"أزمة ما بعد الحداثة" نحن والغرب على طرفي نقيض


تحت وطأة رعبه من النتائج المدمرة التي قد اكتنفت الحداثة والتقدم المنفلت من عقاله كتاب هيدغر عام 1966 ضمن مقالة نشرتها دير شبيغل (الصحيفة الالمانية) عبارته الشهيرة: "وحده إله جديد يمكن أن ينقذنا..وليس الإنسان"، إن هيدغر بطبيعة الحال لم يعني إلهاً بديلاً، إنما دفعه الخوف على الإنسان من الإنسان، ومن الحداثة وتوحش منتجاتها التي باتت ضرباً من العبث الخطير على مستقبل الجنس البشري، فبعد تفكيك الدين وتفكيك الفلسفة لم يبقى إلا.. لا شيء.
كان مشروع التفكيك الفلسفي قد وصل إلى ذروته مع ديكارت ورسو وكانت، لقد كان عصر الأنوار عصراً للتفكيك، عصراً للتحرير المطلق، لقد كانوا كما نحن الآن مرعوبون تماماً من الأصولية الدينية وما أفرزته، ولهذا كان عصر الأنوار عصر اشتغال الفلاسفة بتفكيك وتعرية القرون الوسطى بما أنتجته من تراث كنسي لاهوتي كبل العقلانية وحال دون تقدمها، لتأتي بعد ذلك الفلسفات الوضعية وتصوغ منظوماتها الخاصة للجنس البشري من ديكارت إلى ماركس مروراً بكانط وسبينوزا وهيغل وشيلنغ...الخ، لتأتي مرحلة تفكيك الفلسفة نفسها مع نيتشه حيث تم تفكيك الفلسفات الكبرى وبدا أن الوجود كله بات لا شيء غير المادة!
لقد فكك نيتشه الفلسفة نفسها، وحرر الروح المادية المتقدة من أي ضابط قد يكون محركاً أو ناظماً على الأقل لحركتها.
هذا التحرر أو الانفلات العملاق للعقلانية الأوربية من كل قيودها اللامادية، أبدع وأنتج الحداثة بكل ما حملته في طياتها من تقدم مادي مذهل للجنس البشري، تقدم حمل في ثناياه خطيئة جديدة تتمثل بتحويل الجنس البشري نفسه إلى عبادة التقدم اللامتناهي، لقد أصبح التطور والتقدم هدف لذاته، لتبدأ في مرحلة ما بعد الحداثة موجة جديدة من المراجعة الشاملة، التي أطلقها القلق من تلك الظاهرة الجنونية.
هكذا نحن وأوربا نقف على طرفي نقيض فبينما تحاول فلسفة أوربا الحديثة أن تقدم مراجعة نقدية قاسية للحداثة بكل ما تعنيه، تبدو مهمتنا شرقاً مختلفة، ويبدو ذلك الخطاب الفلسفي المعاصر في نظرنا متناقضاً مع احتياجاتنا، فبينما معركتنا تهدف إلى إنتاج الحداثة ينهمك الغرب في تفكيكها!
لهذا وقف هيدغر متأملاً الحداثة مطلقاً عباراته الشهيرة تلك، في لحظة قلق فلسفي "وحده إله جديد يستطيع إنقاذنا وليس الإنسان".
يزيد هذا من أزمة العقلانية العربية، لأن مهمة التفكيك التي هي ملقاة على عاتقها، تتطلب التعويل على الإنسان والعلم المادي والحداثة لإنجاز النقلة التي أحدثتها أوربا في مستويات مناهجها العقلية بمختلف أنواعها، فيما تبدو نذر الحداثة وسلبياتها عائقاً يرسم ملامح شبح الخوف فوق الرؤوس، ويصور لهذه العقلانية درجة بشاعة المشهد الحداثي عندما يتكشف عن الجشع المطلق الذي مارسته ولا زالت تمارسه، وهي تبدو مستعدة لابتلاع أي شيء حتى لا تتوقف عجلتها.
إنها أزمة تضعنا في مقابلة سؤال: كيف ننجز انتصار الحداثة الإنسانية عبر التفكيك، فيما العالم يراجع نتائجه بل أنه بدأ تفكيك التفكيك فعلاً؟!



تعليقات القراء

احمد خلف الجعافرة
مقال فكري مميز على صفحات جراسيا الغراء من مفكر اردني قل نظيره في بلاد العرب اوطاني؛
ما يقوله المفكر عمر ابو رصاع حول تفكيك الحداثه عند الغرب مع الاسف نحن لم نصل الى الحداثه الى هذه اللحظه فكيف نجاري الغرب بالتفكير تفكيك المفكك؛
علينا اولا ان نسعى الى الحداثه التي هي طريق اجباري ذو اتجاه واحد لا مجال للعودة عنه مهما كشف عن عوار تفكيرنا التراثي الموصوم باعتماد النقل لا العقل ؛ حيث ينظر بعض مفكرينا ان النقل يتقدم على العقل وهم في ذالك يتجنون على طبيعة الاشياء التي تقول بأن لا نقل بدون عقل ومعنى ذالك انه لا مجال لتقديم النقل على العقل حتى بمعناه المجرد فكيف اذا تحدثنا عن اهمية العقل في تنقية ما ينقل له من نصوص واحداث ؛ فان قبلها كمسلمات هذا لا يعني انه قدم النقل على العقل بقدر ما يعني انه يخشى من ان يستخدم عقله للوصول للحقيقه ؛
اذن نحن اولا امام اشكالية فض الاشتباك بين ثنائيات تم رسمها لنا بقرار سلطوي فرض على العقل العربي اتبعاها دون سؤال ؛
اما سؤال النهضه الذي يتفق الجميع على ضرورى طرحه فان الاجابه عليه تحتاج الى نفض الغبار اولا عن تاريخنا العربي الاسلامي بحيث تصبح النظره له كتاريخ بشري وليس تاريخ ملائكه جائت الى هذه الارض وذهبت ؛
وعليه فانني اعتقد ان مفكرنا لا يدعونا الى التراجع عن الحداثه من اجل ملاقات الغرب عند ما بعد الحداثه لان الحداثه متطلب سابق لمى بعدها .
29-11-2010 07:51 PM
عمر أبو رصاع
عزيزي الأستاذ أحمد الجعافرة
أسعدت أوقاتاً
بداية آمل دائماً أن يكون اسهامنا الفكري خادماً لنهضة شعوبنا، ووسيلة حقيقية لاشعال الوعي العام وتزويد النخب الرائدة بأدوات فكرية وثقافية تمكنها من القيام بواجباتها التاريخية على أكمل وجه، ، فنحن أحوج ما نكون إلى تكريس مفهوم المفكر أو المثقف العضوي الملتحم فعلاً وقولاً بقضايا الإنسان ونضاله من أجل نيل حقوقه المشروعة وبناء الدولة المدنية الدستورية التي تكون فيها السلطة للأمة.
وبعد
بطبيعة الحال الإشكالية التي ركزت عليها هنا، تعنى بشكل أساسي في إبراز التناقض بين منطلقات الخطاب الفلسفي الناقد لمنجزات الحداثة من ناحية ومنطلقات خطاب النهضة الحداثي في الثقافة العربية من ناحية ثانية.
خطاب ما بعد الحداثة الاوربي، خطاب انتجه بطبيعة الحال الضغط الموضوعي الذي يتولد عن الجدل الخلاق، بمعنى أنه قوة دفع ايجابية نحو التغيير، أي أنه يصوغ نفسه بوصفه نفي جدلي ايجابي، في ظله يقف خطاب منتسكيو وروسو في قفص الاتهام، بينما لا يزال ذات الفكر المتهم غرباً صالحاً في حالة الخطاب النهضوي العربي في مرحلة انجاز متطبات الحداثة لتحرير العقلانية العربية وتغلبها على أزمتها، من هنا فإن خطورة التباين تتمظهر لنا تماماً عندما تستقوي قوى الجذب الرجعي في المجتمع لعربي بالخطاب النقدي الأورب لما بعد الحداثة، فهي هنا تستحضر ذلك الخطاب ضداً معرفياً على خطب النهضة الحداثي العربي، وهي تستحضره وتسلهمه كنقد سلبي هدام، نقد يهدم ولا يبني، قد يستحضر أدواته ليمنع ويعيق ويكرس الاشكالية الحضارية لا ليتجاوزها، ذلك أن الإشكالية الحضارية التي يستحضر فيها ذلك الخطاب غرباً تهدف إلى مواجهة نتائج سلبية يسعى لتجاوزها، بينما مستحضر الخطاب داخل ثقافتنا ينوي أن يعيق التحول الأساسي نحو الحداثة نفسها، أي يستحضره ليمنع به محاولة تجاوز أزمة هيمنة المعقولية القروسطية، يستحضره حتى يحافظ به ومن خلاله على هيمنة تلك المعقولية القروسطية.
(قروسطية: نسبة للقرون الوسطى)
مودتي
عمر أبو رصاع
عضو جمعية المواطنة والفكر المدني
29-11-2010 10:15 PM
ابن جلا
تحية - شكرا للأستاذ الكاتب عمر ابو رصاع ، و شكرا للأستاذ أحمد الجعافرة - و أضيف ، نحن في مجتمعاتنا العربية نتغنى بالماضي و نلزم أنفسنا بثقافات الماضي ، و نربط كل شيء بالعادات و التقاليد , كأنها كتاب مقدس) حتى لو كانت لا تتماشى مع العصر - الغرب الذي انتفض من ارث الكنيسة و حكم الرهبان و وصل الى ما وصل إليه من علوم و تكنولوجيا في العديد العديد من المجلات ، يريد البحث من جديد و تعميق اكتشافاته - بينما نحن نتقدم خطوة للأمام و عشر خطوات للخلف ، و تتغني بسيف بن ذي يزن و حاتم الطائي و عنترة و و و ، و لو وجد هؤلاء اليوم لتبرؤوا منا ، فنحن مقلدين (لما يحلو لنا) و لسنا مجددين (سوى بالمظاهر) - مبدعينا و مفكرينا جميع الأبواب موصدة أمامهم ليس من الأنظمة بقدر ما هي من العقول المحيطة بهم – أتيحت لي الفرصة للعيش و التنقل في أوروبا (خلال ال 40 عاما الماضية) في أكثر دولها تقدما علما و قوانين ، و عند المقارنة بحالنا و ما نحن به و بما رأيت كنت أصاب بالذهول – نحن بحاجة ماسة لتغيير الكثير الكثير من مفاهيمنا و أسلوبنا بالتعامل و العيش – تحياتي – ابن جلا
30-11-2010 08:34 AM
زريقات
تحية للكاتب والاخوان المعلقين .. نعم هنالك مشكلة حقيقية يجب التعامل معها وهي تقديس العادات والتقاليد واخذ الكثير من الاشياء مسلمات لا يمكن اخضاعها للعقل البشري وهو تماما ما كانت تقوم به الكنيسة ابان العصور الوسطى في اوروبا حيث النجاة تكمن فقط باتباع ما يأتي من تعاليم الكنيسة .. نشأنا وتربينا على ثقافة الخوف والترهيب من ما سيأتي , تملكنا خوفنا وصرنا عبيدا له .. خوفنا من كل شيئ , من المجهول , من يوم غد حتى خوفنا بعد موتنا .. تأكيد لما قال ابن جلا, اعيش في دولة اجنبية اسيوية وليست اوروبية , وفعلا اصدم لاتساع الهوة بيننا وبينهم , شعوب تحررت من خوفها وسلكت طريق العمل الجاد والبحث .. المشكلة اننا بعيدين كثيرا ولابد من عمل مكثف .. لا بد ان نتحرر من خوفنا ..
30-11-2010 08:47 PM
عمر أبو رصاع
قدستها أبداً شمساً لك غربت = فالذنب ذنبك لا نباً لمن غربوا
إن الحياة لمن رأس يكون بها = لا تستحق حياة أمة ذنب
عيش الشعوب بانجاز لمعجزة= لا بالتباكي على تاريخ من ذهبوا
(عمر أبو رصاع)
المحترم (ابن جلا)
التغيير قادم لا محالا، فهو تحد وجودي بالنسبة لنا أن نكون أو لا نكون، ولامجال لأنصاف الحلول.
المطلوب أن تتحرك القوى المستنيرة لأخذ مكانها اللائق وقيامها بدورها الحضاري التاريخي، أسوء وأقبح مشكلة نواجهها تتمثل بسلبية مثقفينا وهي ظاهرة تاريخية مقيتة وغريبة، من المحزن أن ترى وتسمع امتعاظ مثقفينا من حالتنا العامة وفي نفس الوقت اعراضهم التام عن فعل شيء من أجل التغيير، هذا إذا لم تجدهم متورطين للأسف في استنزاف حاضر ومستقل شعوبنا.
مطلوب أن لا نكتفي بالفرجة والامتعاظ ولي الشفاه، مطلوب أن نتحرك وفق ما يمليه علينا ضميرنا الوطني والإنساني من أجل التغيير.
دمت بخير
عمر أبو رصاع
عضو جمعية المواطنة والفكر المدني
01-12-2010 10:30 AM
عمر أبو رصاع
قدستها أبداً شمساً لك غربت = فالذنب ذنبك لا نباً لمن غربوا
إن الحياة لمن رأس يكون بها = لا تستحق حياة أمة ذنب
عيش الشعوب بانجاز لمعجزة= لا بالتباكي على تاريخ من ذهبوا
(عمر أبو رصاع)
المحترم (ابن جلا)
التغيير قادم لا محالا، فهو تحد وجودي بالنسبة لنا أن نكون أو لا نكون، ولامجال لأنصاف الحلول.
المطلوب أن تتحرك القوى المستنيرة لأخذ مكانها اللائق وقيامها بدورها الحضاري التاريخي، أسوء وأقبح مشكلة نواجهها تتمثل بسلبية مثقفينا وهي ظاهرة تاريخية مقيتة وغريبة، من المحزن أن ترى وتسمع امتعاظ مثقفينا من حالتنا العامة وفي نفس الوقت اعراضهم التام عن فعل شيء من أجل التغيير، هذا إذا لم تجدهم متورطين للأسف في استنزاف حاضر ومستقل شعوبنا.
مطلوب أن لا نكتفي بالفرجة والامتعاظ ولي الشفاه، مطلوب أن نتحرك وفق ما يمليه علينا ضميرنا الوطني والإنساني من أجل التغيير.
دمت بخير
عمر أبو رصاع
عضو جمعية المواطنة والفكر المدني
01-12-2010 10:31 AM
عمر أبو صاع
الأستاذ زريقات
تحية طيبة وبعد
شخصت المشكلة والحل حين قلت: "اننا بعيدين كثيراً ولا بد من العمل المكثف، لا بد أن نتحرر من خوفنا"
نعم لا بد من العمل المكثف ولا بد أن نتحرر من خوفنا، ايادينا ممدودة لكل من يفكر ويريد أن يعمل بهذه العقلية وبهذا النفس، مرحباً بك.
عمر أبو رصاع
(عضو جمعية المواطنة والفكر المدني)

01-12-2010 10:47 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات