لحظات في الجنة



قال سبحانه وتعالى :
"وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(12) ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ(13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ(14) عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ(15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ(16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ(17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ(18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ(19) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ(20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ(21) وَحُورٌ عِينٌ(22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ(23) جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا(25) إِلاَّ قِيلا سَلامًا سَلامًا(26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ(27) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ(28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ(29) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ(30) وَمَاء مَّسْكُوبٍ(31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ(32) لّا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ(33) وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ(34) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء(35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا(36) عُرُبًا أَتْرَابًا(37) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ(38) ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ(39) وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ(40) " سورة الواقعة : الآيات : 10 – 40 .
تستعرض هذه الآيات الكريمة جزءاً يسيراً من بعض جل النعيم الذي أعده الله سبحانه وتعالى في جنته لفريقين من عباده الصالحين , هما وكما ذكرهم الله تعالى , فريق " السابقون " وفريق " أصحاب اليمين " .
ثم تبدأ الآيات بتفصيل قدر ذلك النعيم الذي جاء بقدر قرب كل فريق منهما عند الله , لتبدأ بالفريق الأقرب والمقرب من الله تعالى شأنا وقدراً ومنزلةً , وهو فريق : " السَّابِقُونَ " .
قال المفسرون : أي السابقون إلى الخيرات والحسنات. (انظر: صفوة التفاسير: 3/289. الجلالين الميسر:ص534).
والسابقون هم ـ توكيد يصيب عين الحقيقة ـ السابقون ـ انقطع الشك ـ هم " أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ " في نعيم القرب الأسمى من الله تعالى " فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ " . ... ونعيم هذه الجنات لا يقارب نعيم قربهم من الله بشيء .
ثم يتقدم التفصيل منهم لمحة , فإذا هم " ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ(13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ "
عددهم محدود , وأوله يفوق آخره , فهم كثير في الأولين وقليل من الآخرين . ومع أن عددهم محدود إلا أنهم هم الأسمى والأعلى , بعلو إيمانهم , ولسمو عملهم , لذا فهم قد سبقوا غيرهم فكانوا هم "السابقون" "المقربون" "من الأولين" و "من الأخرين".
وأما عن تحديد من هم الأولون , ومن هم الآخرون , فقد تعددت الأقاويل باختلاف المفسرين في شأن كل منهم ( انظر : ظلال القرآن: 6/3463 . صفوة التفاسير:3/289 . الجلالين الميسر: ص534 . وصف الدور الثلاثة: ص289).
فمنهم من قال : إن الأولين هم السابقون إلى الإيمان ذوو الدرجة العالية فيه من الأمم السابقة قبل الإسلام , والآخرين هم السابقون إلى الإسلام ذوو البلاء فيه .
بينما ذهب البعض إلى القول : أن الأولين والآخرين هم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم , فالأولون من صدرها , والآخرون من متأخريها , وهذا ما بُني عن قول الحسن وابن سيرين , وقد رجحه ابن كثير فيما روى عنهما :
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد ابن الصباح , حدثنا عفنان , حدثنا عبد الله بن أبي بكر المزني , سمعت الحسن أتى على هذه الآية : " وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ " " أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ".
فقال : أما السابقون فقد مضوا ولكن اللهم اجعلنا من اصحاب اليمين , ثم قال : حدثنا أبي , حدثنا أبو الوليد السري بن يحيى , قال : قرأ الحسن : " وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(12) ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ "... قال : ثلة ممن مضى من هذه الأمة . وحدثنا أبي , حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المنقري , حدثنا أبو هلال , عن محمد بن سيرين , أنه قال في هذه الآية " ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ(13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ " ... قال : كانوا يقولون , أو يرجون , أنهم يكونون كلهم من هذه الأمة . (تفسير ابن كثير: 4/285).
ويمكن أن نرجح - والله أعلم ـ أنهم كلهم من هذه الأمة , لما نستشفه من الأحاديث والآيات الآتية :
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله  إني لأرجو أن يكون من اتبعني من أمتي ربع أهل الجنة فكبرنا ثم قال إني لأرجو أن يكون من أمتي الشطر ثم قرأ "ثلة من الأولين " "وقليل من الآخرين ". (الدر المنثور: 8/19).
والله تعالى لا يخيب رجاء أقرب الخلق إليه رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم . وبما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأقرب من الله تعالى فإنه لا يرضى حتى يقرب الله تعالى منه خيرة أمته .
قال تعالى : "ولسوف يعطيك ربك فترضى " سورة : الضحى : الآية : 5.
أيضاً هذه الأمة هي خير الأمم بشهادة ربها وخالقها .. وخالق سائر الأمم :
قال تعالى :" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ..." سورة : آل عمران : الآية : 110.
وأخرج الترمذي وحسنه , والحاكم وصححه , والبيهقي عن بن بُرَيْدَةَ عن أبيه قال قال رسول اللَّهِ  أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ثَمَانُونَ منها من هذه الْأُمَّةِ وَأَرْبَعُونَ من سَائِرِ الْأُمَمِ ". (سنن الترمذي: ح2546/ج4/683).
وبما أن عدد هذه الأمة التي أخرجت للناس يفوق غيرهم من الأمم في الجنة فإنهم هم المقربين الذين قال الله تعالى عنهم :
" ثلة من الأولين" " وقليل من الآخرين "
وهذا لا يمنع من وجود السابقين إلى الخيرات من الأمم السابقة بينهم . إنما الأكثرية هم من هذه الأمة , أمة سيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم , من أقترن أسمه مع ذكر الرحمن , وبشهادة كل من يدخل في الإسلام .
"عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ(15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ "
السرر : جمع سرير , وهو الذي يجلس عليه ويضطجع , وقد يكون مشتقاً من السرور , إذ كان في الدنيا لأولي النعمة والسعادة .
موضونة : منسوجة من الذهب بإحكام . ( كلمات القرآن تفسير وبيان: ص308 ).
وبداية النعيم من بعد بداية نعيم القرب من الله , هو نعيم الاتكاء والاضطجاع على سرر الذهب , المحكمة الصنع , فهي منسوجة مع بعضها البعض كحلق الدرع , ومشبكه بالدر والياقوت .
قال ابن عباس : " موضونة" أي مرمولة بالذهب يعني منسوجة. ( مختصر ابن كثير: 3/430).
وهي سرر كريمه بإكرام الله تعالى على أهلها الذين ينظرون إلى وجهه الكريم غدوة وعشية .
قال الأعمش وسعيد بن جبير: إن أشرف أهل الجنة لمن ينظر إلى الله تبارك وتعالى غدوة وعشية . (معارج القبول: 1/338).
وفي هذه السرر متعه حسية , تنبثق عنها متعة الراحة والطمأنينة والاستقرار , لا بل إنها تتعداها لتشمل المتعة الروحية , متعة الاتكاء والمقابلة . فأصحابها " مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِين " . والمقابلة هي مقابلة أُنس ومودة وحسن العشرة , فنفوسهم مهذبة , ونظراتهم مطهرة , لا تنظر ولا ترى إلا إلى كرم الوجه , فوجوه بعضهم إلى بعض , وليس منهم أحد وراء أحد , ولا يرى أحد قفا أحد . وتطوف بهم سررهم إلى حيث شاءوا وإلى من أرادوا أن يقابلوه من أهلهم وأحبتهم.
قال المفسرون : أي وجوه بعضهم إلى بعض, ليس أحد وراء أحد, وهذا أدخل في السرور, وأكمل في أدب الجلوس. (صفوة التفاسير:3/289).
وبعد طواف السرر ... طواف الحس والروح ... " يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ(17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ(18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ "
ومن خلال ظلال النعيم , وهم في سمرهم مستأنسون , أنس اتكاء وحديث , يأتيهم ما لذ وطاب من لذيذ الشراب , يأتي إليهم .. ولا يأتون إليه , ويطوف عليهم به ولدان مخلدون , لا يأتي عليهم الدهر بالهرم والكبر , فتتجعد بشرتهم , وتخبو حركتم , فيتباطىء طوافهم وخدمتهم .
إنما هم باقون على هيئتهم , دائبون على الخدمة وباحثون عنها ليقدموها لمن يطلبونها دون كلل أو ملل .
وهذا ما يميز خدمتهم عن الخدمة التي تقدم لأهل الدنيا والتي لا يقدمها الخدم إلا من بعد أن يطلبها المخدوم , وبعد فترات من الانتظار قد تتآكل معها لذة ما كانت تشتهيه نفسه.
ويستمر طواف الولدان مع استمرار جريان أنهار الخمرة التي لا تقل ولا تنفد , فتمتلئ الأكواب والأباريق من هذه الخمرة الجارية مجرى الماء من العيون , وهي مع جريانها صافيه وسائغة , لا تتعكر مع شربها النفس , فلا تصدع الرأس , ولا تحط من منزلة العقل , فالعقل باق ومتزن , يتخير من النعيم ما يهوى ويريد .
" وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ(20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ"
وفي التخيير ضرب من التكريم تنطلق معه الإرادة وحرية الاختيار فيما يراد ويشتهى من هذه الفاكهة , وفيه أيضاً دلاله على كثرة أنواع الفاكهة وتعددها , وتنوع أصنافها , وتوفرها في كل الأوقات , فحصادها باق لا ينتهي بوقت , كما هي حال فاكهة الدنيا التي لا تتجاوز وقت حصادها بكثير , لتجف بعدها وتسقط عن أشجارها , وبعكس فاكهة الجنة التي لا تجف ولا تنضب ولا تفنى , فيتخير عباد الله المقربون من هذه الفاكهة خيارها لذة وطعماً , وكل فاكهة الجنة لذيذه وطعمها طيب . إلا أنه قد يكون المقصود من معنى " يتخيرون" هو الاختيار من بين هذه الأصناف لأن لكل صنف منها طعم ومذاق يتميز به عن غيره من سائر أصناف وأنواع الفاكهة أو أنهم يتخيرون من نفس الصنف , لإختلاف المذاق ما بين الثمرة والأخرى من الصنف ذاته كما هو حال ثمار الدنيا , إلا أن اختلاف المذاق في الجنة يكون فضلاً على فضل وطيباً على طيب ولذة على لذة .
وقد أستدل بعض العلماء على جواز التخيير في أكل الفاكهة من خلال هذه الآية .
وثمار الجنة زاهية , باقية , متجددة في كل وقت , فالثمرة التي تقطف , تعود ثمره أخرى مكانها :
أخرج الطبراني عن ثوبان قال قال رسول الله  إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى ". (تفسير ابن كثير: ح14492/ج2/ص518).
وعناقيدها ممتدة وعظيمة :
عن عبد الله بن عمرو أنه قال وهو بالشام : العنقود أبعد من صنعاء. (تفسير الصنعاني: 3/267).
وأهل الجنة لا يأكلون الفاكهة عن جوع , فلا جوع في الجنة , إنما يأكلونها زيادة في التمتع والتلذذ , فهي تقدم لهم قبل سائر الأطعمة .
" وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ"
ونلاحظ هنا أنه قد ورد ذكر اللحم وفيما يشتهى منه في هذه الآية الكريمة بعد ذكر الفاكهة وفيما يتخير منها , إشارة لما قد سبق وذكر من أنه لا جوع في الجنة, وأن طعام أهل الجنة يراد منه زيادة في متعتعهم وتلذذهم في الجنة, بالإضافة إلى ما يظهر من لفظ التخيير والاشتهاء ما يطابق هذا المعنى .
وقد أشار الفخر الرازي إلى ذلك في الجزء 29 , في الصفحة 153 من التفسير الكبير , مبينا ما يخرج عن هذين اللفظين : ( .... انه تعالى لما بين أن الفاكهة دائمة الحضور والوجود .. واللحم يشتهى ويحضر عند الاشتهاء دل هذا على عدم الجوع , لأن الجائع حاجته إلى اللحم أكثر من اختياره اللحم , فقال : " وفاكهة " لأن الحال في الجنة يشبه حال الشبعان في الدنيا , فيميل إلى الفاكهة أكثر , فقدمها ). انتهى .
كما أن تنعم وتلذذ أهل الجنة بالفاكهة واللحم مع وفرتهما وفي أي وقت , يعني أنهم يتنعمون ويتلذذون بغيرها من أنواع الأطعمة , وكما هو حال المتنعمين بهما في الدنيا , مع حفظ الفارق فيما بينهما .
وقد خصت الآية الكريمة ذكر لحم الطير عن سائر أنواع اللحوم , لحقيقة كونه أنعم أكُلاً وأطيب مذاقاً وأسرع هضماً , وتهفو إليه النفس فتشتهيه , لذا فهو موجود في الجنة وكما تشتهيه الأنفس .
عن أنس قال قال رسول الله  إن طير الجنة كأمثال البخت يرعى في شجر الجنة فقال أبو بكر إن هذه لطير ناعمة فقال آكلها أنعم منها قالها ثلاثا وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها ". (تفسير ابن كثير: 4/288).
وأخرج البزار , وابن أبي الدنيا , والبيهقي , عن ابن مسعود رضي الله عنه , قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه, فيخر بين يديك مشويا ". (مسند البزار: ح2032/ج5/401).
ثم إن طيور الجنة إذا ما أكُلت , عادت كما كانت لتطير من جديد :
وأخرج ابن أبي الدنيا عن ميمونة أن النبي  قال إن الرجل ليشتهي الطير في الجنة فيجيء مثل البختي حتى يقع على خوانه لم يصبه دخان ولم تمسه نار فيأكل منه حتى يشبع ثم يطير". (الدر المنثور: ج7/ص391).
وبعد هذا النعيم يأتي نعيم آخر لهؤلاء المقربين :
" وَحُورٌ عِينٌ(22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ "
والحور العين هن من نساء الجنة اللواتي أكرم الله تعالى بهن عباده المقربين , إكرام حس وروح لما فيهن من سكن وأمن , وهن واسعات الأعين وفي غاية الحسن والصفاء والجمال , وصفاؤهن شبيه بصفاء ونقاء اللؤلؤ المكنون الذي لم يتعرض للمس أو حتى للنظر , فهو مستور ومصون عن الأعين , ولا يرى هذا الحسن والجمال إلا أزواجهن .
قال سيد قطب : واللؤلؤ المكنون هو اللؤلؤ المصون, الذي لم يتعرض للمس والنظر, فلم تثقبه يد ولم تخدشه عين ! ( ظلال القرآن: 6/3464).
وكل هذا النعيم والتكريم هو:
" جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " .
وما جزاء الإحسان عند الله إلا الإحسان , فهذه هي المكافأة لهم على أعمالهم التي عملوها في دار العمل , وهي مكافأة لا تعدلها مكافأة , إكراماً وإحساناً من الله تعالى لهم .
ومع نعيم حور العين وما فيهن من هدوء وسكون , فإنهم يُحيّون بطًيب الكلام الذي يخلو من اللغو والآثام :
" لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا(25) إِلاَّ قِيلا سَلامًا سَلامًا "
وهذا هو نعيم آخر من النعيم الروحي لهؤلاء المقربين " لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا(25) إِلاَّ قِيلا سَلامًا سَلامًا "
قال القرطبي عن عباس : لا يسمعون باطلاً ولا كذباً. ( تفسير القرطبي: 17/206).
فهم لا يجدون في الجنة ما يعكر عليهم هدوءهم وسكنهم من لغو الكلام الذي قد يقلل
من استمتاعهم بنعيم الجنة .
لذا فهم لا يسمعون فيها من قبح وفحش الكلام أو كثرته التي لا تفيد ولا تضر , أو من بعض ألفاظه الساقطة التي قد تلحق عليهم الإثم وانتشار العداوة فيما بينهم , والجنة تخلو من كل لغو وكل إثم , ثم أنهم في الدنيا قد نهوا عن هذا اللغو , و أعرضوا عنه ولم يقتربوا منه , فكان إعراضهم هذا من إحدى صفاتهم التي أثنى الله تعالى عليها , فنعتهم ومدحهم بها , واعتبرها من أسباب فلاحهم ووراثتهم لهذه الجنة ,جنة الفردوس.
قال تعالى : " قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ (1) ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ (2) وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ (3) وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ (4) وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ (5) إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ(7) وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ (8) وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَوَٰتِهِمۡ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡوَٰرِثُونَ (10) ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡفِرۡدَوۡسَ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ (11) " سورة : المؤمنون : الآيات : 1 – 11 .
فاللغو لا يمكن أن يجتمع مع هذه الصفات الطيبة , لذا فلا وجود له في قاموس كلام أهل الجنة , فلا يلحقهم من بعده إثم ولا آثام . فهم في دار السلام ... دار خير الكلام و الأقوال :
" إِلاَّ قِيلا سَلامًا سَلامًا "
والسلام موات لما هم فيه من هدوء وسكون, لذا فهم يحيّون بتحيته , وينعمون بنعمته . فهو في كل مكان منهم , وقريب منهم , يتنزل عليهم من الله السلام , ومن ملائكته , ويتقاولونه فيما بينهم , وحياتهم كلها سلام بسلام .
جاء في البحر : والظاهر أنه استثناء منقطع لأنه لم يندرج في اللغو ولا التأثيم. (البحر المحيط: 8/206).
ويستمر طيب السلام و الكلام ليشمل بنعيمه الفريق الآخر الذي يلي فريق المقربين : فريق أصحاب اليمين :
" وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ"
قال ميمون بن مهران : أصحاب اليمين منزلتهم دون المقربين. (تفسير ابن كثير: 4/289).
وقد أسماهم الله تعالى أيضاً بأصحاب الميمنة في الآية الثامنة من هذه السورة , أي أصحاب اليُمن والبركة (انظر الجلالين الميسر:ص535). وهم من الذين يؤتون كتبهم بأياديهم اليمنى .
وفريق أصحاب اليمين هم دون فريق المقربين , وجميعهم من السابقين , إلا أن لكل فريق منهم نعيم .
وبعد أن كشف الستار عن نعيم المقربين , يأتي الذكر على نعيم أصحاب اليمين , فإذا هم :
" فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ(28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ(29) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ "
السدر: هو شجر النبق .
مخضود : أي لا شوك فيه . ( كلمات القرآن تفسير وبيان: ص309).
والسدر يعرف بثماره الطيبة المذاق , وأشواكه اللاذعة المؤذية , التي قد لا تسلم منها يد كل من حاول أن يجنيها .
لكنه هنا لأصحاب اليمين قد جاء مختلفاً عنه في الدنيا , فهو سدر مخضود , قد خضد شوكه , وجعل مكان كل شوكه ثمرة أعظم من القلال , وجعل فيه من الثمر الكثير .
روى الحافظ أبو بكر النجار , عن سليم بن عامر قال كان أصحاب رسول الله  يقولون إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم قال أقبل أعرابي يوما فقال يا رسول الله ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها فقال رسول الله  وما هي قال السدر فإن له شوكا مؤذيا فقال رسول الله  أليس الله تعالى يقول ) في سدر مخضود ( خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها لتنبت تمرا ففتق الثمرة منها عن إثنين وسبعين لونا من طعام ما فيها لون يشبه الآخر طريق آخر
" . (تفسير ابن كثير: 4/289 , وجاء نحوه في روح المعاني: 27/140).
" وطلح منضود"
قال المفسرون :
الطلح : هو شجر عظيم من شجر الحجاز وهو من نوع العضاة و فيه شوك كثير.
وقيل : هو الموز الذي نضدت ثماره فوق بعضها البعض من أول الشجرة إلى آخرها حتى لا يرى ساقها من كثرتها .
ومنضود : أي متراكم الثمر .
قال مجاهد : (منضود ) : أي متراكم الثمر , يذكر بذلك قريشاً لأنهم كانوا يعضون منه وضلاله من طلح وسدرة .
وقال ابن عباس : يشبه طلح الدنيا , ولكن له ثمر أحلى من العسل .
وقال ابن أبي حاتم عن أبي سعيد " وطلح منضود" .. قال : الموز .
وقال مجاهد وقتادة : ليس بالموز ولكنه شجر ظله بارد رطب.
(انظر: تفسير ابن كثير: 4/ 289 , تفسير القرطبي: 17/208 , روح المعاني: 27/140).
ومهما تقاربت أو تباعدت الآراء والأقاويل عنه , فانه يبقى من أشجار الجنة التي لا يجد فيها أهل الجنة إلا النعيم و الاستمتاع العظيم .
" وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ "
الظل الممدود : أي الدائم الذي لا تنسخه الشمس , فهو ظل باق لا يزول , والعرب تقول عن كل شيء طويل أنه ممدود . (انظر :تفسير البغوي: 4/282 . الكشاف: 4/58 . البحر المحيط: 8/206 . وصف الجنة في القرآن الكريم وأثره في الشعر الإسلامي حتى نهاية العصر الأموي، ص321).
وديمومة الظل هي نتيجة كثافة أشجار الجنة و ضخامتها وكبر حجمها , و ظل الجنة ليس كظل الدنيا , إنما هو ظل ظليل , لا حر معه ولا برد , ولا يمل ولا يكل منه .
قال تعالى :
" وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَنُدۡخِلُهُمۡ ظِلّٗا ظَلِيلًا " النساء الاية 57.
" أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي سعيد قال قال رسول الله  في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عامة لا يقطعها وذلك الظل الممدود. (روح المعاني: 27/140).
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها ما يسير الراكب في كل نواحيها مائة عام يخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا فيرسل الله تعالى ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا. (روح المعاني: 27/140).
قال مجاهد: هذا الظل من سدرها وظلها . (البحر المحيط: 8/207).
وهذا القول يوافق ويتماشى مع كثافة شجر السدر في الجنة .
وقال الضحاك و السدي , في قوله تعالى: "وظل ممدود" : لا ينقطع , ليس فيها شمس ولا حر , مثل قبل طلوع الفجر . (تفسير ابن كثير: 4/291).
ومما جاء , فان ذلك يدل على أن هذا الظل هو ظل ممتد ومنبسط لا يتقلص ولا يتفاوت كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس , وهو من ظلال الأشجار التي لا تنسخها الشمس . وقد وصف الله تعالى حال هذه الظلال بأنها تدنو من أهل الجنة , بقوله تعالى :
" ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا" سورة الإنسان:الآية : 14 .
وتلك الأشجار و الظلال يرويها الماء المسكوب من حولها , و الذي هو من جُل نعيم أصحاب اليمين :
" وَمَاء مَّسْكُوبٍ "
و الماء المسكوب : هو الماء الجاري بدون أخدود , وجريانه دائم دون انقطاع أو فتور. (انظر: صفوة التفاسير: 3/291).
أما كونه ماء مسكوباً , وبدون أخدود , فهذا يعني أنه يشبه الماء الذي يُهرق على سطح مستوٍ , دون أن يكون هناك حائل يمنعه من الوصول إلى أي مكان , وحسب كميته .
أما في الجنة فهو ماء منتشر في كل مكان , سائح على وجه أرضها , دون أي ضرر , فهو ليس كماء الدنيا الذي قد يتسبب بحدوث الأضرار و الدمار حال فيضانه , فتنقلب نعمته إلى نقمة. ووجود هذا الماء على هذا الشكل , يعطي صورة جمالية رائعة , يتنعم بها أصحاب اليمين من خلال رؤيته وهو ينساب من بين أشجار الجنة ومساكنها من غرف وقصور وخيام , بالإضافة إلى لذة طعمه ومذاقه , وصفاء لونه ونقائه الذي لا يتغير ولا يتبدل سواء من طول فترة بقائه أو من الأشياء التي تخالطه خلال انسيابه و جريانه , لأنه ماء غير آسن , وكما في قوله تعالى : " مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير أسن....." سورة : محمد : الآية : 15 .
ولأشجار الفاكهة أيضاً من الماء المسكوب نصيب :
" وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ(32) لّا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ "
قال المفسرون : "لا مقطوعة" في زمن "ولا ممنوعة" بثمن. (تفسير الجلالين الميسر: ص535).
وكثرة فاكهة الجنة دليل على تواجدها في كل مكان من الجنة وحيثما وجد وتواجد أهلها , مع تعددها واختلاف ألوانها وأصنافها ومذاقها , ومنها ما هو معروف لأصحاب اليمين من خلال معرفتهم له في الدنيا , أو أنه مما عرفوه في الجنة , وهو مما لا عين رأت , ولا أذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر .
قال الحافظ أبو يعلى عن جابر, قال : بينما نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله  فتقدمنا ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما رأيناك كنت تصنعه فقال إني عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به فحيل بيني وبينه ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه. (تفسير ابن كثير: ج2/ص518).
وكون هذه الفاكهة كثيرة لا يحدها مكان , فإنها أيضاً لا يحدها زمان , فهي لا تنقطع بوقت من الأوقات كفواكه الدنيا , بل إنها متوفرة وحصادها دائم لا ينقطع , وهي أيضاً لا يحد ولا يحظر عليها , حال فواكه الدنيا , و التي تقام على بساتينها الأسلاك الشائكة و الأسوار التي تحد وتمنع غير أصحابها من تناولها و التصرف بها .
وهي أيضاً ليست ممنوعة على أحد سواء بسبب بُعد بعض أغصانها عنهم بحيث لا يمكنهم الوصول إليها , أو بسبب أنها تباع و تشترى فلا يقدر بعضهم على ثمنها , أو بسبب مرض من الأمراض , التي قد يؤدي تناولها إلى إحداث مضاعفات وخيمة لا تحمد معها العاقبة , حيث أن بعض أنواع الفاكهة يقوم الأطباء بحظره عن بعض مرضاهم , كنوع من العلاج الوقائي , وهذا ما يعرف بالحمية الغذائية , و الجنة خاليه من كل الأمراض و العلل , وكلها نعيم , لذا فهي فاكهه " .. لّا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ " .
" وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ "
"فرش " : جمع فراش , وهو ما يفترش سواء للجلوس عليه أو للنوم .
"مرفوعة " : أي أنها مرتفعة عن الأرض , وعالية وطيئة ناعمة , أو مرفوعة على السرر. (صفوة التفاسير: 3/291 . الجلالين الميسر:ص535).
وهذه الفرش هي فرش وثيرة وفاخرة يرتفق و يتنعم بها أصحاب اليمين , فينظرون وهم يجلسون عليها إلى ما أولاهم ربهم من ملكهم و نعيمهم , وكأنهم يشاهدون هذا الملك من خلال شاشات العرض التلفزيونية المكبرة من أمامهم , فهي فرش مرفوعة على سرر مرفوعة كما وصفها الله سبحانه و تعالى بقوله :
"فيها سرر مرفوعة" سورة : الغاشية : الآية :13 .
وفي ارتفاع هذه الفرش ما يلقي في نفوسهم الكثير من المتع الحسية و الروحية , من خلال مشاهدتهم الواسعة لمناظر الجنة البهية التي تزداد معها متعتهم الحسية , لما يجدون في نفوسهم من معاني الارتفاع من رفعة و علو ومنزلة كريمة . تزداد معها متعتهم الروحية .
و ارتفاع هذه الفرش فيما بينها قد لا نأتي على تصوره أو إدراكه إلا من خلال ما بينته الأحاديث النبوية الشريفة :
عن أبي سعيد الخدري , رضي الله عنه , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : " وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ ". قال : " ما بين الفراشين كما بين السماء و الأرض" .
و بلفظ الترمذي قال :" ارتفاعها, لكما بين السماء و الأرض , مسيرة خمسمائة سنه". (إحياء علوم الدين: 4/539).
قال الألوسي : ولا تستبعد هذا من حيث العروج والنزول, فالعالم عالم آخر فوق طور عقلك, تنخفض للمؤمن إذا أراد الجلوس عليها ثم ترتفع به,والله على كل شيء قدير. ( روح المعاني: 27/141).
ومتعه أصحاب اليمين الحسية و الروحية تكتمل بوجود من قال الله تعالى فيهن :
"هن لباس لكم " سورة البقرة : الآية : 187 .
اللاتي جعل الله تعالى فيما بينهن وبينهم مودة و رحمة , مع اختلاف نشأتهن عن نشأة الحياة الدنيا :
" إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء(35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا(36) عُرُبًا أَتْرَابًا "
والضمير ,"هن" في قوله تعالى " إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء " لا يعود على متعين من نساء الجنة , إنما اُريد به التعميم ليشمل , الحور العين , ونساء الدنيا .
" إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء " : أي : الحور العين خلقهن الله تعالى من غير ولادة , وهذا بالنسبة إلى الحور العين , أما خلق نساء الدنيا فسيأتي الحديث عنه لاحقا .
عن ابي امامة قال قال رسول الله  خلق الحور العين من الزعفران. (تفسير أبي حاتم: ح18559/ج10/3290)
و أخرج ابن المبارك عن زيد بن أسلم قال : إن الله لم يخلق الحور العين من تراب , إنما خلقهن من مسك و كافور و زعفران . (الدر المنثور: 7/421).
وإنشاء الله تعالى لنساء الجنة يشمل أيضاً نساء الدنيا الصالحات , فيعيد الله تعالى خلقهن من جديد , فالصبية , و العجوز و العمشاء و الرمضاء ...... الخ . يجعلهن الله تعالى أترابا على سن واحد و بنات ثلاثة وثلاثين , و يعدن أبكاراً عذارى .
وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة أن النبي  أتته عجوز من الأنصار فقالت يا رسول الله  ادع الله أن يدخلني الجنة فقال إن الجنة لا يدخلها عجوز فذهب يصلي ثم رجع فقالت عائشة لقد لقيت من كلمتك مشقة فقال إن ذلك كذلك إن الله إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارا. (الدر المنثور: 8/16).

كما أخرج ابن المبارك عن الحسين قال : أتت عجوز النبي  فقالت : يا رسول الله ادع الله لي أن يدخلني الجنة , فقال : " يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز " قال : فولت تبكي , فقال : " أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز , إن الله عز وجل يقول إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء(35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا " . (مرآة الجنان, السنة الحادية عشر: ج1/ص53).
" فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا "
أبكارا : أي عذارى
و نساء الجنة كافة هن عذارى . أبكاراً , لم يمسسهن أحد قبل أزواجهن.
قال تعالى " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " سورة الرحمن : الآية : 74.
أخرج البزار والطبراني في الصغير وأبو الشيخ في العظمة عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله  أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكارا". (الدر المنثور:1/101).
وأخرج البزار والطبراني والخطيب والبغدادي في تاريخه عن أبي هريرة قال قيل يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة فقال إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء".
(الدر المنثور: 1/100).
أما عن قدره المؤمن التي يصل معها إلى هذا العدد من العذارى , فقد أخرج الترمذي في السنن عن أَنَسٍ عن النبي  قال يُعْطَى الْمُؤْمِنُ في الْجَنَّةِ قُوَّةَ كَذَا وَكَذَا من الْجِمَاعِ قِيلَ يا رَسُولَ اللَّهِ أويطيق ذلك قال يُعْطَى قُوَّةَ مِائَةٍ. ". (سنن الترمذي: ح2536/ج4/ص677).
" عُرُبًا أَتْرَابًا "
عرباً : بضم الراء وسكونها جمع عروب , وهي المتحببة إلى زوجها عشقاً له .
أتراباً : جمع ترب , أي مستويات في السن. (انظر : روح المعاني:27/143).
ونساء الجنة محبات لأزواجهن و فخورات بهم , ولا يعشقن غيرهم , ويحمدن الله تعالى على أن جعلهن من أزواجهم .
روى الصحابي أبو ذر الغفاري رضي الله عنه , أن النبي صلى الله عليه وسلم , قال عن هؤلاء النساء : " أنها تقول لزوجها : وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك , فالحمد لله, الذي جعلني زوجك و جعلك زوجي " . (زاد المسير: 7/58).
وروى الترمذي , عن علي رضي الله عنه , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة لمجتمعاً للحور العين يرفعن اصواتاً لم يسمع الخلائق مثلها. قال: يقلن : " نحن الخالدات فلا نبيد , ونحن الناعمات فلا نبؤس , ونحن الراضيات فلا نسخط . طوبى لمن كان لنا و كنا له " . (سنن الترمذي: 4/696).
و قد روى الطبراني حواراً لطيفاً عن نساء الجنة , دار بين إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم , أم المؤمنين السيدة أم سلمة رضي الله عنها , و بين زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قالت أم سلمه : يا رسول الله , أخبرني عن قول الله عز وجل :
"فيهن خيرات حسان" سورة الرحمن : الآية : 70.
قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : " خيرات الأخلاق حسان الوجوه "
سألته : فاخبرني عن معنى قول الله سبحانه وتعالى : "وعندهم قاصرات الطرف عين* كأنهن بيض مكنون" سورة الصافات : الآيتان : 48- 49 .
قال : " رقتهن كرقة الجلد الذي في داخل البيضة مما يلي القشر "
قالت : يا رسول الله .... أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين ؟
قال : " نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة " .
قالت : يا رسول الله !..... وبم هذا ؟
قال : " بصلاتهن و صيامهن و عبادتهن الله عز وجل , ألبس الله سبحانه وتعالى وجوههن النور , وأجسادهن الحرير , بيض الألوان , خضر الثياب , صفر الحلي , مجامرهن الدر , وأمشاطهن الذهب , و هن يرفعن بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها , يقلن:
" أ لا و نحن الخـــالدات فلا نمـــــــــوت .....
أ لا و نحن الناعمــات فلا نبـــأس أبــداً .....
أ لا و نحن المقيمـــات فلا نظـعن أبــدًا .....
أ لا و نحن الراضيـات فلا نسخط أبــداً .....
طوبى لمن كنا له و كان لنا ..... "
قالت : المرأة قد تتزوج أكثر من رجل واحد في الدنيا , ثم تموت و تدخل الجنة , فمن يكون زوجها في الجنة ممن تزوجتهم في الدنيا ؟
قال : " يا أم سلمه .... إنها تخير فتختار أحسنهم خلقاً , فتقول : أي ربي إن هذا كان أحسنهم معي خلقاً في دار الدنيا فزوجنيه ... يا أم سلمه , لقد ذهب حسن الخلق بخير الدنيا و الآخرة " . (المعجم الأوسط, للطبراني: ج3/ص279).
وهكذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون قد أجاب عما يدور في خلد المؤمنات من تساؤلات .
وما مضى من النعيم فهو قد خصص وأعد " لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ" , وهم "ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ(39) وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ(40) " وهم أكثر عدداً من السابقين المقربين .
أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " قال الثلتان جميعا من هذه الأمة . (الدر المنثور: ج8/ص19).

(عن كتابنا الجنة في القرآن الكريم, دار الكتب العلمية-بيروت. ص 319_337)



تعليقات القراء

Hussam
الله يجزاك كل خير
وأثابك حسن الدارين
ومتعك برؤية وجهه الكريم
ورضا ورضوان من الله تعالى
وان شاء الله تكون في ميزان اعمالك
يعطيك العافية ع جمال الطرح وقيمته
الله لايحرمك الأجر ..
18-08-2021 05:50 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات