التَّصحُّرُ والموتُ بالصَّمت عَشوائياتٌ في الحب



رفيقةٌ يافاوية مُناضلةٌ عتيقة ، ممن يَجرُؤنَ على الخروج بلا ماكياج ، لم ألتقيها منذ تزوجت . جاءت إلى قدّاس الأحد بثوبٍ أسود بسيط ، تَلْحمِيُّ التطريز . تلفُّ عنقَها الجميل دون رأسها ، بشالٍ أبيض مُطرَّزٍ هو الآخر . في عينيها حزنٌ داكنٌ مُوشّى بغضبٍ ظاهر . كانت تختنق بدمعٍ يأبى مغادرة مَنابعه وسَواقيه . أطْرَقْتُ مُتجهِّما حين رأتني بانتظارها أتمشى في باحة الكنيسة . سرعان ما انتبذنا مكانا قصيا. وما أن جلسنا تحت زيتونة ضخمة هناك ، وقبلَ أن تقول شيئا ، رمقتني بنظرةٍ طويلة ، إنثالت معها كلماتٌ صامتة ، اختصرت الكثير من الحكاية :
لستُ بخيرٍ يا شيخي . لم يفِ بما وعَدَت به رجولته . مِزاجيٌّ يقتل كلَّ لحظة . لا يتَّسعُ لسانه إلاّ لما لا يُطاق . أخرَجَني تردُّدُه عنْ سِياقي . بتُّ معزولةً عن كلِّ ما حَولي . بعدَ سبعِ سنينٍ عِجافٍ ، مِنْ زواجٍ تقليدي ، كنتَ أنت شاهدا عليه ، لمْ يَعُد يُشبِهني . ولمْ يَعُد حُزْني يشبهه . إختفَت تفاصيله الصغيرة منْ دواخلي .
ودمعٌ حائرٌ يقفُ مُتربِّصا على حواف عينيها ، أكْمَلَتْ بصوتٍ مُرتجف : لم يَعُد قلبيَ يَطير ، تؤلمني دقاتُه المُتكاسلة . تَعجُّ نفسي بتنويعاتٍ من العقوق والخذلان . أجبرتني على صياغة صمتٍ مُخيف رغم هدوئه . تعاطَيتُ الصبر الجميل ونَفَذَ . كنت أتَحَكَّمُ بخوفي من التذمر ، فصِرتُ أخافُ أن ينحرفَ خَطْوِيَ . لا أريد التَّعَوُّدَ على فراغٍ فيه الكثير مما لا يقال ، ولا يَتنهدُ فيه شيءٌ ، إلاّ أصابعي .
تنهدت مطولا قبل أن تواصل بصوت يشبه الرجاء : بقايا حنين صامت ، وذكريات تتفلت ، وأمنيات ملجومة تتشبث بالحياة ، تتمنى عليك يا شيخي ، ان تأخذ بيدها إلى شيء منَ النور .
إنتبهنا لقرع الأجراس ، إتّجهنا إلى الكنيسة وهي ترفع شالها فوق رأسها . جلسنا في الصف الأخير . وهي تتابع القس ومساعده الشماس ، كنت اتأمل في رسم السيد المسيح عليه السلام ، وما يحيط بصليبه من ايقونات ، ولساني يلهج بحمد الله واستغفاره والدعاء لوالِدَيَّ .
بعد المناولة مباشرة ، خرجنا إلى حيث كنا قبل الصلاة نجلس ، تمعنت في عينيها ، وأصابع يدي اليمنى تداعب سبحتي ، قلت : أعلم كم أنت كثيرةٌ ، نبعٌ لا يشيخ ولا يمل . ومع هذا أود التأكيد لك ، على أن بعض افتراضات الحياة العامة لزجة ، تشَوِّشُ الرؤية ولا تصلح للإستنتاج . منها الظن أنَّ هناك فِقهٌ مُتكاملٌ للحياة ، يُغطي بنفس الدرجة من الجُهوزيَّةِ ، جميعَ التحولات فيها . من الخطورة بمكان ، نسخ تجربةٍ أو تلفيقُ فقهٍ إنتقائي هجين . والأخطر من ذلك ، التشبه بالمقارنة ، والتعميم بلا تخصيص .
الشراكة يا سيدتي كالقفز من مكان عال ، عقلك ينهرك أن لا تفعلي كي لا تموتي ، وقلبك يوشوشك أن لا تقلقي فبإمكانك الطيران . كان عليك أن تدركي منذ البدء ، أن هناك أنواعا كثيرة للغرق غير الماء ، وللقتل غير الرصاص . النَّقُّ واللسانُ السليط والمحاصرة والترصُّد وسيمفونيات العتاب ، والغضب الطفولي والكيد الساذج ، اخطر من الماء والرصاص .
ومن ثم أقول على العموم : حين نشارك ، علينا أن ندرك أن الأشياء الجميلة لا تأتي إلا مشتركة ، لا تُنْتَظَر ولا تُطْلَبْ من الآخر ، بل باولويات تُصنع وتجدد بالتوافق المشترك ، وتُلون معا . الشراكة ليست سوقا للتداول والمقايضة الفظة ، ولا تلتزم بقانون المرابحة : إن حَبِّتْني أحِبَّك أكثر .
قالت بقلق : وإن أتت على قلبك لحظاتٌ وإشارات أثقل من الجبال ، ماذا تفعل لتتوقف عن ظلم نفسك ؟!
سارَعْتُ مُقاطعا وأنا أنقل السبحة إلى أصابع يدي اليسرى : من الحقائق المُرَّة في الشراكة ، أن في كل حقبة منها خصومات ، لكنها ليست حواضن للإكتئاب ، بقدر ما هي منصات لإنطلاق جديد .
قالت بشي من التشكيك المُتعجب : كيف ؟!
قلت بيقين : حالات النفورمن البدايات غير المتوقعة ، تسبق في العادة الضجر من التصحر ، بضمة أوبسمة أو ومضة عين أو قبله عابرة عشوائية . فقبل أن تصبح العلاقة نوعا من الطلاق الصامت ، يتم الجفاء بين أركان العقل والقلب ، وتتساوى الأشياء فيها كالماء ، لا طعم ولا لون ولا رائحة .
إذا بتِّ عاجزةً عن الأمساك بصدى صراخك ، ولتكن النهايات كما تريدينها ، تحزّمي بصبرك واحملي ما تبقى منك ، وارحلي بهدوء . إمضي بلا وجل ، والقِ وسادتك حيث تستريح روحك ، وتلاقي ضحكتك ، وهناك ابني لك بيتا .
ولأن التعود يخدع صاحبه ، إبتعدي بلا أسف ، عمَّن بالتَّعمُّد أضلَّ طريقك . إن لم يعجبك مكانك ، قومي بتغييره ، فأنت لست شجرة في غابة لتثبتي مكانك ، ولا جلمود صخر . حتى الطيور تهاجر من سماء فسد فضاؤه . إذا لم تكوني في الأماكن التي تحبينها ، فأنت لاجئة أينما كنت . وأنت تتلفتين على أرصفة الحياة من حولك ، إفتحي بصيرتك وُسْعَ جِراحك ، فهي مكتظة بشركاء محتملين ، يبحثون مثلك عمَّن يوقِدُ نارا ويعزز ما يضمر في الصدور . وحين تلتقين من يعتنق روحك ، تذكري أن الحب كالتدين لا إكراه فيه ، ولا تعصب وتذكري أنَّ أيَّ شراكة لا تؤيَّدُ بحسن التدبير ، والصبر الجميل ، والتفهم المتسامح ، والمغفرة المتجددة ، تتفسخ وتتلاشى .
ساعَتَها ، لا تقولي إنَّ الدنيا تُعطيني ظهرَها ، فأنت يا سيدتي من يجلس في المكان الغلط . إن في الحب أشياءٌ كثيرةٌ جميلةٌ ، تستحق الصبر من أجلها ، قبل إعلان الموت بالصمت .






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات