في الذكرى الـ 36 لرحيلة .. تيسير السبول غصة عربية تذّكر بالخسارات المتوالية !!


جراسا -

خاص- بعد مضي 36 عاما على رحيل احد مؤسسي الرواية الاردنية تيسير سبول، وبعد ان غادر الحياة في رحيل مأساوي إختياري بسبب "حرده" على الواقع العربي المخزي الذي كان ولا زال، توفي سبول منتحرا إثر هزيمة عام 1967 (النكسة)، وبعد هذا الموت المأساوي ودوافعه فاننا نتساءل .. كم عدد الانتحارات التي كنت ستشهدها يا سبول لو قدّر لك ان تعيش انكساراتنا وهزائمنا المتوالية .

تاليا ما كتبه الزميل "سامر حيدر المجالي من الزميلة عمون حول الاديب الاردني الراحل تيسير السبول في الذكرى الـ 36 من رحيله .


قبل ستة وثلاثين عاما بالتمام والكمال وضع تيسير السبول حدا لحياته. هذا المقال يحاول أن يفسر انتحاره من زاوية جديدة لا تتعارض مع النظريات التي وضعت حول ظروف انتحاره، ولكنها تتكامل معها وتنهل منها شيئا كثيرا من بنيانها.

 سامر حيدر المجالي - (ما لي نِفْس).. تلك كانت صرخة (عربي) بطل رواية (أنت منذ اليوم) لتيسير السبول، الرواية التي أودع فيها تيسير موقفه من الحياة، ثم برهن بعد سنوات قليلة على صدق كلماته وعمقها، فوضع حدا لحياته في الخامس عشر من نوفمبر عام 1973.

الصرخة – المنجزة إبداعيا- كانت شكوى من أبوة صارمة حاصرت (عربي) من كل جانب وأقدمت على إيذاء روحه عبر انتهاكه جسديا وانتهاك قدسية الكائنات من حوله. هذه الصرخة هي أحد المفاتيح التي يمكن من خلالها الولوج إلى بعض سر تيسير السبول؛ لأن الفرق بين عربي وتيسير دقيق جدا، لكنه مهم. فالصرخة لم تحمل طابعا شخصيا بقدر ما حملت هما إنسانيا وفلسفة مثلت الأبوة الصارمة فيها نظاما متكاملا من القهر والوصاية الذين يشدان الحياة إلى الخلف بدلا من دفعها إلى الأمام، ويهمشان الذات الفردية فيحولان بينها وبين أن تكون شيئا محترما في الوجود، ثم يستلبان من هذا الوجود معناه ومن الحياة جدواها.

الأبوة هنا تطال كل ملمح من ملامح القهر التي يعانيها العربي يوميا. إنها ليست شأنا شخصيا ولا مشكلة يمكن تجاوزها بتغير الزمان والمكان. فالقهر الذي يعانيه الفرد طفلا خلال تنشئته الأسرية، هو نفسه الذي تفرضه عليه عادات المجتمع الصارمة فيما بعد، وهو نفسه الذي تمارسه عليه الأيدلوجيات الشمولية معصوبة العينين، وهو حتما وبالنتيجة ما يمارسه الاستبداد السياسي من عسف وقهر وتنكيل. فما النتيجة المتوقعة بعد ذلك؟ آمال لا تتحقق وقلة قيمة وضياع أوطان وهزائم مذلة. نتائج لم تكن روح شفافة كروح (تيسير السبول العربي) قادرة على التعايش معها.

إلى هنا نكون قد فسرنا انتحار( تيسير-عربي) الحالم بفجر العروبة وبالعدالة الاجتماعية والانتصار على قوى الطغيان. لكن هذا ليس يكفي، إذ علينا أن نفكر بخصوصية تيسير بعيدا عن انتمائه العروبي وأحلامه الضائعة. خصوصية المبدع الذي يمارس فعل وجوده عبر الكلمات ومن أجلها. هل انتحر هذا المبدع نيابة عن عربي فقط؟ أي هل تماهى معه إلى الحد الذي جعل انتحاره مجرد احتجاج على الكذب والخديعة الذين ظهرا أوضح ما يكون صبيحة الموافقة على قرار وقف إطلاق النار في حرب عام 1973؟ أم أن لتيسير خصوصية فريدة من نوعها تضيف إلى هذا البعد مزيدا من الأبعاد التي تفسر قرار الانتحار؟؟

الذي لا شك فيه أن عربي جزء من تيسير، والدجل التي تعرض لها هذا الـ (عربي-تيسير) فأثمر فاجعة 1967 ثم خديعة 1973 كان قشة أطاحت بالجبل الذي بدا متماسكا حتى تلكم اللحظة. لكن الرجل الذي وصل ذروة إبداعه في رواية (أنت منذ اليوم)، كان قد وصل أيضا نتيجة إبداعه إلى ذروة الإحباط على المستويين: الشخصي والعام.

فتيسير في فعله الإبداعي هذا كان قد وقع في فخ فرضه عليه انتماؤه الثقافي، فمارس أبوة من نوع صارم على الكلمات جعلته يتماهى مع بطل روايته إلى الحد الذي جعل التفريق بينهما أمرا في غاية الصعوبة. لقد تقمص بطل روايته وحشر نفسه بين زوايا روحه، فلم ينج من قسوة الإبداع وثأر الكلمات لنفسها.

لقد كتب الرواية كي يعبر عن خيبته الشخصية، وكي يجد متنفسا يريح عناء روحه. إن الكلام في حد ذاته باعث من بواعث الراحة، لكنه في هذه الرواية كان اليأس بعينه، والفاجعة متجسدة. والرواية التي تبدو في ظاهرها مجموعة من المشاهد السريالية غير المتجانسة، أثمرت نظرية متماسكة في الحياة والوجود، نظرية اللانتيجة واللاتفسير، حيث لا يمكن بعدها إلا غلق الأبواب والعزوف عن الحياة على طريقة (ما لي نفس) التي قالها عربي، وطبقها تيسير خير تطبيق.
إنها صورة سوداء لم يتوقعها الكاتب أبدا ولم يكن قد خطط لها رغم وصايته وأبوته التي مارسها على مجموع مشاهده السريالية. هذا نوع من كيد الكلمات، بل من كيد الإبداع نفسه؛ لأن الإبداع عملية تخضع لعوامل كثيرة، المؤلف مجرد عامل واحد بينها. عملية لا يمكن التحكم بنتائجها ولا تقدير أخطارها. إنها نظرية (موت المؤلف) حين تشارك الثقافة واللغة والظروف المحيطة وتنادي النصوص وعشرات العوامل الأخرى في إنتاج المعنى، بعيدا عن الكاتب وبعيدا عن إرادته، فينقلب السحر على الساحر، ويخرج بغير ما توقعه.

بمعنى آخر، كثيرا ما يظن الكاتب أنه يتكلم ويشكل الأفكار بملء إرادته، وينسى أنه جزء من كون ما زال يدور منذ ملايين السنين، وأن بداخل هذا الكاتب آلاف العمليات النفسية والموروثات الثقافية والإنسانية التي شكلته وما زالت تعمل على تشكيله. إنها خفية في داخله، يكاد لا يشعر بها حين هدوئه وراحته، لكنها كامنة تنتظر فرصة الخروج عبر ثقافة الكاتب ووجدانه. إن روح الكون هي التي تتحدث من داخلنا، هي التي تفصح عن الحقائق وتفسر الأشياء، وهي تختار أشخاصا دون غيرهم لأنهم أعدوا العدة لتنفيذ المطلوب وتسلحوا بما يمكنهم من أداء الرسالة.
ليس غريبا بعد ذلك أن يقف المبدع من إبداعه موقف المنبهر. ليس مستبعدا أن تصبح المشاهد السريالية نظرية متكاملة، تفاجئنا بقسوة أحكامها وتغير موقفنا من الوجود كله، وتدفعنا إلى الانتحار إن صادفت رجلا بمواصفات تيسير السبول.

يشكو تيسير في مجموعة من الرسائل أرسلها إلى صديقه الروائي العراقي فؤاد التكرلي خلال عامي 1969 و 1970 عدم قدرته على ممارسة الكتابة وعزوفه عنها. يقول في أحد هذه الرسائل: " هل تتساءل معي ما جدوى حياة الإنسان الذي خبر لذة الكتابة ثم يجد نفسه عاجزا عنها؟ ليتك تساعدني في بحث هذه القضية. ماذا سنكتب؟" ويقول في رسالة أخرى: " لا أكتب ولا أستطيع الكتابة. إن شعورا حادا بعدم الاستقرار يستولي علي وعبثا أحاول في مثل هذه الظروف النفسية ما يسمى بالخلق".

لذة الكتابة بحسب تعبير تيسير هي أدت به إلى العزوف عن الإبداع، إلى جفاف الينابيع ونضوب الموارد. لم يكن الأمر عيبا في ثقافة تيسير، فقد كان مواظبا على القراءة وممارسة النشاط النقدي، غير أن الذي استولى عليه يأس حاد، واجهه مباشرة بعد عمله الأجمل والأرفع والأغنى (أنت منذ اليوم). فأصبح فعل وجوده عملا لا طائل من ورائه ولا فائدة ترتجى.

لا يمكن تفسير هذا الأمر خارج نطاق الصدمة التي تعرض لها تيسير، الصدمة التي كشفها عمله الروائي العظيم، فتبلورت النظرية واتضحت الصورة، صورة قاتمة سوداء، لا مجال بعدها لمزيد من قول، ولا فائدة ترتجى من محاولة إصلاح.

لقد التقى الشخصي والعام عند تيسير السبول بطريقة فريدة، فَسُدَّتْ أبوابهما معا. كانت صدمة 1967 آخر عهده بلذة الكتابة، كانت كل قصائده قبل ذلك برغم قلقها والحزن الذي يكتنفها، أملا يسكن روحا ترقب الأفق البعيد منتظرة لحظة انفراج تتبدد فيها قسوة الواقع وبشاعته. فلما أراد أن يفسر سبب الفاجعة؛ أي لما أراد أن يتغلب عليها ويعري حقيقتها وأسبابها، غرق في اليأس وقادته خطاه إلى هاوية سحيقة، فبدأ منذ تلك اللحظة عزوفه عن الحياة.

قاوم تيسير كثيرا وتشبث بالحياة ست سنوات كاملة، حتى جاءت حرب رمضان، كادت نظريته المتشائمة أن تهتز وأن تبعث فيه أملا جديدا، غير أن ما تلاها من أحداث أثبت له بدون شك، أن لا طريق إلى الخروج، ولا أمل يبدو قريبا، فالخديعة نفسها والمكر نفسه، يلبسان في كل مرة ثوبا جديدا. الأبوة تمارس نفس الدجل وترتكب نفس الحماقات. الداء ليس خارجنا بل هو مستقر في أعماقنا. فما الحل إذن؟
ما لي نفس، وأطلق رصاصة الرحمة على رأسه.



تعليقات القراء

ابن الجنوب
الله يرحمه والله عارف ما في النفوس
15-11-2009 12:07 PM
رنا
نعم .. ما هي عدد الانكسارات التي كنت ستعيشها يا سبول ليتغمدك الله بمغفرته
15-11-2009 12:08 PM
معتز التلاوي
الراحل السبول والراحل عيسى الناعوري وكذلك سالم النحاس هم من اسسو للرواية الاردنية التي بدأها الناعوري برواية ليلة في القطار
15-11-2009 12:50 PM
منال بدران
ولا تنسو الاديب الكبير غالب هلسا
رحمهم الله جميعا
15-11-2009 02:13 PM
محمد الترك
جميل احياء ذكرى هذا الاديب الجميل رحمه الله

انت منذ اليوم من اروع ما قرأت
15-11-2009 04:00 PM
سلام جمعة
تعيشو وتترحمو
والله يرحمه
لانه كما قرات عنه انه كان مرهف الاحساس ووطني عروبي
15-11-2009 04:04 PM
خيبة
الله يرحموا والله كان رح يصير الو شأن عالي لكنه ما تحمل
16-11-2009 11:06 AM
ابن الباديه
الله يعينك على ما بلك يا عاي السردي يجهد بلى الي كان السبب
31-01-2010 05:54 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات