توطين التشريع وبناء الهوية التشريعية


القانون مرآة الحياة في المجتمع والدولة، وهو بحسب الأصل انعكاسٌ لواقع المجتمع وخصائصه واحتياجاته وأولوياته وتطلعاته يتأثر بها ويؤثر فيها ويعبر عنها ويتطور بتطورها ويتغير بتغيرها، فالقانون والمجتمع مَثلهما كمثل الجسد وظله في الوضع المثالي للظل، يرافق الجسدَ ويعكس حالته وهيئته وامتداداته. 

والقانون يعكس هوية المجتمع والدولة؛ وبهذه المثابة لا بد أن يكون التشريع صادقاً في التعبير عن هذه الهوية لا يظلمها ولا يُسلمها. بل يتمثلها ويمثلها كأصدق ما يكون التمثل والتمثيل؛ ليعكس بذلك الهوية التشريعية الحقيقية للمجتمع والدولة. ويُقصد بالهوية التشريعية أن يكون لتشريع الدولة خصوصية تراعي واقع مجتمعها وخصائصه واحتياجاته وأولوياته، ما قد يستدعي بالضرورة توطين النصوص والأحكام من دون إغفالٍ لإمكانية الاستفادة الراشدة من النظم القانونية الأخرى والمقارنة. 

ويتجلى وجود هويةٍ تشريعية متميزة للدولة في مظاهر وله مزايا يمكن إجمالها بمايلي: 

• ملائمة النصوص والأحكام لواقع مجتمع الدولة وخصائصه واحتياجاته وأولوياته. 
• تعزيز حضور النظام القانوني الوطني في الأدبيات القانونية المقارنة بسبب تفرد الأحكام في الشكل والمضمون. 
• قوة وريادة الاجتهاد القضائي الوطني بحكم فرادة الأحكام وضعف فرص التقليد. 
• مرونة أكبر للمشرع والقضاء والفقه، وفتح فرص التطور بعيداً عن تقليد السائد وتنميط الأحكام. 
• ربط التشريع الوطني بجذوره الموضوعية الأصيلة وعدم القطع مع تلك الجذور. 
ومقابل هذه المظاهر والمزايا لوجود هوية تشريعية متميزة للدولة، فإن لغياب الهوية التشريعية المتميزة للدولة مظاهر ومخاطر نجملها فيما يلي: 
• غرابة وعدم ملائمة لغة التشريع ومصطلحاته. 
• عدم ملائمة مضمون النصوص والأحكام لواقع الدولة ومجتمعها. 
• تهميش النظام القانوني الوطني وعدم ظهوره في الأدبيات القانونية المقارنة. 
• ضعف الاجتهاد القضائي وجنوحه نحو التقليد والاستنساخ. 
• زيادة فرصة الريادة القانونية للدولة على مستوى التشريع والقضاء والفقه. 
• تشوهات في النظام القانوني الوطني قد تصل إلى ما يمكن تسميته بالتلوث التشريعي نتيجة استنساخ الأحكام واستجلابها من دول أو نظم قانونية تختلف في ظروف وخصائصها واحتياجاتها وأولوياتها عن الدولة. 

وحيث بدت أهمية أن يكون للدولة نظامٌ قانونيّ يعكس هويتها التشريعية، فلا من السعي الحثيث لتحقيق ذلك ويمكن إجمالاً رصد آليات يمكنها أن تساعد على بناء وتعزيز الهوية التشريعية للدولة وهي تأتي ضمن مسارات ثلاثة في التعليم القانوني والبحث العلمي، والتشريع والقضاء. 

فعلى صعيد التعليم القانوني والبحث العلمي يمكن ملاحظة أهمية المسائل التالية: 

1- أن يكون التعليم القانوني باللغة الوطنية. 
2- تشجيع تعلم اللغات الأجنبية لتسهيل الاطلاع على المحتوى القانوني الأجنبي والاستفادة منه 
3- تخطيط وتنويع وتقييم الابتعاث الخارجي للطلبة وتوظيف كوادره في مختلف المؤسسات القانونية الأكاديمية والتشريعية والقضائية. 
4- تشجيع الدراسات والأبحاث باللغة الوطنية وفي إطار النظام القانوني الوطني. 
5- تشجيع الدراسات والأبحاث باللغة الوطنية واللغات الأجنبية في إطار النظام القانوني الوطني والمقارن. 
6- تشجيع ترجمة التشريعات الأحكام والأدبيات القانونية الوطنية والأجنبية من اللغة الوطنية واللغات الأجنبية وإليها. 
7- إنشاء مركز أبحاث متخصصة بالقانون المقارن. 
8- تشجيع المؤتمرات والمنتديات القانونية وحضورها والمشاركة الفاعلة في أعمالها. 

وفي ميدان التشريع، يمكن ملاحظة أهمية المسائل التالية: 

1- تطوير آليات تشكيل السلطة التشريعية كقانون الانتخاب والنظم الإجرائية اللازمة. 
2- تعزيز قوة السلطة التشريعية على المستوى الدستوري والعملي. 
3- وضع وتنفيذ خطط وبرامج تدريبية للسادة أعضاء السلطة التشريعية في مجال السياسة التشريعية وصياغة النصوص وتفسير القانون والقانون المقارن من خلال الدورات تدريبية والزيارات العلمية وحضور المؤتمرات والندوات ومناقشات الرسائل الجامعية. 
4- إنشاء جهاز استشاري مساند ومرن لمعاونة أعضاء السلطة التشريعية ولجانها. 
5- تعزيز استقلال السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية على أساس مبدأ الفصل المرن بين السلطات واحترام مبدأ استقلال القضاء. 
6- التفعيل الحقيقي للقضاء الدستوري ورفع كفاءة نظام القضاء الإداري. 
7- تشجيع وتفعيل فكرة التخصص في القضاء كبديل أفضل وأبسط من فكرة إنشاء قضاء خاص. 

أما في مجال القضاء فيمكن الحديث عن المسائل التالية: 

1- تحسين النظم الإدارية الناظمة لعمل القضاة من حيث شروط ومعايير التعيين والتقييم والترقية واستبقاء الخبرات القضائية واستقطاب الخبرات القانونية المتميزة. 
2- التوطين الكامل لأعضاء السلطة القضائية وفق خطة قصيرة إلى متوسطة المدى، وعدم الاستعانة بقضاة من غير المواطنين إلا للضرورة القصوى وفي إطار ضوابط مشددة تضمن الكفاءة والجدارة والتنوع والتميز والإبداع في العمل القضائي، مع ملاحظة إن أي حديثٍ أو جهد لتوطين المهن القانونية لن يؤتي أٌكُله إلا إذا سبقه جهدٌ راشدٌ لتوطين التشريع؛ لأن توطين العنصر البشري ممكنٌ تحقيقه بسهولة أكبر ولكن بفاعليةٍ أقل ما دام التشريع نفسه يعاني اغتراباً عن واقع الدولة والمجتمع. 
3- توفير جهاز إداري وبحثي مساند لأعضاء السلطة القضائية يتولى توفير التشريعات والأحكام والأدبيات القانونية الأجنبية والمقارنة باللغة الوطنية بناءً على طلب السادة القضاة ووفق دواعي الحاجة. 

ويبقى الحديث عن التشريع والهوية التشريعية للدولة حديثاً يطول ويحتاج إلى جهودٍ وخبراتٍ وأفكار جميع شركاء العمل القانوني في مختلف المؤسسات والسُلطات؛ للنهوض بواقع المجتمع والدولة وترك بصمةٍ متميزة للنظام القانوني الوطني في إطار البصمة الوطنية الأكثر شمولاً وتنوعاً.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات