70 عاما بلا وطن .. : قيس مراد قدري


70 عاما بلا وطن/ الشتات العاشر – وداع بيروت


مع مغادرة الدفعة الأولى من مقاتلي وكوادر منظمة التحرير الفلسطينية الى اليمن الجنوبي صبيحة 21 من شهر آب من العام 1982 بدأ طي صفحة الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان ؛ ذلك البلد الذي أودعنا في ترابه ألآف الشهداء وامتزجت فيه دماؤنا بدماء الكثيرين من أبنائه الوطنيين الشرفاء .

يوم واحد فقط هو كل ما اتيح لي كي أكون ضمن الدفعة الثانية المتوجهة الى تونس ؛ لا وقت لفعل أي شيء . ارتديت البذة العسكرية ولم أحمل معي أي متاع مع قناعتي أن اقفال باب بيتي لن يحول دون دخول اللصوص اليه خصوصا وأن زوجتي وولداي كانوا مازالوا في سوريا . جل ما كنت أخشاه هو سرقة مكتبتي التي كانت تضم مئات الكتب ؛ بينها مخطوطات كنت قد اشتريتها من اليمن ومن المغرب ودول أخرى في رحلات سابقة وكنت أنوي بعد عمر طويل التفرغ لتحقيقها . لكن الحياة أحيانا تجري عكس ما نخطط له. أما سيارتي فقد أهديتها لشاب من مخيم شاتيلا لكن وللأسف علمت أنه كان من بين ضحايا المجزرة التي وقعت بعد رحيلنا .

المشهد في مكان التجمع في الملعب البلدي قبل الصعود الى الشاحنات التي ستقلنا الى الميناء كان مؤثرا جدا وأشبه بيوم الحشر . مقاتلون يودعون زوجاتهم وأبنائهم وأقاربهم وأصحابهم ؛ عناق ودموع كثيرة انهمرت ؛ ووجوم على الوجوه وسط رشقات من الأرز والملح وزغاريد وأغان وطنية . كنا في قرارة أنفسنا رغم حرارة الوداع كمن على رؤوسهم الطير لا نعرف ما يخبئه القدر لنا في قادم الأيام .

في ميناء بيروت كانت الممثلة نادية لطفي والسفير اليوناني من جاءا لوداعي ؛ لفتة وفاء منهما أعتز بها كثيرا . السفير صعد معي الى الباخرة " صول فريني " وأبلغ القبطان أن لا احتكاك بين طاقم السفينة وكوادر المنظمة الا من خلالي وتم ابلاغ ذلك للعقيد فخري شقورة بصفته القائد المسؤول ؛ بذا أصبحت الوسيط والمتحدث الرسمي باسم هذه الدفعة وبموجبها حصلت على كابينة جمعت فيها بعض المقربين بينهم شقيقي الأكبر وهو من الكوادر الأولى في حركة فتح ؛ والكاتب الصحفي مستشار الرئيس عرفات للشؤون "الاسرائيلية" عماد الشقور وشقيقه الراحل نمر والراحل مصطفى بامية وولديه اللذان لم يكملا العاشرة من العمر . الكابينات الأخرى وعلى قلتها منحت للجرحى كأولوية ؛ أما ما تبقى من الأخوة فكل واحد أو مجموعة وجدوا لأنفسهم زاوية لتكون مستراحهم بما في ذلك قوارب النجاة .

بدأت الباخرة تمخر عباب المتوسط وعلى متنها 970 راكبا من مختلف أجهزة منظمة التحرير وفصائلها . بيروت راحت تختفي شيئا فشيئا وراء الأفق الى أن تلاشت الصورة تماما ؛ وبذا بدأت الرحلة نحو المجهول الذي سيتبع وصولنا الى تونس.

بعد مرور عدة ساعات كنا قد قاربنا على تجاوز المياه الاقليمية القبرصية ولكن القبطان أبلغني أن الأوامر قد صدرت بضرورة العودة الى ميناء ليماسول بطلب من الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت ترى أن الجانب الفلسطيني قد خالف الاتفاق المبرم مع المبعوث الأمريكي فيليب حبيب في بعض ما تم حمله على الباخرة .

على أرض ميناء ليماسول كان هناك سفير فلسطين الراحل الصديق فؤاد البيطار والذي لعب دورا هاما من موقعه في العاصمة القبرصية حيث كانت كل الاتصالات مع العالم الخارجي تتم من خلاله أثناء الغزو الاسرائيلي للبنان . وكذا كانت سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية التي أبلغتني أن هناك عدد من المركبات العسكرية المحظور اصطحابها ولا بد من انزالها قبل متابعة الرحلة. طبعا انصعنا للأمر وتم انزال تلك العربات وبعدها سمح لنا باكمال مسيرنا.

مخزون الماء والخبز والسجائر كان قد نفذ ما اضطرنا الى التوقف في ميناء جزيرة كريت اليونانية . سفير فلسطين لدى اليونان شوقي أرملي ومعه عضو برلمان عن تلك المنطقة صعدا على ظهر الباخرة وكان البرلماني اليوناني متأثرا جدا الى حد البكاء على ما وصل اليه حال الفلسطينيين . للأسف لم أعد أذكر اسمه لكن موقفه كان غاية في النبل فقد تبرع بتزويدنا بكل ما نحتاج من حسابه الخاص .

كان مخططا أن تكون العاصمة التونسية هي محطتنا النهائية لكن السلطات هناك خشيت من خروج الحشود التونسية عن السيطرة أثناء استقبالنا ؛ لذا حول المسار نحو ميناء مدينة بنزرت الذي وصلناه ليلة 27 آب وبقينا في عرض البحر حتى صباح اليوم التالي لأن الرئيس بورقيبة أراد أن يكون على رأس مستقبلينا.

مجموعة كبيرة من رجال الأمن صعدوا على ظهر الباخرة وكان معهم قائمة تضم 30 اسما قيل أن هؤلاء من سيخرجون بأسلحتهم بطريقة استعراضية أمام الجماهير ومن ثم التوجه لمصافحة الرئيس .

اسمي كان مدرجا في القائمة مرفوقا برتبة مقدم مع أني لم أكن في يوم من الأيام عسكريا ؛ لكن المعروف أن المراتب المدنية في منظمة التحرير الفلسطينية تقاس بالرتب العسكرية .

الميناء كان يغص بحشود شعبية كبيرة من المواطنين وبعضهم كان يجهش بالبكاء من شدة التأثر ويلوحون بالعلم الفلسطيني في سرادق الاستقبال الذي أعد على عجل . أول المستقبلين كانت حرم الرئيس السيدة الماجدة وسيلة وابنتها والأخ فاروق القدومي (أبو اللطف ) رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير ؛ والأخ محمود عباس ( أبو مازن )عضو مركزية فتح ورئيس السلطة الوطنية الحالي ؛ وياسر عبد ربه وحكم بلعاوي وعدد آخر من الشخصيات الفلسطينية والتونسية . الجرحى تم انزالهم أولا ونقلوا جميعا الى المستشفيات لمتابعة علاجهم .

موكب الرئيس بورقيبة وصل الى الميناء محاطا ببعض الوزراء ؛ نزل من السيارة وراح يلوح بيديه محييا الوافدين ثم أدخل الى قاعة استقبال أعدت خصيصا على أرض الميناء ؛ بعدها جاء دورنا فنزلنا تباعا بأسلحتنا الفردية ( بدون ابرة اطلاق وبدون ذخيرة طبعا ) وسط هتافات الجماهير المحتشدة للسلام على الرئيس فردا فردا وشكره على حسن الاستقبال .

بعد تلك المراسم توجهنا نحو قبر الجندي المجهول ومن ثم قمنا بجولة في المدينة سيرا على الأقدام . بصراحة لا أستطيع وضع لقائنا بالجماهير التونسية بكلمات فقد كانت مشاعرهم نحونا حقيقية وصادقة وجياشة .

عند عودتنا للميناء أبلغنا أن من وردت أسماؤهم بالقائمة سيتوجهون الى فندق سلوى على شاطيء البحر في برج السدرية في حمام الأنف القريب من العاصمة وهي منطقة سياحية وأغلب روادها من الناطقين بالفرنسية ؛ في حين سيتم نقل الباقين الى معسكر في منطقة وادي الزرقا القريب من مدينة باجه.

نحن اتخذنا قرارا أن نكون جميعا في نفس المكان لحين وصول الأخ أبو عمار وبقية القيادة الى تونس وبناء عليه فقد توجهنا جميعا الى وداي الزرقة . الحقيقة أن صدمتنا كانت كبيرة عند رؤية المعسكر فقد كان أشبه بالسجن الكبير وحوله سياج عال جدا وعليه حراسة عسكرية مشددة.

في المعسكر كنت المحظوظ الوحيد بين الجميع فقد تعرفت عند وصولنا الى ميناء بنزرت الى السيد توفيق بسباس مدير عام التلفزة التونسية وقد وعدني وقتها باعداد فيلم يوثق لحظات وصولنا الى تونس ؛ بذا كنت صبيحة كل يوم أغادر المعسكر برفقة اثنين من رجال الأمن والتوجه الى العاصمة تونس بحجة جلب شريط الفيديو وبقيت على هذا الحال يوميا الى حين وصول الأخ أبو عمار بعد عدة أيام . (احتفظت بهذا الشريط 30 عاما قبل أن أقوم بنسخه وتقديمه هدية للأخ أبو مازن ولتلفزيون فلسطين ليحفظ في الأرشيف كوثيقة ).

بعد مرور 19 يوما على وجودي في فندق سلوى طلبت من الأخ أبو عمار مغادرة تونس ؛ وقد وافق على الحاقي ببقية الاعلاميين الذين توجهوا الى العاصمة القبرصية.

في الطريق الى قبرص توقفت في العاصمة اليونانية أثينا وبها التقيت بصديقي السفير ستوفروبولس وهو من أثرياء اليونان الذي فاجأني بتقديمه شيك موقع على بياض ليعينني في المرحلة القادمة على بدء حياة جديدة على حد قوله . رفضت هديته وشكرته على سخائه وعلى اهتمامه الشخصي بي وبأسرتي خصوصا عندما تجاوز كل الأعراف ومنحني أوراق مواطنة يونانية لحمايتي فيما لو حصل أي مكروه أثناء الابحار من بيروت الى تونس .

قبرص كانت محطة ترحالنا التالية ولنا فيها تجربة غنية وفيها كان لي بداية فصل جديد من تغريبتنا الفلسطينية.


عن دنيا الوطن ..



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات