سعد الحريري هل ينجح في تحدّي المستحيل ؟


نتذكر جميعا كيف خرج المئات من أبناء الشعب اللبناني في احتجاجات شعبية عارمة للتعبير عن غضبهم من الوضع الاقتصادي المتردي الذي زاد وباء كورونا في تعميقه وتدهوره وكذلك المطالبة بمكافحة الفساد المنتشر في كثير في الدوائر والمستويات الحكومية المختلفة إضافة إلى إسقاط النظام الطائفي فيما سمي بانفجار أو ثورة 17 تشرين الأول عام 2019 والتي على أثرها تقدم الرئيس سعد الحريري باستقالته من رئاسة الحكومة ( لبنان من أكثر الدول مديونية في العالم حيث بلغت ديونه الخارجية 90 مليار دولار )

ومع تصاعد الأزمة الاقتصادية وانسداد الأفق السياسي واستقالة حكومة حسان ذياب على وقع كارثة انفجار بيروت والذي أسفر عن مقتل 160 شخصا وإصابة أكثر من ستة آلاف وخلف إضرار مادية وصلت نحو 30 مليار دولار حسب بعض التقديرات وبعد إجراء رئيس الجمهورية ميشيل عون الاستشارات النيابية الملزمة دستوريا والتي انتهت باتفاق بين التيارات النيابية الكبرى بأغلبية على تسمية سعد الحريري رئيساً مكلف بتشكيل الحكومة الجديدة بأكثرية 65 صوتاً بعدما طرح نفسه مرشحاً على قاعدة تنفيذ بنود الخطة الإصلاحية الفرنسية وقد جاءت تسميته وسط انقسامات سياسية حادة ليس على الإصلاح فحسب ولكن على شكل الحكومة المرتقبة أيضا وبذلك سيرأس الحريري في حال نجاحه في تشكيل الحكومة للمرة الرابعة منذ دخوله المعترك السياسي بعد اغتيال والده عام 2005

بعد فشل المبادرة الفرنسية التي اقترحها الرئيس إيمانويل ماكرون في 6 آب الماضي عندما زار بيروت بعد انفجار المرفأ وطالب تشكيل حكومة مهمة من الاختصاصين من غير السياسيين ومع رغبة الرئيس الحريري التي يعلنها اليوم حول تشكيل حكومة إصلاحية تستجيب لشروط المبادرة الفرنسية وبعملية لن تكون سهلة بالمطلق وربما لا تصل الى نهايات سعيدة وستغوص في دوامة وحلبة المناكفات والصراعات والعراقيل مع التمسك الحرفي بقانون المحاصصة وسوف تصطدم أيضاً بعقبة الخلاف الحاد بين الحريري وجبران باسيل شريكي التسوية الرئاسية وعلى قاعدة التحديات والعداوة التي نشبت بينهما بعد استقالة الحريري الأخيرة

الحريري يرفض باسيل في حكومة الاختصاصيين ويستجمع كل قواه لكسره وباسيل يرفض الحريري بحجة أنه ليس من أهل الاختصاص فضلا عن الشروط الشيعية إياها وشروط الرئيس عون الأخرى وان تسوية حساب ( التكليف ستتم في عملية التأليف ) وهو ما أشار إليه عون ضمناً من خلال التعقيدات التي ستواجه الحريري والتي بدت طلائعها قبل ساعات من تكليفه عبر الكلمة التي تساءل فيها (هل من سيكلف ويؤلف سيلتزم ببرنامج الإصلاح أنتم أيها النواب تتحملون المسؤولية ) ما يعني عدم المبالغة في القول أن لبنان يتقدم إلى جهنم بسرعة أكبر في غياب أي تفاهم على تشكيل حكومة إنقاذ ينتظرها الشعب اللبناني لتعمل بسرعة على ترقيع الانهيار الاقتصادي ومواجهة الأزمات الخانقة الأخرى وهو أمر بات يتعدّى طاقة أي مكلف

الرئيس عون يستطيع دستورياً عدم التوقيع على صيغة الحكومة التي يؤلفها الرئيس المكلّف الحريري إذا لم يكن مقتنعاً كما قال في كلمته الأخيرة في إشارة غمز واضحة من قناة الرئيس سعد الحريري بأن من وقع عليه وزر التكليف والتأليف سيقوم فعلاً بمعالجة مكامن الفساد وإطلاق ورشة الإصلاح بالرغم عون سبق أن كان مقرراً في التكليف وشريكاً في التأليف ولم تلتزم الحكومات السابقة وخصوصاً حكومة اللون الواحد الأخيرة كمثال الإصلاح ولا معالجة الفساد فماذا فعل الرئيس طبعاً لا شيء ويبدو من ذلك أن عون أستبق الاستشارات النيابية الملزمة التي كان قد أرجأها مرات وماطل في عقدها بإعلانه ما يشبه حربا سياسية مبكرة على الرئيس الحريري وهو الذي كان يتمترس دائما خلف بدعة " التأليف قبل التكليف " وضرورة معرفة جنس الجنين الحكومي وشكله ولونه قبل الولادة وأنه اذا كان قد سلّم مكرها بقبول تسمية الحريري رئيس للحكومة بعدَ أن فشِله في إسقاطه كمرشّح فانه لن يقبل التسليم في عملية التأليف التي ستكون على الأرجح حلبة صراع بين الطرفين مرهقة لهما وللوطن

مرة أخرى يؤكد الرئيس عون على انه شريك رئيس في التأليف الحكومي وهو يلقى الكرة في ملعب الآخرين وتحديدا النواب والكتل والقوى السياسية المختلفة محملا إياهم تبعات ما سيحصل بعد تسمية الحريري حيث إن " التكليف سينعكس على التأليف" في إشارة إلى أنه لن يمنح الحريري شيكاً على بياض في التأليف في المقابل كان يتوجب على عون ان يكون حكما منصفاً كما ينص الدستور والا يكون طرفاً أو خصما بأي شكل من الإشكال
وهنا السؤال من جديد هل سيقبل الرئيس عون وحزب الله أن يسمي الحريري فريقه الوزاري بالكامل أم أنهما سيصران على أن تقوم الأحزاب بتسمية وزرائها في حكومته الجديدة في وقت لا يحتمل هدرا وتأخيرا والبلد واللبنانيون ينتظرون تأليف حكومة تنهض بهم من خلال خطة إصلاحية معالمها واضحة للجميع بعيدا عن العرقلة والمناكفة والتعطيل وان التفاهم الوطني في هذا الظرف الصعب هو الممر الإلزامي لحفظ لبنان لأن نجاح العملية السياسية في البلاد وتحقيق مصالح لبنان عموما هو في تشكيل الحكومة بأسرع وقت ممكن لان لبنان أمام تحد كبير وربما فرصة أخيرة فإما لجم الانهيار والتفاهم والتضامن أو الذهاب إلى الأسوأ مع تزايدت حالات الإحباط في الوسط اللبناني المتطلع للتغيير
إمام الرئيس الحريري خياران لتشكيل حكومة وفق الصيغة الأوفر حظا حتى الساعة وهي حكومة تكنوقراط تحظى بغطاء سياسي سميك لتجاوز الأزمة حسب معظم التحليلات السياسية الخيار الأول أن يعود الحريري إلى نغمة تأليف حكومة لا أحزاب فيها ولا وجوه سياسية وهو خيار غير مقبول لكونه زعيما لفريق سياسي منذ عام 2005 ورئيسا لتيار سياسي ( تيار المستقبل ) شارك لسنوات في حكومات سياسية كانت آخرها حكومته التي استقالت العام الماضي وهو خيار يعني أيضاً أن الحكومة لن ترى النور ما يعني تكرار تجربة السفير مصطفى أديب أما الخيار الثاني فهو تأليف حكومة سياسية مشروطة بالاتفاق مع القوى السياسية على تسمية أسماء مريحة ومقبولة وغير مستفزّة والعقدة المشتركة بين الخيارين في إصرار الحريري على استثناء جبران باسيل ( التيار الوطني الحر ) منها ولذلك يعتقد الكثير من الحريصين على مستقبل لبنان واستقراره ان حل المشكلة يكمن اولا في إصلاح النظام السياسي اللبناني الذي يقوم على معادلات وتوازنات طائفية ومحاصصات في المناصب التنفيذية فمنذ سبعين عاماً فشلت الأحزاب في الخروج من القاعدة الشعبية الطائفية إلى القاعدة الشعبية الوطنية بالرغم من طروحاتها السياسية الوطنية والقومية والإنسانية المتكررة وكذلك الحل لا يكون في تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة تكنوقراط أو حتى في انتخابات جديدة ففي كل الأحوال سيبقى اللاعبون الكبار هم أنفسهم يلعبون وفق شروط اللعبة نفسها وهم يمسكون بخيوطها ويعيدون إنتاج أنفسهم مع كل استحقاق حكومي ومع كل انتخابات جديدة وعليه يجب ان تكون الحكومة التكنوقراطية القادمة فاعلة تلبي مطالب التغيير وحاجات الناس الملحة بعيدا عن الطائفية والمحاصصة وبعكس ذلك سيبقى البلد منكوب لأن منظومة الفساد ستبقى أكبر من الدولة

نعلم بقناعة راسخة ان سعد الحريري ليس الأفضل لكنه على اقل تقدير الآن هو أفضل الموجود رغم ما يشوب تاريخه السياسي ونهجه من تهم فساد واستثمار وظيفي وتكسب غير المشروع وعدم قدرته على إيجاد أي حلول للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية فضلا عن هدره للأموال العامة وعدم تحقيق المشاريع والخطط في مجالات الكهرباء والسدود والمياه ومكافحة الفساد والضمان الاجتماعي والصحة والبطالة والفقر وانهيار النظام المصرفي وانه مرتبط بالقرارات والإملاءات الخارجية لبعض الدول وخاضع لابتزازاتهم بسبب مصالحه المادية الشخصية ويرى البعض في عودته تغطية للطبقة السياسية الشريكة في الفساد وتجديد لمرحلة السياسات الخاطئة التي أوصلت لبنان إلى هذا الوضع وهو دافع قوي لإعادة الحماس لإحياء ما سمي ثورة ١٧ تشرين الميتة بنزول اللبنانيين الى الشارع للسيطرة من جديد على بعض الوزارات وإحداث والمؤسسات العامة واحداث فوضى قد تجر البلاد الى حرب محاور واشتباكات داخليه وفتن متنقلة لا تنتهي
هنالك خشية وقلق متزايد لدى الكثير من اللبنانيين وعلى كل المستويات بأن البلد على حافة الانتظار والانفجار والخوف ان لا يكون تأليف حكومة إنقاذ في المدى القريب المنظور وبأسرع وقت خاصة مع استمرارية إشكاليات الهوية والفسيفساء الطائفية التي ستدخل البلاد مرة أخرى في فراغ سياسي وحالة من الغموض والاحتمالات والترقب وتجدر الإشارة هنا إلى أن موضوع تشكيل الحكومة في لبنان كان على الدوام تحديًا للمجموعات والتيارات السياسية في السنوات الأخيرة

وبعيداً عن جميع التعقيدات التي ستواجه الحريري وقد تقوده إلى الموقف الذي انتهى إليه مصطفى أديب من قبل ليعتذر نزولاً عند قوله عندما رشح نفسه إنه إذا لم يستطع تشكيل حكومة اختصاصيين تعمل تحديداً على تنفيذ الخطة الإصلاحية التي اقترحها الرئيس الفرنسي ووافق عليها كل الفرقاء فإنه سيستقيل ورغم كل ذلك سنظل على أمل وتفاؤل ان تتضافر كل الجهود من أجل إنجاح عمله وتشكيل حكومة فاعلة وقادرة على القيام بالإصلاحات المطلوبة لإعادة الثقة داخلياً ودوليا للبنان وان لا يعود الحريري نفسه الى تعبير ( تجرّعت السمّ ) حين وافق في وقت سابق على تولّي شيعي وزارة المالية وان لا ينطبق عليه أيضا قول جلال الدين الرومي ( لربما أنك باحثٌ في الأغصانِ عما لا يظهر إلاّ في الجذور )
















تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات