الجزائر انتصار الخيارات الوطنية بالاحتِجاجات الشعبية


من المؤكد أن هنالك لوبي فاسد وقوي هيمن على مقاليد ومفاصل الدولة الجزائرية لم يكونوا يؤمنون بالتداول السلمي للسلطة ولا بالديمقراطية أو الشورى واعتبروا أنفسهم أوصياء على الشعب في تكريس سلطته وبناء وطنه وحمايته حين سخروا مقدرات الدولة لمصالحهم الضيقة والرخيصة والتي تقتضي حتما بقاء الرئيس عبد العزيز بوتفليقه في منصبه وإصرارهم على ترشيحه مجددا حتى يتسنى لهم اﻷستمرار في السيطرة على الحكم ﻷطول فترة ممكنة اذ لا يمكن فهم ترشح بوتفليقه وهو على هذه الحالة والوضع الصحي الحرج على انه جاء برغبة شخصية محضة أو كان من أجل مصلحة الوطن والشعب .

وبعدما أصبح الشارع الجزائري معبأ وغاضب من النظام ليس عابرا هذه المرة بل غضب غذاه غرور وازدراء نظام سياسي يفرض على المواطن للمرة الخامسة على التوالي مرشحا مقعد ويعتبره الوحيد القادر على خدمة الجزائر وكأنها عقرت أن تنجب غيره وهو الذي أدّى واجبه وعليه أن يستريح بعد طول عناء وقد تسارعت المسيرات والاحتجاجات بشكل ملفت وعمت البلاد بمشاركة معظم الشرائح وعلى مدار ثلاثة أسابيع متتالية خرجت بشكل عفوي وتلقائي من قبل المواطنين ولم تكن منظمة من قبل أي حزب أو تبعية سياسية أخرى وقد شددت الجماهير في شعارها الأول على توخي سياسة ضبط النفس وعدم السماح للأوضاع بالتدهور والتريث والصبر وعدم الدفع باﻷحداث إلى المواجهة المباشرة مع كل من كان يقف أمام إرادة الشعب الجزائري وكان كل ذلك نابع من منطلق الحكمة والخوف على الوطن التي تكتب بماء الذهب إضافة الى التأكيد على حماية الممتلكات العامة فهي ملك للشعب وليست للفاسدين والوقوف سدا في وجه أعداء الجزائر ومنع أي تدخل أجنبي او قوى خارجية تسعى إلى تأجيج اﻷوضاع والعمل بشتى السبل على جر الجماهير الى إلى المزيد من التصعيد إلى أن تصل الأمور لصدام دموي وسقوط ضحايا وقد رفض الشعب بشكل مطلق بقاء النظام السياسي الحالي والذي يعاني من الجمود وسيطرة المحاربين القدامى عليه منذ استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962 ولقد أثبت الشعب الجزائري بما لا يدع مجالا للشك وهو يطالب بحقه الشرعي والمكتسب بأنه شعب حر ومثقف وعلى درجة عالية من الوعي والمواطنة عندما خرج الى الشوارع بصورة حضارية وسلمية من أجل وقف المهزلة اﻹنتخابية التي كانت وبحق معيبة على الجمهورية الجزائرية وشعبها لو استمرت وقد تعلم شعب الجزائر دروس ومأسي ما سمي بالربيع العربي وأخذوا العبرة ممن سبقوهم وكيف أصبحت بلدانهم مدمرة وأثر بعد عين وكيف أصبحت شعوبهم بين قتيل ومشرد ولاجئ .

وقد جاء انتصار وفرض إرادة الحراك والهبة الشعبية الجزائرية وتحقيق مطالبها سريعا لكنه غير مفاجئ بعدما أعلن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في رسالة إلى الشعب سحب ترشحه لولاية رئاسية خامسة وتأجيل انتخابات الرئاسة التي كانت مقررة في 18 نيسان المقبل 2019 وإجراء تعديلات جمة على تشكيلة الحكومة وتنظيم الاستحقاق الرئاسي عقب الندوة الوطنية المستقلة تحت إشراف حصري للجنة انتخابية وطنية مستقلة حيث كان قرار الرئيس حكيما وشجاعا أكد حرصه الكبير في الحفاظ على بلده ووحدته وعدم السماح بالانجرار إلى ما لا تحمد عقباه بعدما غلب لغة العقل والمنطق والحكمة ومصلحة الجزائر وشعبه فوق أي مصلحة واعتبار حيث اخرج الجرائر من نفق الأزمة المظلم وان كان مكرها وعلى مضض وبما يسترعي الحذر الشديد من معاودة الالتفاف على مطالب الجماهير التي خرجت الى الميدان وانتفضت من أجلها .

ولقد أسقط الشعب الجزائري بوعيه وحبّه الكبير وطنه كل الأكاذيب التي رُفعت في وجهه قبل يوم الخروج الأكبر حين صدحت سيمفونية النظام عاليا بتخويف الجزائريين المسكونين برعب العشرية الحمراء التي خلّفت أكثر من 250 ألف قتيل من مصيرٍ مشابهٍ لما تشهده اليوم سورية وليبيا ومصر وغيرها من البلدان العربية واجترار فزّاعة المؤامرة التي يتعرّض لها الوطن من الصهاينة واستهداف الأيادي الخارجية المتحالفة مع أعداء الداخل الا أنهم بوعي وطني جامع واجهوا الحرب المضادة للذباب الرسمي الإلكتروني وانتصروا عليه على الرغم من قطع السلطات شبكة الإنترنت وإغلاق مواقع التواصل الاجتماعي ووقفوا صفا وحدا في مواجهة المنتفعين من أحزاب السلطة والمال الفاسد وبعض أئمة المساجد المأجورين والمتحالفين مع الأجهزة الخكومية عبر الترويج الواسع لمقولات تحريم المظاهرات والخروج على ولي الأمر .

وكم كان منظرا مهيبا و مبهجا ومحل افتخار على طول أيام الاحتجاجات سماع أصوات اناشيد الحرية بين الحشود والدعوات السلمية والحث على الانضباط وصور باقات الورد التي يمنحها الشباب لأعوان الأمن وضباط الشرطة وعناصر الجيش في لحظاتٍ مسروقةٍ من زمن الذل تجاوزت الحقيقة كل أحلام الجزائريين الجميلة بعدما قفزوا فوق كل أصوات الفتنة والخضوع وفي مشهد عظيم وبعبقريةٍ شعبيةٍ فريدةٍ من نوعها اعلن الشعب الجزائري العظيم عن نفسه لمن لا يعرفه وهو يطالب بانجاز مشروع وطني سياسي وحضاري ضخم يُنهي زمن الوصاية والانتداب وحكم الرئيس الأوحد إلى الأبد وهذه هي خطوة الألف ميل في مسيرة الأيام المقبلة لاستكمال بناء الجمهورية الجزائرية الحضارية الحديثة بالعمل السياسي المنظم وعلى قاعدة الدستور والتوافق الوطني لتفكيك شبكة النظام السياسي القديم بعيدا عن قوة السلطة المزوّرة والمعارضة المدجّنة وتغييب الجماهير وسيطرة قيادات الجيش وثلة السياسيين الفاسدين على مراكز البلاد لأن جزائر ما قبل 22 شباط لن تكون أبدا هي جزائر ما بعده بمشاهد التلاحم والوحدة و التحضّر والوطنية حين اثبتوا أن هذا الشعب الذي اتُهم مرات عديدة بالهمجية والتخلف هو اليوم أكثر تحضّرا من الفرنسيين والأوروبيين حين يسكت إمام الاستفزازات الأمنية ويفرض بإرادة شعبية جارفة توقف العصا الغليظة عن انتهاك حرمة الأجساد والكرامة الإنسانية بعدما كسر الشعب الجزائري جدار الصمت والخوف الذي ضُرب حوله وكشف عن معدنه الحقيقي حين خرج بالملايين في جميع الولايات ليقول لا للولاية الخامسة وكفى احتقارا لنا ولتسقط كل رؤوس الفساد والاستبداد وضياع البلاد وفي هذه المرة كانت المشاهد مختلفة تماما حيث كان الناس بكل أطيافهم حاضرين يغنّون معاً للوطن الواحد كان الإسلامي إلى جانب العلماني والعروبي إلى جانب الأمازيغي والمثقف إلى جانب المواطن البسيط حيث أسقط الجميع شعاراتهم وخصوصياتهم جانبا ورفعوا العلم الجزائري وحده وقد جمعهم نشيد الشهداء " قسما " على الحرية وعلى إخراج البلاد من ورطتها ومن موتها الإكلينيكي ومن الظلم الذي استشرى في ربوعها والذي لا بد له أن ينجلي في هذه المرة .

ومع ان القرار الرئاسي انهى عهد الاستفزاز الشعبي وقوبل بالاحتفالات ومباهج الفرح من قبل المواطنين إلا انه في ذات الوقت يشعر الكثيرين بالقلق والترقب من أن عدم القدرة على تسمية خليفة لبوتفليقه البالغ من العمر 82 عاما وهو الذي يحكم البلاد منذ عام 1999 مما قد يؤدي إلى مرحلة سوداوية من عدم الاستقرار والفراغ السياسي في حال موته خلال فترة حكمه كما ويخشى ان يكون هذا القرار تمديد للعهدة الرابعة وليس إنهاء للعهدة الخامسة .

وبدون أي شماتة هل يعقل أن بلد مثل الجزائر قدم مليون شهيد ثمن للحرية خلال حرب التحرير ضد اﻹاستعمار الفرنسي يعجز عن تقديم شخصية وطنية محترمة وقيادي كفؤ ليتولى منصب رئيس الجمهورية بدل الرئيس الفاقد للأهلية العقلية والجسدية وهو على كرسيه المتحرك منذ إصابته بغلطة دماغية في عام 2013 والذي مازال يعاني من تبعاتها إلى يومنا هذا نسأل الله تبارك وتعالى ان يحسن له الخاتمة ونحمد الله انه أخيرا عرف قدر نفسه وأتخذ القرار التاريخي بعدم الترشح لولاية رئاسية خامسة لان هذا القرار سيخلده دون شك في صفحاته الناصعة فالتاريخ لا يرحم أحد فقد رمى في مزبلته العفنة بعض الرؤساء العرب الذين لم يحترموا إرادة شعوبهم وذهبوا إلى مصيرهم غير مأسوف عليهم .

واخير نقول لكل حاكم ظالم مستبد في كل مكان اعلم انه لا محالة سيجرفك طوفان الجماهير وستغرق في سيل الدماء وتأكلك العاصفة المشتعلة فحذار من فتحت الرماد واللهيب واعلم ان من يبذر الشوك يجن الجراح وإن الشعوب حينما تريد الحياة تنتصر على حكام الظلم والقهر الذين يحكمون بالنار والحديد ويسجنوا الشعوب في ذل وهوان وسوف نراهم يوما يسقطون كما الغبار فليس في الكون حاكم يستطيع مواجهة الشعوب إذا أرادت الحرية وإن الشعوب الحية هي التي تكتب التاريخ وترسم البطولات وتحيى إلى الأبد في سلام وامان ولا يغرنكم أيها الطغاة طول الأمد وسكون الشعوب وصبرها فإن قامت وثارت فإنها تقضي على كل دكتاتوريات الأعوام في أيام وفي تونس ومصر وليبيا واليمن خير شاهد وعبرة لإرادة الشعوب حينما تريد التغيير فهل من يتعظ منكم بغيرة دون نفسه وقبل ان يأتي دوره ؟

mahdimubarak@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات