زيارة بابا الفاتيكان للعراق الرسائل والدلالات


بالرغم مما يكتنف رحلته من مخاطرة أمنية وصحية وفي وقت تصاعدت فيه ضربات الصواريخ حيث سقط العشرات منها على قاعدة عين الأسد الأمريكية قبل 48 ساعة فقط على بدء الزيارة وفي كانون الثاني الماضي قتل تفجير انتحاري مزدوج 32 شخصاً على الأقل في بغداد وقبل أيام قليلة قصفت بالصواريخ المنطقة الخضراء شديدة التحصين في العاصمة بغداد والتي تضم المباني الحكومية والسفارات الأجنبية من دون أن يسقط قتلى أو جرحى ( الزيارة تمثل اختباراً حيوياً ومهماً للأمن يبنى عليه في المستقبل )

ناهيك عن تواصل الاحتجاجات الشعبية وتفاقم الإصابات بوباء فيروس كورونا الا ان بابا الفاتيكان فرنسيس البالغ 84 عام أصر حسم أمره وقال إنه لن يخيب أمل العراقيين من جديد حيث بدأ يوم الجمعة الماضي في الخامس من آذار الجاري زيارته التاريخية للعراق وقبل انطلاق رحلته بعث البابا المعروف بإنسانيته المؤثرة رسالة مفعمة بالإيجابية والطاقة للعراقيين تعكس شدة حساسيته لمعاناتهم

ومن جهة أخرى ستكون الرحلة فرصة مناسبة لاستعادة نشاط البابا في السفر وتواصله مع الناس على أرضهم بعد أن عطلت الجائحة رحلات عدة كانت مقررة له سابقا وفي سياق متصل تعاملت القوات العراقية بجدية شديدة مع الاحتياطات الأمنية لتامين سلامة البابا وحاشيته حيث نشرت عشرة آلاف من أفراد الأمن لهذا الغرض والذين تلقوا التدريب على التعامل مع أسوأ السيناريوهات من اشتباكات في الشوارع إلى تفجير قنابل وحتى هجمات بالصواريخ وهنالك ضباط سريين من الاستخبارات والأمن الوطني سينتشرون وسط التجمعات التي يحضرها البابا

خلال برنامج الزيارة التي تستمر ثلاثة أيام ( تحت شعار أنتم جميعكم أخوة ) سيزور البابا مناطق مختلفة من البلاد ليعرب عن دعمه الكبير للمسيحيين الضاربة جذورهم بالقدم في ارض الرافدين وليزع بعض الأمل والفرح في قلوبهم المتعبة وتشجيعهم على الصمود في ارض العراق بعد تراجع أعدادهم بعدما فر الكثير منهم وبشكل جماعي من العراق والشرق الأوسط عموماً بسبب الحروب والصراعات والاضطهاد وعلى غير العادة سيتنقل البابا بسيارة مصفحة في بلد لم يستقر فيه الأمن منذ سنوات ولا تزال فيه خلايا متطرفة مجهول مكانها

وفي أول يوم له في العاصمة بغداد سيزور رئيس الكنيسة الكاثوليكية وخمسة مواقع رئيسة أخرى في العراق وسيلقي البابا كلمة في كنيسة " سيدة النجاة " الكاثوليكية في منطقة الكرادة التي اقتحمها متشددون في 31 تشرين الأول 2010 وقتلوا 44 من المصلين وكاهنين وسبعة من قوات الأمن في واحدة من أعنف الهجمات على الطائفة المسيحية في العراق ولا زالت النوافذ الزجاجية الملونة في الكنيسة تحمل الآن أسماء الضحايا فيما كتبت رسالة تحد وصمود فوق المذبح تقول ( أين نصرك يا موت ) وسيتحدث عن التعايش بين الأديان

وفي الموصل عاصمة محافظة نينوى الشمالية مركز الطائفة المسيحية في العراق التي اختارها تنظيم داعش عام 2014 لإعلان خلافته سيزور البابا كنيسة الطاهرة العائدة إلى القرن السابع عشر في غرب المدينة التي دمرها التنظيم قبل أن تهزمه القوات العراقية بعد حرب طاحنة وهناك في المنطقة 14 كنيسة مدمرة سبع منها تعود للقرون الخامس والسادس والسابع حيث تعمل منظمة اليونسكو على إعادة تأهيلها إضافة إلى بعض المساجد والكنائس الأخرى التي تعتبر من تراث الموصل الحضاري
كما سيزور مدينة قرقوش التي يتحدث سكانها اليوم لهجة حديثة من الآرامية لغة السيد المسيح وفي إحدى آخر محطات زيارته يقيم البابا قداساً في الهواء الطلق في أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق الذي استضاف مئات الآلاف من المسيحيين والمسلمين والأيزيديين المهجرين عقب اجتياح داعش لمناطقهم وسيحتفل البابا في العراق بأول قداس له بحسب الطقوس الشرقية

وفي إطار تعزيز تواصله مع المسلمين سيزور البابا مدينة النجف التي يعود تاريخها الى 1230عام وسيلتقي فيها بالمرجع الشيعي علي السيستاني البالغ 90 عام والذي لا يظهر علناً ونادراً ما يستقبل الزوار وسيكون اللقاء في منزله المتواضع والمكون من طابق واحد مع منع معظم الصحافيين من حضور الاجتماع ما يجعل اللقاء الثنائي أحد أبرز محطات الرحلة البابوية لان فيها رسالة واضحة إلى العالم والشرق الأوسط، بأن هذه المدينة هي التي تمثل " قلب التشيع المعتدل وعاصمته" وهي أيضا القائد الفعلي للشيعة في العالم وليس حوزة قم وما تعنيه من امتداد لحكم ولاية الفقيه في إيران وسياساته

ومن النجف ينتقل البابا إلى أور الواقعة في الصحراء والتي يعود تاريخها إلى ما قبل المسيحية ليلتقي بموطن أبي الأنبياء إبراهيم حيث سيقيم مراسم تجمع الأديان المختلفة مع بعض الأقليات الأصغر في العراق بما في ذلك الأيزيديون والصابئة وسيدعو المجتمع الدولي للتعاون مع العراق في إعادة الأعمار والمهجرين

هذه أول زيارة بابوية على الإطلاق إلى العراق هي الرحلة االأولى التي يقوم بها البابا فرنسيس منذ تشرين الثاني عام 2019 عندما زار تايلاند واليابان وقد ألغيت بعدها أربع رحلات كان من المقرر أن يقوم بها في عام 2020 بسبب الجائحة التي ستحد بشدة من عدد من سيلتقون به بشكل شخصي ومباشر بعد تسجيل العراق أكثر من 600 ألف إصابة حتى الآن وفي تصريح سابق قال البابا فرنسيس إن الزيارة مهمة جدا بالنسبة له حتى لو كان مسيحيو العراق سيرونه على شاشات التلفزيون فقط

بكل تأكيد البابا يعرف بأنه قادم عن قصد إلى منطقة شهدت حروباً وعنفاً لتوجيه رسالة سلام ومحبة وأخوة سيما وان الصراعات المتوالية واستمرار أعمال العنف في العراق حالت دون زيارة باباوات سابقين وهي الزيارة التي كان يتوق إليها سابقه البابا يوحنا في العام 2000 غير أنّ ظروف الحصار حالت دون ذلل ولا شك بان الزيارة تعتبر حدثاً تاريخياً يشهده العراق في وقت يمر بأزمة سياسية خانقة مع استمرار هجمات الفصائل المسلحة وارتفاع معدلات الإصابة بكورونا ورغم كل ذلك ستمثل الزيارة دعم للعراق من قِبل المجتمع الدولي من خلال توجيه أنظار العالم إليه من خلال 75 صحافي يرافقونه من مختلف أنحاء العالم حيث سيزور مواقع تاريخية ويقيم الصلوات ويعقد لقاءات رسمية

زيارة البابا تمثل رسالة إلى العالم بما تحمله من دلالات تدعو إلى التعايش والسلم والمحبة وبث روح التسامح وإبراز الوجه الحضاري للبلاد كبلد زاخر بالآثار والمراقد الدينية والكنائس والجميع في العراق الجريح يأمل أن يكون البابا فرنسيس قادر على إعادة نسج الروابط خصوصاً في شمال البلاد حيث تتواجد عشرات الأقليات عبر كلماته القوية ومباركته ودعمه المعنوي ومن المؤمل أيضا أن تفتح الزيارة أبواباً وآفاقاً نحو سلم أكثر وتعايش أوسع لملمة ورص صفوف العراقيين من مختلف الأديان والمذاهب والمعتقدات وان تساعد على زيادة الوعي لقيام عراق جديد وآمن وان تقدّم العراق كقبلة دينية ودولة حضارية تستحق الالتفات والدعم بعدما تصدرت وسائل الإعلام على مدار الأعوام الماضية كساحة للصراع الإقليمي

الغالبية الساحقة من سكان العراق مسلمون غير أن هناك عدة طوائف مسيحية قديمة
يتراوح عدد أفرادها حالياً بين 200 و300 ألف بعد أن كان يقدر بنحو 1.5 مليون قبل الغزو الذي قادته الولايات المتحدة وأطاح بالرئيس الراحل صدام حسين عام 2003 وهناك 14 طائفة مسيحية معترف بها رسمياً في العراق ويعيش الغالبية منها في بغداد ومحافظة نينوى بالشمال وإقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي ومن أبرز الطوائف المسيحية في العراق ( الكلدان والسريان والآشوريون و الأرمن ) ويمثل العرب حوالي 2% من مسيحيي العراق ويوجد في بغداد ثلاث كنائس يونانية أرثوذكسية وأربع كنائس أرثوذكسية قبطية و57 كنيسة للروم الكاثوليك في جميع أنحاء البلاد فضلاً عن عدد صغير من البروتستانت
mahdimubarak@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات