تيريزا ماي المرأة الصعبة التي أسقطها عنادها 


امرأتان في التاريخ السياسي حكمتا بريطانيا العظمى الأولى مارغريت تاتشر التي تعد فترة حكمها كرئيسة وزراء هي الأطول في تاريخ المملكة المتحدة 1979-1992وقد حصلت على لقب بارون ووضع لها تمثال في مبنى البرلمان البريطاني والثانية تيريزا ماي وإذا كانت تاتشر لقبت بالمرأة الحديدية لإصرارها على قراراتها بقوة فإن ماي وصفت من قبل زملائها في حزب المحافظين بالمرأة الصلبة والفولاذية والصعبة للغاية وهي الصفة التي اعتبرتها وسام شرف فيما يتهمها خصومها بالعنيدة والجافة التي من الصعب معرفة ما تفكر فيه ولا تتقبل الأفكار الجديدة وضمن نهج متقلب تحيط به المخاوف والمفاجآت والخفايا ومنذ حزيران عام 2016 قادت بإصرار سفينة حكومتها بعكس التيار في بحر متلاطم الأمواج من اجل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والوصول إلى بر الأمان وحفظ ماء الوجه بأقل الخسائر الممكنة متحدية جميع الظروف والصعاب التي واجهتها إلا أن مسلسل "البريكسيت " بمفاجأته وخفاياه وهزائمه المتوالية كان بمثابة الصخرة القاسية التي تحطمت عليها طموحاتها وانهت مستقبلها وأرغمتها على الاستسلام .

في خطاب وداعي لها عقدته قبل أيام وصف بالصارم والمتحفظ وغير المفاجئ مفعم بالمشاعر الجياشة كادت فيه ماي ان تجهش بالبكاء وهي تعلن استقالتها أمام مقر رئاسة الوزراء "10 داونينغ ستريت " قائلة في بيان عاطفي مؤثر ومليء بالحرقة والألم والخيبة إنها ستستقيل في 7 حزيران تمهيداً لانتخاب رئيس وزراء جديد حيث قالت لقد "بذلت قصارى جهدي" لتحقيق نتائج الاستفتاء على "بريكست" مشيرة الى أنها ستبقى "نادمة" لأنها لم تتمكن من تنفيذ عملية الخروج وبذلك ستكون ماي في منصبها عندما يزور الرئيس الأميركي دونالد ترامب المملكة المتحدة بين الثالث من حزيران والخامس منه .

بعد ثلاث سنوات من الهزائم السياسية والمصادمات البرلمانية والحزبية والشعبية المتتالية ألقت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي السلاح معلنة استقالتها من منصب تولّته أصلا لتنفيذ نتيجة الاستفتاء على خروج بلادها من الاتحاد الاوروبي "بريكست" واضطرت الى التخلي عنه للسبب نفسه حيث تعرضت لضغوط كبيرة للاستقالة بعد اعتراض أعضاء من حزبها على خطتها التي تفاوضت عليها مع الاتحاد الأوروبي وقد رفض مجلس العموم تلك الخطة ثلاث مرات قبل أن تفشل نهاية الأسبوع الماضي في التوصل إلى تسوية مع حزب العمال للمرة الرابعة ومع استقالة ماي تنطلق معركة وسباق خلافتها لاختيار زعيم لحزب المحافظين ليصبح رئيساً للوزراء وربما يكون مؤيداً أشد صرامة منها للخروج من الاتحاد الاوروبي وبذلك تبدو بريطانيا أمام مرحلة جديدة من الفوضى وسط أسئلة جديدة تلوح في الأفق عما اذا كان رئيس الوزراء المقبل سيدفع لخروج بلاده من الاتحاد الاوروبي في 31 تشرين الأول المقبل دون اتفاق أم أنه سيحاول إحداث اختراق في مجلس العموم بالدعوة الى انتخابات مبكرة .

من الغريب جدا ان ماي كانت مؤيدة لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي عام 2016 رغم أنها نادرا ما شوهدت خلال حملة البقاء في الاتحاد لدرجة أن الموظفين في داوننيغ ستريت أطلقوا عليها حينئذ "ماي الغواصة" لأنها دأبت على الاختفاء كلما احتاج كاميرون لدعمها علنا لحملة البقاء في الاتحاد ثم انقلبت على نفسها وأصبحت من اكبر الداعمين واشد المطالبين للخروج وقد فعلت المادة 50 من اتفاقية لشبونة في أوائل عام 2018 لتبدأ عامين من التفاوض مع الاتحاد أكدت خلالهما مرارا استعداد بريطانيا للخروج دون اتفاق قائلة " لا اتفاق خير من اتفاق سيء " ولكن المفاوضات تعثرت مرات عديدة مع بروكسل على خلفية ملف الحدود في ايرلندا الشمالية وفي تلك الفترة استقال الوزيران بوريس جونسون وديفيد ديفيس قائلين إن هذا ليس البريكست الذي يريدانه كما انحسرت الآمال أيضا في التوصل إلى اتفاق تجاري حيث تناولت المحادثات تحقيق مهلة انتقالية مدتها 21 شهرا للسماح بمزيد من الوقت للتفاوض وفي تشرين الثاني عام 2018 كشفت ماي عن مسودة اتفاقها مع الاتحاد الأوروبي بشأن البريكست لتفاجئ بسلسلة من الاستقالات من فريقها الحكومي .

لكن قضية الحدود الايرلندية ظلت حجر عثرة في الاتفاق يحول دون عودة النقاط الحدودية بين ايرلندا الشمالية والجنوبية حتى يتم التوصل إلى اتفاق تجاري في نهاية المرحلة الانتقالية ولكن لم يكن هنالك إطار زمني لهذه العملية وكان من الصعب على ماي تمرير اتفاقيتها في البرلمان الذي اعترض على الخطة اربع مرات تخللتها محاولة لسحب الثقة منها ومن نواب حزبها تارة ومن حزب العمال تارة أخرى وجميعا اتفقوا على رفض اتفاقها وصوت البرلمان برفض الخروج دون اتفاق وهو أمر كانت ماي تصر دائما على ابقائه على مائدة التفاوض وقد تعرضت لمزيد من الإذلال عندما وافقت على مشاركة بريطانيا في انتخابات البرلمان الأوروبي وهو الأمر الذي كانت قد أشارت سابقا إلى أنه غير مقبول وبقيت تتعرض للانتقادات من كل الأطراف وتواجه الضربات السياسية من كل الزوايا والتي تمثلت في استقالات وتمرد برلمانيي لحزبها الحاكم ومع اقتراب النهاية اتهمت ماي العديد من نواب البرلمان بأنهم السبب في الطريق المسدود الذي وصلت له عملية البريكست ثم عرضت الرحيل من المنصب قائلة لمنتقديها إنها ستتنحى حتى لو دعموا اتفاقها بشأن البريكست والحقيقة المؤكدة اليوم ان تيريزا ماي سقطت بسبب أوروبا كما سقطت من قبلها مارغريت ثاتشر من زعامة حزب المحافظين .

لقد خيم البريكسيت بظلاله السوداوية على كامل الفترة التي تولت فيها ماي منصبها والتي استمرت نحو 3 سنوات حيث بذلت جهدا كبيرا لتحقيق نتيجة الاستفتاء الذي دعا إليه سلفها ديفيد كاميرون ولكنها ظلت تتعهد بتفعيل "إرادة" الشعب البريطاني رغم تقلص نفوذها وسيطرتها على البرلمان والحزب وقد دأبت على التصريح بأن "البريكست يعني البريكست" وتعهدت بتنفيذ إرادة الشعب التي عبر عنها في الاستفتاء وان تحترم نتيجته وقالت إن بريطانيا في المرحلة القادمة بحاجة لشخصية قوية تقود البلاد .

اشتهرت ماي بأنها تستطيع الصمود وسط ظروف شبه مستحيلة لكنها كانت من بين أقل رؤساء الوزراء بقاء في منصبهم في تاريخ بريطانيا وقد تولت رئاسة الوزراء في عام 2016 لتصبح ثاني امرأة تتولى المنصب لكن على عكس مارغريت ثاتشر وصلت ماي عن طريق منافسة على القيادة بدون الفوز في انتخابات وقد أظهرت شجاعة فائقة وصمود لافت في التحدي الذي واجهته بالتصويت على سحب الثقة منها لكن في المقابل جاءت نتائج الانتخابات المحلية مخيبة لحزب المحافظين ورفض مجلس النواب خطتها للخروج من الاتحاد الأوروبي ثلاث مرات وتسببت خطتها الأخيرة بنشر مشروع الاتفاق على الانسحاب في إغضاب الكثير من أعضاء حزب المحافظين كما فشلت في الحصول على دعم حزب العمال المعارض كل هذه الظروف أدت في النهاية إلى تراجع شعبيتها ومكانتها إلى أقل معدلاتها مما اوجب اختصار فترة رئاستها للوزراء باستقالتها بعدما فقدت المساحة الكافية التي تمكنها من المناورة والتفاوض في الكثير من القضايا ومنها الخروج من الاتحاد الأوروبي .

ويرى كثير من المحللين ان الأزمة المتعلقة بخطة الخروج من الاتحاد البريطاني أفقدت ماي الكثير من أهم أعضاء الحكومة في فترة زمنية قصيرة حتى أن عدد استقالات الوزراء في حكومتها فاق بشكل قياسي ما فقدته حكومتا توني بلير ومارغريت ثاتشر في عشر سنوات ولم تحظى ماي بولاء أعضاء مجلس وزرائها وكانت الانقسامات سمة أساسية طيلة فترة حكمها وقد تعرضت لسلسلة من الهزائم في مجلس العموم بسبب اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي إذ رفض المجلس الاتفاق بفارق 149 صوتا وهي الهزائم الأكبر التي واجهتها أي حكومة في تاريخ البلاد 
تسلمت تيريزا ماي رئاسة الوزراء في بريطانيا يوم الأربعاء 13 تموز عام 2016 بعد أن قبلت الملكة إليزابيث الثانية استقالة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون وماي ابنة قس لقي حتفه في حادث سيارة وعمرها 25 عاما في عام 1992 "علمها والدها أن تتعامل مع الناس كما هم وبشكل متكافئ " كما قالت وقد وضعت قدميها للمرة الأولى في مياه السياسة عندما خاضت الانتخابات مملثة لحزب المحافظين في مقعد شمال غرب دورهام وبعد تحالف حزب الأحرار الديمقراطيين مع المحافظين لتشكيل حكومة عام 2010 وكان أول ائتلاف حكومي منذ 70 عاما تولت فيه حقيبة الداخلية وقضت أطول فترة في منصب وزير داخلية في تاريخ بريطانيا الحديث نحو 6 سنوات وقد تراجعت معدلات الجريمة في عهدها ولمع نجمها في السياسة البريطانية لأول مرة عام 2013 حينما نجحت في ما فشل فيه كثير من الوزراء قبلها وذلك في قضية ترحيل الإسلامي المتشدد ابو قتادة الفلسطيني وإبعاده إلى الأردن ومنع تسليم قرصان الكمبيوتر البريطاني غاري ماكينون للولايات المتحدة وقد اتسمت بالقسوة والغلظة في تعاملها مع المهاجرين غير الشرعيين واتخذت قرار بجعل حياتهم وظروف معيشتهم أصعب عن طريق تقييد حصولهم على العلاج وغيرها من سبل الحياة وتعهدت بتنفيذ شعار " راحل أولا واستمع للاستئناف لاحقا " وهو الإثم الذي ظل يلاحقها بعدما أصبحت رئيسة للوزراء ورغم تعهداتها المتكررة فشلت في تقليل أعداد المهاجرين إلى عشرات الآلاف كما وعدت وتأخرت في خطة الرعاية الاجتماعية التي لم تُنشر حتى الآن .

رشحت ماي نفسها لرئاسة حزب المحافظين البريطاني وبالتالي لمنصب رئاسة الحكومة البريطانية خلفا لديفيد كاميرون وقد فازت بالسباق بعد انسحاب وزيرة الطاقة أندريا ليدسوم وهي في 59 من عمرها حينئذ فكانت أكبر رئيس حكومة سنا يدخل داوننغ ستريت منذ جيمس كالاهان عام 1976 وأول رئيس حكومة ليس لديه أبناء منذ تد هيث وهي أول رئيسة تتولى مهمة إخراج بلدها من منظمة كبرى تتجاوز الحدود الوطنية تعرفت على زوجها من خلال رئيسة وزراء باكستان السابقة بنازير بوتو في جامعة أكسفورد وعاشت حياة حزن وحسرة مع زوجها فيليب لعدم إنجابهما الأطفال وقد حلمت أن تصبح رئيسة وزراء بريطانيا منذ أيام دراستها الجامعية .

وقد أشارت ماي مرات عديد إلى جملة من الإنجازات الأخرى التي حققتها في فترة رئاستها بخلاف خطة بريكست مثل الضغط على الشركات التي يزيد فيها عدد الموظفين على 250 للكشف عن الفروق في الرواتب بين الرجال والنساء وكذلك زيادة ميزانية الخدمات الصحية الوطنية بقيمة 20.5 مليار جنيه استرليني في العام بحلول 2023 وهي زيادة بمعدل 3.4 في المئة في العام بالإضافة إلى خطة بيئية مدتها 25 عاما تتضمن إلغاء بيع السيارات التي تستخدم الديزل والبنزين بحلول عام 2040 كما ألغت ماي تجميد واحد في المئة من رواتب القطاع العام وقد وضعت حدا أقصى لفواتير الطاقة ووضعت أهدافا لبناء المنازل تتضمن بناء منازل اقتصادية .

يبقى في الختام ان نكرر بان تيريزا ماي امرأة فولاذية قوية وصعبة أسقطها إصرارها وعنادها .

mahdimubarak@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات