الجنون يشفيك


جراسا -

من زاوية نفسيّة وفلسفية كانت رواية (هاوية الجنون ) ليحيى الحباشنة

كان عرضا مغريا من قبل الرّوائي أ.يحيى الحباشنة ، حين أهداني نسخة من روايته هاوية الجنون، إذ ذيّل إهداءه بعبارة شدّتني لقراءتها حين كتب: "هاوية الجنون رصيد معرفي للنّفس البشرية وعوالمها الخفية، حينها بدأت رحلتي في القراءة متزامنة مع عودتي في الطّائرة من عمّان إلى الجزائر.

في رحلة أخرى مع شخصيّات مثيرة للجدل ضمّتها الرّواية، كلّ واحدة منها لها عوالمها الخاصّة ونفسيّتها الخاصّة، كانت تحرّك المشاعر، وتشدّك إليها عاطفيا دون أن تحكم عليها بالمرضية أو السّلامة العقلية، تجد نفسك أمام الإبداع النّثري، والزّخم ألمعلوماتي والمعرفي، الذي تضمّنته هاوية الجنون من خلال الأحداث الواقعة في زمنين منفصلين: الزّمن ألشخوصي لأبطال الرواية، والزّمن المكاني لأحداثها، ليدفعك نحو تفسيرها بعيدا عن تشخيصها كحالة نفسية،كما حاولت أن أفعل بحكم تخصصي أخصائيةً نفسانيّةً، إلا أن الروائي اعتنى أيما اعتناء في إظهار الحقائق النّفسية وإعطاء مبرّرات لكل شخصنه زمنية مرّ بها بطل روايته السّيّد نبيه، الذي حاول أن يقدّم تارة جانبه الإبداعي وعمقه الفكري والفلسفي الوجودي، وتارة أخرى كهاو للجنون متخبّط بين فصامه العقلي والوجداني للحياة مع تفسيرات لحالته تلك التي كانت تنتابه كلّما توغّل بحثا عن حقيقة الوجود، والوصول إلى نهاية لكل المتاعب العقلية في إسقاط ما هو قائم وحقيقي، والبحث عن ذاتية غير التي رسمت له مساره الحزبي، فترة ما كان ناشطا سياسيا، وبعدها عاد إلى البحث من جديد عن تداوت مع بنات أفكاره المتمرّدات؛ ليدخل في صراع وجداني بين عوالمه الدّاخلية وعالمه الخارجي،الذي يتعامل معه بألفة كما حدث في حواراته الشّيّقة مع شخصية زياد السّمعية والحسّيّة في نفس الوقت، التي كانت بالنسبة لنبيه أملا بشريا؛ ليستكشف مدى سلامته العقلية والنّفسيّة، وقياس مدى استجابة زياد لفكر نبيه وشخصيته الخرافية التي جمعت بين الذكاء والوعي من جهة، وبين الاضطراب الوجداني والفصامي من جهة أخرى، وهو مدرك تماما للحالة التي تتلبّسه، ولم يكن اختيار نبيه لزياد صديقا وضيفا في بيته من عدم،بل حدسه ونمطه التفصيلي استطاع أن ينتقي من له القدرة على استيعاب مايفتّش عنه نبيه؛ ليصل إلى حقيقة مايقلقه فعلا من الحياة بكلّ حيثياتها الاجتماعية والسّياسية والعاطفية كما حصل في نقاشه مع أم سامر، التي قدّمها الروائي أيضا كشّخصية اجتماعية، ذات الحس المرهف والذّوق والذّكاء الوجداني الذي يتحمّل شخصية نبيه المرضية ونبيه الفلسفية العبقرية، أم سامر التي قدّمها الرّوائي بحكم برمجته القبلية والاجتماعية، المرأة المناضلة التي وقفت مع زوجها الفصامي واستوعبت احتياجاته رغم فروقهما الفردية والعقلية؛ ليجمعهما حبّها لنبيه واحتياجه الواقعي لأنثى مثل أم سامر،وهي الحقيقة العلمية والنّفسيّة القائمة على دراسة الشّخصيّات الاضطرابيّة في إمكانية أن تتعايش مع الأسرة بشكل طبيعي وتمارس كل طقوس الزّوجية مع شريك مستوعب؛ ليبدع الرّوائي، ويجعلنا نفتتن بأم سامر الزوجة المطيعة والمستوعبة لشريك حياتها حتّى في لحظات نوباته الجنونية وفلسفته الرافضة لكل مسلّم، تكون هي المثني عليه والمحرّض ليفكّر بعمق إنكاره لما تقوم لأجله، لتقدّم له توكيدات عاطفية أنّ وجوده سرّ سعادتها على الرّغم من مراوغاته العاطفية معها تارة، ليثير غيرتها وأنوثتها، وتارة أخرى لاضطرابه الوجداني المؤثّر على انتمائه العاطفي.

الجدير بالذّكر أن زياد ذلك الشّاب المتحمّس والمندفع نحو مايبحث عنه نبيه في الأعمال التي قدّمها، لتناقش حقيقة حبه للحياة مع إنكارها وسعيه للموت وإيمانه به من خلال وزارة الانتحار، وهذه دلالة نفسيّة عميقة تأخذني لقول أنطون سعادة: "إنّنا نحبّ الحياة لأنّنا نحبّ الحرّيّة، ونحبّ الموت متى كان الموت طريقا للحياة". فهل فعلا كان نبيه يبحث مع زياد طريقا للحياة من خلال الموت أم أنّه حاول أن يتحرّر من فكرة القيد الذي يضعه الوجود في حياة الإنسان من موته ؟

ما لامسته في رواية أ.يحيى الحباشنة من عمق طرحه للجنون، وتصنيفه ميزةً إنسانيّةً راقيةً، وليس مرضًا عقليًّا يعيب الخليقة، ويستثنيهم بتهميشهم، وطمس جزئهم الفنّي والإبداعيّ، وهذا ما يبحث عنه علماء النّفس السّلوكي والباراسيكولوجي عن ناجاماي العقلي و ايكارت النّفسي في شخص نبيه العبقرية والاضطرابية القلقة، الذي لم ينتبه لمن قرأ الرّواية أنّ الرواية لم تكن سردية لوقائع وتشخيصية لنفسيّات أصحابها فقط ، بل قدّمت حلا علاجيا في الأخير عند اندماج نبيه مع زياد ومحاولة دس الأمل والفرح والتّفتيش عن جماليات القبح في الحالة المرضية الإبداعية، وقد نجح حين جعل نبيه يهتمّ لإنتاج أعماله وتجسيدها ليتناغم مع واقعه الرافض له.

هاوية الجنون لم تكن هاوية، بل غاوية لتحفّز العقل المُعْتَقَلَ على أهمية تجنينه للمعرفة، واكتساب خبرات، وتجارب ليشفى من الاكتئاب والقلق من الغموض الذي يلف هذا الوجود وحقيقته.

أعتقد أن الخبرة والتّجربة العقلية والعمق الرّوحي، الذي أفضى به الروائي يحيى الحباشنة وحسه العالي والدّقيق في تقديم هاوية الجنون مرجعا نفسيا وفلسفيا لقدرةٌ هائلةٌ وعملٌ روائيّ إبداعيّ في جمع المتناقضات ونقض الثنائيات فيه.

الباحثة والدارسة
جهيدة بوطريق أخصّائية الصّحّة النّفسيّة _العيادي
الجزائر



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات