كورونا من زاوية مُنفرجة


بعد الخسائر البشرية والاقتصادية الجمّة ، التي طالت العالم بأسره جرَّاء تفشي هذا الوباء الفتَّاك اللعين "كورونا" ، والحالة النفسية السيئة التي فعلت فعلها بكثيرٍ من البشر ، وما لحقَ ذلك من جوٍّ مُرعبٍ يملأه الهلع والرّيبة والتَّرقُّب ، وسط صمتٍ طويلٍ عكفت عليه المؤسسات الطبية في العالم ؛ كانَ الأفراد يعايشون الموتَ لحظةً بلحظة ، وبات الجميع ينتظرون حتفهم بين عَطسةٍ عابرة وقُبلةٍ جائرة.

اتَّسع نطاقُ هذه الكارثة يوماً بعد يوم ، ولا تزالُ في ازدياد ، وحصدت ملايين الأرواح ، وفرضتْ نمطاً ثقيلة في السلوك المجتمعي برمّته ، حتى كاد هذا الفيروس يتنامى ليكون القاتلَ مرّتين ، مرَّةً في تخلي النَّاسِ عن حياتهم المعتادة ، وابتعادهم القسري عن أعزِّ الناسِ على قلوبهم من أهلٍ وأبناء وأقارب أثناء فترة الحجر والعزل المنزلي ، ومرّةً عند حرمانهم من مرافقة مُصابيهم في غُرف العلاج ، أو السَّماح لهم بإلقاء نظرة الوداع عليهم وإقامة شعائر الدَّفنِ والجنازة والعزاء حين موتهم ؛ تحمَّل النَّاسُ ببالغ الألم هذه القيود والمحددات خوفاً من الوباء ، وطمعاً في أنْ تتم محاصرته بالوقاية ، وأملاً في التَّوصلِ إلى لُقاحٍ ينتصرُ على جيوش هذا الفيروس.

بحجم ما تحملُ "كورونا" من جـدلٍ وتحدٍّ صريحٍ للطب العالمي ، يزخرُ كذلك العالم بقاماتٍ طبية وعلماء عمالقة ، ومراكز طبية موثوقة ، كان لها أن تُخفف حدَّة ووطأة العبء النفسي عن كاهل الأفراد ، وتنعشُ في نفوسهم الأمل باحتمالية القضاء على الفيروس طبياً وتوعوياً ، مِن خلال الحوارات والحلقات النقاشية والمؤتمرات الطبية في هذا المجال ، التي تضعهم في قلب الحدث ، وتردُّ عنهم اليأس الذي ملأ صدورهم ، وتفشَّى في بيوتهم ، وخلق لديهم "فوبيا كورونا" ، حتى بلغ الحدُّ بالنّاس أن يقولوا: "احذر عدوك مرّةً .. واحذر كورونا مرّتين" ؛ وإنْ كانت هذه الجهود قد تمت فعلياً ، والعملُ على اكتشاف لقاحٍ لهذا الفيروس قد بدأ منذ اللحظات الأولى للوباء ؛ فإنَّ التقصير والتظليل والتعتيم يكون قد جاء برعاية إعلامية بحتة على مستوى العالم ، عندما أعطى الجانب الارشادي الصفةَ التحذيرية ، التي لم تأتِ بخيرٍ أبداً على الشّعوب سوى تحطيم النفسية ، لا بل زاد الطّينُ بِلَّةً ؛ فمقاومة أي مرض تبدأ من تهدئة المريض ، ومـدِّه بالطاقة الايجابية ، ورفع روحه المعنوية مهما تكون خطورة مرضه ؛ ولعلَّ لهذا التغييب أسبابه ومراميه ، التي تثيرُ العديد من التساؤلات.

من جانبٍ آخر بالغَت بعضُ الدراسات الدولية في احتمالية استمرار هذا الوباء لسنوات ، وارتفاع منحنى الإصابة بهذا الفيروس وتصاعده ، واتجهت إلى إيهام البشرية جمعاء بتعذُّر السيطرة على سرعة انتشار الوباء ، إلى الحد الذي جعل الكثير من القائمين على هذه الدراسات يحذّرون حكوماتهم ، ويوجهونها الى ضرورة الحزم في اتخاذ إجراءات حماية تتعدّى العزل والتباعد الاجتماعي ؛ إضافة إلى التجييش الاعلامي العالمي لنشر وبث كافة المعلومات والتقارير المتعلقة بالوباء لحظةً بلحظة ، التي تُظهر ما يتعلق بهذا المرض من نسب إصابات ووفيات ، وتضخيم الحالات التي تقع هنا وهناك ، وتعميق الأثر النفسي السلبي لدى البشر ؛ مما أحدث إرباكاً في الأُسر والشَّوارع ومقار العمل ، والذي بدوره نجح نجاحاً باهراً في تهيئة الشُّعوب إلى انتظار مخرجٍ لها ، وانتظار الحلول الفاعلة التي تقيهم شرَّ هذا البلاء ، وساهم في رفع مستوى استعدادهم إلى تقبّل تعاطي أي لقاحٍ يُكتشف بكلِّ بساطة ، ودون البحث في مدى فعاليته أو تكاليفه أو أعراضه الجانبية ؛ الأمر الذي يوصل الجهات التي بنت استراتيجيتها الرأسمالية إلى مبتغاها ، ويحقق لها وفراً مالياً ضخماً ، خاصةً إذا ما بيع ذلك اللقاح على كافة دول العالم.

يؤكد تاريخ الأمراض الوبائية التي ألمت بالعالم في فتراتٍ مختلفة ، أنَّ هذه الأمراض ومنها داء "كورونا" يصعب السيطرة عليها بسهولة ، أو أن تكون نهايتها سريعة ، كما ويبيّن أنَّ احتمال اختفائها نهائياً ضعيفٌ جداً ، فالمرض الوحيد الذي تم القضاء عليه من خلال حملات التلقيح كان الجدري ، والذي أُعلن استئصاله تماماً عام 1980م ، بينما تجد أمراضاً أخرى كثيرة كالطَّاعون والسل والجذام والحصبة ، التي ضربت البشرية منذ آلاف السنين ، لا تزال منتشرة في بعض مناطق العالم ؛ مما يجعلنا على مفترقِ طرقٍ بين الأملِ بانتهاء "كورونا" وزوالها ، وإمكانية معاودتها من جديد في حال التباطؤ في استخدام اللقاح الخاص بها ، تماماً كما حدث في أمراضٍ كارثية سابقة كشلل الأطفال ، الذي تزداد فرصة عودته في حال تجاهل المطاعيم الخاصة به ؛ إنَّ قصص النجاح الطبي الاستثنائية تعتبر نسبية ، وغير قاطعة ليتم القياس عليها ، ولكنها بالمقابل تبقى في إطارها مساعٍ وجهودٍ طبية تُحترم ، مهما كان النهج الذي تستند إليه.

ليس الخلافُ هنا على وجود كورونا من عدمه ، فالوباء لا شك موجود ، ولا سبيل لنفيه أو عدم الاعتراف به ، وإلا لما قامت الدنيا ولم تقعد على مستوى العالم ، ولما صرفت الدول نظرها عن كل شيء لتتجه إليه ، حتى هزَّ اقتصادها وزلزل منظوماتها الصحية ، وحجب خطوطها الجوية ولبرية والبحرية عن غيرها ، وأباد سُكَّانها ؛ لكن الخلاف يكمنُ في طبيعة هذا الوباء إنْ كان قدراً إلهياً أم فيروساً مصنَّعاً ، ولمصلحة من؟!

بالإضافة إلى ما سلف ، فإننا لو استعرضنا التاريخ الطويل ومراحل تصنيع اللقاحات للأوبئة على مر الزمان ، لوجدنا أنها احتاجت سنين طويلة وجهود وفحوصاتٍ شتى ، وتجارب وتحاليل مخبرية عميقة ، حتى اهتدت إلى تلك اللقاحات ، واستمرت زمناً ليس بقليل لإخضاعها للتجريب والتقييم والتطوير ، لأنَّ الأمر يتعلق بصحة البشرية - التي لأجلها وجد الطب - ولا يؤخذُ في سياقٍ استثماري كالسِّلع ؛ أما ما يتداوله الاعلام الآن من قيام شركتي "فايزر" و "بيونتيك" من تصنيع لقاح ضد "كورونا" وفي غضون أقل من عشرة أشهر من اكتشافها ، فهذا أمرٌ عجيب يضع كثيراً من علامات الاستفهام ، ويثير العديد من الرؤى والشكوك حول مدى مصداقية هذا الاكتشاف ، الذي يجري حالياً الترويج العالمي له قبل اعتماده وفقاً للبروتوكول الطبي ، خاصةً أنَّ الشَّركتين قد اعلنتا أنَّ فعالية هذا اللقاح الجديد تصل إلى 90%.

في نهاية المطاف ، ومهما تكون الأسباب التي تقف وراء وجود هذا الفيروس غير المرئي ، الذي يهدد العالم وحياة الشعوب ، فإنّه مخيف وقاتل ، ولا مناص من مجابهته مبدئياً إلا بالالتزام بكافة وسائل الحماية والوقاية ، والاجراءات الصحية المعمول بها في كافة مناحي الأرض ، لأنَّ النفوس مهما جزعت ، فلابدّ أن يأتي من دونها فرجٌ قريب.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات