التشريع والواقع: مَنْ يسبقُ الآخر؟


الأصلُ في التشريع أن يُجاري الواقع بتحدياته ومستجداته وأن يحيط به تنظيماً وتفصيلاً، بل إن جودة التشريع تفترضُ أن يكون المشرّع قادراً بدرجةٍ معقولة على التنبؤ واستشراف المستقبل والتصدي المسبق للتحديات المنتظرة. وهذا الوضعُ يعكسُ رُشد السياسة التشريعية في الدولة ونضجها.

لكن المتابع لحركة وأوضاع التشريع يلحظ أحياناً قصوراً هنا أو هناك، وبعض هذا القصور متوقعٌ ويعود إلى طبيعة صناعة البشر التي يلازمها النقص والقصور وهو يقع في إطار ما يمكن توقعه ومعذرة المشرّع فيه. أما إذا كان النقص يرقى إلى درجة عدم القدرة على توقع المتوقع أو استقبال القادم الأكيد فهذا يُخرج التشريع والسياسة التشريعية عن استحقاق معيار الجودة. والأدهى من ذلك أن يسبق الواقع التشريع أو يتفوق عليه في مشتملاته وأحداثه، وفي هذه الحالة لا يكون التشريع متأخراً عن الواقع فحسب، بل يكون غير صادق في التعبير عنه ونقله، وهذا لعمري يدعو للعجب ولا يُعذر فيه المشرّع.

أقول ذلك عندما مطالعةِ بعض النصوص الحاضر منها أو الغائب، التي لا تعبأ بالواقع ولا تستحضره فتجد الواقع متقدما عليها في حيثياته؛ فإذا كان النظام القانوني للدولة يتجاهل منظومة الحقوق البيئية الموضوعية منها والإجرائية في حين أن الواقع يُشير إلى تقدم فكرة هذه الحقوق وحضورها في الوعي القانوني والإداري والاجتماعي وحتى الشخصي للأفراد والمؤسسات، فإن التشريع في هذا الحالة يكون متأخراً عن الواقع ولا يعبر عنه بالصدق أو الدقة المطلوبة. وإذا كانت منظومة الحقوق المقررة للعمال قاصرةَ عن تلك الممنوحة لهم أصلاً على أرض الواقع فإن التشريع يخفق حتى في التعبير عن الواقع بالمصداقية المطلوبة. وإذا كانت الدولة والمجتمع تُعنى بالرياضة دعماً وممارسةً فإن خلّو التشريع من نصوصٍ تعكس هذه العناية وتروجُ لها وتضمن لها الاستمرار يعتبر ثغرةً لا يُعذر المشرّع ببقائها. وكذا الحال في باقي المسائل.

بعض التشريعات تسبقُ الواقعَ، وبعضها يسبقه الواقعُ. الأول يمثلُ قوة مؤسسة التشريع، والثاني يُشير إلى ضعفها. وإذا كانت الدول تتسابق لإظهار تشريعاتها على أفضل صورة، وتتباهى بتقدم منظوماتها التشريعية في كل محفلٍ حتى ولو تضمنت مبالغاتٍ - لا أساس لها على أرض الواقع - على أمل الوصول إليها، فكيف يكون حكمنُا عندما يكون التشريعُ غير واقعيّ أو غير دقيقٍ في مجردِ نقله لتطور الواقع الذي يسبقه ويتفوق عليه؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات