "الريّانيون الربانيّون" ، نتضرّع لله الرحيم أن يجمعنا معك عند سدرة المنتهى في الفردوس الأعلى ، وأن تكون شفيعاً لأهلك يوم القيامة دون حساب ، ريّان من ضيق الأرض إلى سِعة السماء
رحمك الله




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات