القينوسي؛ عمة أشجار بلاد الشام


قبل سنوات، وخلال عمل المهندس محمد الشرمان مديراً للحراج في وزارة الزراعة، تعرضت عمة أشجار بلاد الشام الى العبث والتخريب من قبل (إحدى شركات الإتصالات)، وكانت الشركة تمدد خطوط أرضية، فقطعت جذور شجرة القينوسي المعمرة، ومنذ ذلك التاريخ صارت الشجرة تتراجع، وتحتضر، وتتساقط أوراقها، وفروعها، وصار شكلها أقرب الى الهيكل الخشبي، لا روح فيها ولا حياة.

كنت أنا ومجموعة من المهتمين بثروات بلادنا؛ حذرنا وزارة الزراعة، واتصلت شخصياً بعدد كبير من المسؤولين في الوزارة والحكومة بشكل عام، وطلبت بصورة عاجلة تشكيل لجنة لمعرفة أسباب تدمير هذه الشجرة، ومحاسبة أي مسؤول مهما كانت أهميته، وتقديمه للقضاء لأن القينوسي كانت شجرة عاشت لأكثر من ثمانية قرون، ويقدر الخبراء بأنها تجاوزت الألف عام، ومن العيب أن نترك قاتلها دون محاكمة، وقد شبهت هذا الفعل الدنيء الذي أقدمت عليها هذه الشركة بعملية هدم البتراء، أو تدمير المدرج الروماني في عمان، أو تخريب أي معلم تاريخي يشير الى الحقب التاريخية التي مرت على تاريخ الأردن العظيم.

أجل كان العمل الذي أقدمت عليه واحدة من شركات الإتصالات العاملة في المملكة؛ جريمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ومع مطالباتنا بضرورة الإهتمام بهذه الشجرة (العمة)، تدخل مدير الحراج في ذلك الحين، المهندس محمد الشرمان، وحاول مشكوراً أن يحافظ على بقاء الشجرة، على الأقل، أن تبقى شامخة، بأغصانها، وهيكلها العام، فأسندها بمجموعة من الدعامات حتى تبقى موجودة أمام الزوار، والعامة، وكل من يرغب بزيارتها، والكتابة عنها، أو التقاط الصور الى جوارها، ووضع أمامها لوحة معدنية تشرح بعض المعلومات عن تاريخ زراعتها، وكم عاصرت، ومر عليها من البشر منذ ألف عام، وعين حارساً بدوام كامل ليراقبها ويعتني بها، ويحافظ عليها من القطع، والتخريب، والتحطيب الجائر.

كان المهندس محمد الشرمان بحق من أهم من تولوا مسؤولية إدارة الحراج في الأردن، بعد المرحوم محمد باشا نويران العبادي، الذي شهدت الزراعة في عهده وبأوامر وتكليف من دولة وصفي التل بزراعة مئات آلاف الأشجار في طول البلاد وعرضها، وكان المهندس محمد الشرمان المسؤول الأكثر حرصاً على الحراج، والزراعة، والاهتمام بالغابات، وكانت إذا تعرضت واحدة من غابات الوطن الى العبث والتخريب، والحرق، كان يشارك في إطفاء الحرائق بنفسه، ويبكي إذا احترقت شجرة واحدة؛ تعب السلف الصالح في زراعتها، والاهتمام بها الى أن وصلت إلينا لنستظل في ظلها، ونتمتع برؤيتها، ونحمد الله كثيراً على وجودها.

بعد محاولات حثيثة من قبل المهندس الشرمان للعناية بالشجرة، إلا أنها ماتت، وتساقطت، واستغل البعض المشهد المؤلم، فعمدوا الى تحطيب، وقطع مئات الأطنان من الأخشاب، ربما بيعت، أو استخدمت في صوبات الحطب المنتشرة في الأرياف والمدن، وقد بكاها المهندس الشرمان، وكل من يعرف حقيقتها وأنها ليست مجرد شجرة من بين أشجار الأردن المعمرة، بل كانت تشكل جزءً لا يتجزأ من حالة الوعي، والإرث الوطني، وتاريخ بلدنا العظيم، وفيما يتعلق تحديداً بالزراعة.

كان المهندس محمد الشرمان بحق، من أهم مدراء الحراج في تاريخ الأردن، بعد المرحوم محمد نويران، إذ لم تتوقف خدماته، ونشاطاته، واهتماماته فقط بعمله مديراً للحراج، بل اهتم كثيراً بمنزل وضريح الشهيد وصفي التل في الكمالية، استطاع أن يضع سياج حول البيت والضريح لمنع تعدي الحيوانات بمختلف أشكالها وأنواعها، واستطاع أن يحيط الضريح، والمنزل باهتمام واضح من الناحية الزراعية، وتنظيف الأعشاب الجافة والضارة، والمحافظة على الأشجار الحرجية والمثمرة في بيت الشهيد وضريحه المبارك، وتعدى ذلك الإهتمام الى الغابات، والمساحات الواسعة من الثروات الحرجية، وكنا نقيم مبادرات لزراعة، وتحريج كثير من المناطق التي تخلو من الأشجار، وقد ساعدنا المهندس محمد الشرمان في عدة مبادرات لزراعة الأشجار الحرجية في عدد من المواقع وعلى رأسها غابة الشهيد وصفي التل في منطقة سلحوب بعد تعرض عشرات الأشجار الى الإحتراق بفعل فاعل.

وأنا أكتب هذا المقال، خطر على بالي، وتذكرت الشجرة التي استظل الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) بظلها عندما ذهب الى الشام، وفق الروايات المتداولة والله أعلم، وتساءلت في قرارة نفسي؛ هل ما زالت الشجرة موجودة، وإذا كانت على قيد الحياة، ماذا فعلت وزارة الزراعة، ووزارة السياحة للمحافظة على حياتها من العبث، والتخريب، والتحطيب.

نبذة عن الشجرة:

... تسمى شجرة البقيعاوية، استظل تحتها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، أثناء رحلته إلى الشام؛ للتجارة بأموال السيدة خديجة بنت خويلد قبل أن يتزوجها، قبل البعثة النبوية الشريفة بخمسة عشر سنة، وكان عمره الشريف آن ذاك (25) سنة، تشير الدراسات والروايات الى أن عمر شجرة البقيعاوية يصل الى حوالي ألف وخمسمائة سنة، وتتوسط الشجرة بلدة البقيعاوية الواقعة في الشمال الشرقي بين الأزرق والصفاوي، كانت رحلة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) قبل بعثته إلى أطراف الشام، وكانت محطاتها كثيرة، أهمها اثنتان، الأولى: منطقةُ أم الرصاص إلى الجنوب الشرقي من العاصمة الأردنية عمان، والثانية: شجرة البقيعاوية والتي كانت القوافل تتخذ منها محطةً على الطريق.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات