التقارب التركي الروسي مسوغات وأسباب


تركيا بعد الانقلاب الفاشل الذي تعرضت له قبل أكثر من شهر، اتخذت جملة من القرارات التي تخدم مصالح الدولة التركية والتركية فقط، بعد شعورها بتخلي حلفائها الغربيين عنها بالرغم من كونها عضوا فاعلا في حلف شمال الأطلسي، وواجهة لتنفيذ سياساته في المنطقة. وقد كان من جملة القرارات تلك التقارب من جديد مع النظام السوري الذي كانت من أشد المعارضين له لأشهر خلت ومنذ ثورة الشعب على النظام قبل حوالي الست سنوات، وحل المشاكل مع روسيا تحديدا بالرغم من الأضرار التي لحقت بالعلاقات بين الدولتين بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية فوق سوريا، وإعادة العلاقات معها إلى سابق عهدها سياسيا واقتصاديا، ما أبرز تفاهما بين الدولتين أفضى مؤخرا إلى دخول القوات التركية إلى الشمال السوري لمحاربة داعش على ضوء التفجيرات التي هزت البلد في أكثر من مكان ووقف هذا التنظيم وراءها، وإنهاء وجوده على الحدود التركية السورية.

بداية لا بد من الإشارة إلى أن تركيا ربما أصابها وقع من الخذلان كبير من ردة فعل حلف شمال الأطلسي الذي تنتمي إليه حيال تبعات إسقاط الطائرة الروسية فوق سوريا، والموقف الروسي الفظ والمتشدد للغاية تجاه ذلك الحدث، مع العلم بأن أن تركيا لم تكن لتقدم على خطوة كهذه (إسقاط الطائرة الروسية)) إن لم تكن قد حصلت على ضوء أخضر أطلسي للقيام بها، والواقع أن تركيا ربما شعرت أن حلفاءها ربما أرادوا توريطها في حرب ضروس تستنزف الطرف الروسي قبل التركي، ما أدى في نهاية المطاف إلى تقديم اعتذار عن إسقاط الطائرة، وهو ما طالبت به روسيا بدءا لعهد يتجدد من العلاقات بين الطرفين.

لكن ماذا عن مبررات وأسباب التوجه التركيالأخرى نحو روسيا، بعدما مرت العلاقات بين الدولتين بأزمة الطائرة سالفة الذكر بين الدولتين؟ مما يلاحظ أثناء فترة الانقلاب في تركيا، وقليلا مما بعدها، أن موقف الغرب من الانقلاب لم يكن حاسما، لاسيما من قبل الولايات المتحدة التي ربما كانت تنتظر النتائج النهائية للانقلاب حتى تتخذ الموقف الذي يتناسب مع مصالحها، خصوصا وأنها الطرف الأكبر في حلف شمال الأطلسي الذي تعتبر تركيا من أذرعته الرئيسة في المنطقة.

ليس من السهولة استساغة موقف مائع أساسه من طرف حليف وثيقة الروابط معه تجاه حدث كبير كاد يودي بالدولة التركية المدنية بطرفة عين على أيدي قطاع من الجيش التركي، وتبديد أحلام الشعب التركي في تحول الدولة إلى قوة اقتصادية دولية كبيرة حدد لها أن تكون في عام 2023. ما هو هذا العام؟ هو يصادف تاريخ انتهاء معاهدة لوزان التي فرضت على تركيا من قبل القوى التي كسبت الحرب العالمية الأولى، وكانت تركيا، إضافة إلى ألمانيا هي الطرف الخاسر فيها، وهي معاهدة كبلت الطرف التركي فيما كان يعرف بخيار قيادة المسلمين بالنسبة لهم آنذاك، خصوصا مع استمرار دولة الخلافة الإسلامية في عهدها التركي إلى حوالي 800 عام. وربما لم يعد الغرب يرغب في عودة تركيا كقوة يحسب لها حساب على الساحة الدولية بعد انتهاء المعاهدة سالفة الذكر، خصوصا مع التوجهات الإسلامية للنظام التركي والذي يتناقض مع المبادئ العلمانية التي يؤمن بها الغرب عموما، ومحاولة تركيا التخلص من القيود التي فرضت عليها في معاهدة لوزان قبل أوانها ببضع سنين، وربما كان الانقلاب الفاشل الذي حصل في تركيا إحدى الرسائل التي وجهت لتركيا في هذا السياق.

وعلى الرغم من الحساسيات التاريخية التي سادت بين تركيا وروسيا خلال عقود خلت على ضوء الوجود التركي في أراضي ما يسمى بالاتحاد السوفياتي السابق، والحروب العديدة التي استعرت بين الطرفين تاريخيا، إلا أن مقتضى المصالح يلعب دوره في سياق التحالفات التي تتقلب وتتجدد بين حين وآخر. لقد كان من نتائج التقارب بين تركيا وألمانيا في القرن التاسع عشر أن عمل الغرب على تفتيت الدولة العثمانية وتقطيع أوصالها، وإخضاع مناطقها لسلطته فيما عرف بالحقبة الاستعمارية البغيضة للعديد من الدول في العالم، وكان مما ترتب على ذلك نشوء الحرب العالمية الأولى التي دخلتها تركيا بتحالف مع ألمانيا في بداية القرن العشرين، وأدت فيما بعد إلى ما أدت إليه.

ليس مستغربا التوجه التركي نحو روسيا، بعد شعورها بالتعرض لمؤامرة كادت تطيح بالحكومة التركية، وأحلام الشعب التركي الذي حقق كثيرا من الإنجازات خلال مدة تزيد قليلا عن عقد من الزمان. لكن السؤال الذي يطرح الآن: هل يمكن المقارنة بين التوجه التركي اليوم نحو روسيا، والتوجه الألماني قبل أكثر من قرن ونصف من الزمان نحو الدولة العثمانية حيث خاضت الدولتان بعد ذلك الحرب العالمية الأولى كحليفين؟ المفارقة أن الحدث هو نفسه بانعكاس اتجاهه واختلاف أحد أطرافه فحسب، فهل يؤدي التقارب التركي الروسي إلى حرب عالمية ثالثة على ضوء المستجدات الجديدة على الساحة الدولية؟ لا شيء مستبعد على الساحة الدولية، ولنرى ماذا يخبأ لنا في مقبل من الأيام.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات