من مذكرات متقاعد


يقول "سارتر": "أصبح الإنسان في زماننا عبداً للوظيفة والألقاب المهنية"، فاقبح شيء في الحياة هو أن تكون موظفا مقبوض عليك من الساعة الثامنة وحتى الساعة الثالثة بعد الزوال، بينما تمر أشياء جميلة خارج مكان عملك لا تراها، حياة كاملة ستمر في هذه الدوامة المستمرة على مدى سنوات خدمتك، لن تستطيع التغيب الا بإذن ولن تأخذ عطلة راحة إلا برخصة من طبيب ، وإذا مرضت لن يصدقك أحد حتى تثبت له مرضك بشهادة طبية أو تقرير رسمي موثق.

احيانا لن يصدقوا حتى مرضك البادي على وجوهك فيرسلونك إلى اللجان الطبية للفحص السريري، لن تتمتع بنوم الضحى ولن تهنأ بمتعة شروق الشمس، ستجري عبر وسائل النقل لتكون أول الحاضرين في الوقت الذي حددوه لك كي لا يرصد تأخرك مراقب الدوام، ستعيش على أعصابك متوترا ، احيانا تستهلك اقراص مقوية وأخرى ضد التوتر والعصبية ، ستظل تنتظر من عام لعام الزيادة السنوية والترفيع للرتبة الأعلى كـ سلحفاة تتسلق جدار.

لن يسمح لك بمغادرة الوظيفة إلا بعد أن تقضي المدة المقررة من هذه الدوامة ، أو عندما تبلغ حد السن القانونية ، وسيحتفل بمغادرتك أعدائك أكثر من أصدقائك من زملاء العمل ، ويقولون كلمة وداع في حقك لم تسمعها طيلة وأنت على رأس عملك ، سيحزن البعض ليس عليك بل على حالهم الذي يشبه حالك ، سيمنحك رئيسك المباشر شهادة ويمكن هدية رمزية بلا قيمة وهي بمثابة عزاء لحياتك التي سرقت منك ، ستعود إلى البيت صامتا وكئيبا ، وفي صباح أول يوم من التقاعد ستنتبه إلا أن الاولاد قد كبروا ، وأن شريكة حياتك هرمت وغزا الشيب مفرقيها ، وستتمعن في نفسك وتتساءل: يا ترى متى حصل كل هذا .؟

حينها ستسمع صوت المنادي ينادي في داخلك أن الوظيفة سرقت عمرك يا مسكين بلا فائدة ، وستعاتب ضمائرك اشد عتاب وتقــول: لماذا لم أغادرها وأنا في كامل طاقتي لأستمتع بجمال الحياة .؟ وستجيب نفسك في الحال إنها الهزيمة .! التي لم تكن لديك الخيارات فيها ، ستستسلم استسلام المهزومين وستركن إلى النوم الطـويل كـ مهرب وستصاب بالكآبة واليأس والسكري والضغط وتبدأ بعدها برحلات العلاج المكوكية والتنقل من عيادة لعيادة دون أن يعلم بك احد.
أعلم بأن التقاعد ليس نهاية الحياة ، بل بداية ومرحلة جديدة من العمر ، لكن من عاش حاني الرأس ينتهي دون مقاومة ، تستمر الحياة وسيتقدم العديد من الشباب الطامح بعد أن غادرنا مواقعنا الوظيفية إلى مسابقات لنفس الفخ الذي وقعنا به ذات يوم ، وسيحلمون كما كنا نحلم ونحن في أوج شبابنا وعطاؤنا ، فتتكرر المأساة دونما شعور بسنوات العمر ولحظاته الجميلة التي لا تتكرر ولن تعوض وتسترجع.

حتى لا أكون مُحبطا للآخرين ، تبقى الوظيفة بحد ذاتها حلما يراود كل شاب وفتاة يسعى لها جاهدا ، من أجل مردودها المادي الذي يعينهم على أعباء الحياة من جانب ، ومن جانب أخر لتضمن لهم الاستقلالية المالية ولو بالشيء اليسير والمشاركة في البناء والعطاء ، لكنها في حقيقة الأمر الوظيفة مهما كانت ومهما قصرت أو طالت "لا تصنع جاه ولا ثروة" لصاحبها إذا كان من أصحاب المبدأ والاستقامة .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات