رقصة الموت في أعالي البحار


قديما قال الشاعر العربي:
لعمري ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن عقول الرجال تضيق
عندما يحدث ذلك فتضيق اخلاق الرجال وتصغر احلامهم تضيق مساحة الوطن بأهله ليصبح أضيق من سم الخياط وعندما يطغى جبروت الحكام ويسود فشل الدول وتلاحق الخيبة الحكومات من خلال تحريك الفتن الهوجاء بين أبناء الوطن الواحد حتى تصل الأمور الى إشعال الحروب فتتعدد أساليب العنف والقتل التي لا يمكن تصورها فتغدو مغادرة الوطن وحلم الهروب منه بطعم المغامرة التي لا تنتهي غالبا على خير فينطبق عندها المثل القائل: كالمستجير من الرمضاء بالنار.
في حوادث متعددة يبدو فيها الواقع أغرب من الخيال يهيم الالاف من الناس على وجوههم على متن قوارب متهالكة يفرون من فظاعة الموت الى ما هو أفظع والفارق لديهم يتمثل في أسباب وأساليب الموت لا أكثر.
يحدث ذلك في ظل حكومات فئوية طائفية ودول فاشلة يغيب عنها الحكم الرشيد يصبح الوطن عندها جحيما لا يطاق وتتمثل نافذة الأمل في الهروب حتى الى المجهول طالما أن هناك فرصة ولو بنسبة ضئيلة للنجاة من الموت المحقق في الوطن بأقسى صوره.
يهرب هؤلاء من الموت بأعداد كبيرة الى قوارب متهالكة لا تتمتع بأدنى درجات الأمان فيقعون بين أيدي معدومي الخلق والضمير من المهربين وتجار البشر الذين يسلبونهم كل شيء ثم يتخلون عنهم في أعالي البحار فتصبح الخيارات لديهم واضحة أي موت تريدون: ذبحا أم جوعا أم غرقا؟
في مركب قد لا يتسع لمئات وربما العشرات يدفع اليه الآف البشر يقذف بهم الى البحر فتتوالى الأيام ولا يصلون الى بر الأمان أو الى يابسة تطأها أقدامهم بل يصبح ذلك أضغاث أحلام فأرض الحلم أو الجوار تحميها جيوش لا تقبل بأن تصل اليها اقدام الغرباء.
كثيرا ما يحلو لنا أن نصف كوكبنا بالجميل فاين هي قيمه واخلاقه الجميلة عندما لا يجد فيه الانسان موطئ قدم ويضيق الكوكب بمثل هؤلاء أين حكمة الدول ومنظمات الأمم ومن يتشدق بحقوق الانسان حيث القتل على الهوية الدينية أو الطائفية أو الجهوية وأين الضمير العالمي من ذلك كله؟
من يومين فقط وفي احدى الرحلات من الموت الى الموت وقعت أمور مهولة على متن قارب يغص بألاف البشر امتدت بهم الرحلة لشهور وبدت رحلتهم لا نهاية لها ولا حلم لهم بأن يروا شمسا تشرق أو حتى منارة تنبئهم بقرب انتهاء الرحلة.
مع الوقت يبدأ طعامهم وماءهم بالنفاذ فيصبح التنافس على أبسط متطلبات الحياة على أشده فالموت قادم لا محالة وإن اختلفت الاسباب لكن الموت من جوع قد يكون الاقسى فيحدث صداما بينهم تستخدم فيه الفؤوس والسواطير طلبا لطعام أو شربة ماء تقوم بهم لأيام قادمة وتقع بينهم مذبحة يقتل فيها المئات فالموت بينهم ومحيط بهم فما على الواحد منهم الا أن يفكر جيدا ويحسن الاختيار هل يموت جوعا أو يقطّع بساطور أو يموت غرقا فمن كان محظوظا رمى بنفسه ليلتقطه بعض السيارة من المراكب وهو مثخن بالجراح.
لو أن مشهدا مثل هذا وقع بين فئران تتنافس على طعام في مركب فاشتبكت وأدمت بعضها لما تحملت الإنسانية الحقة هذا المشهد ولسارعت للحجز بينها بتقديم ما يلزم من الطعام.
إن حفلة عرس واحدة يطعم بها أكثر من هذا العدد من الناس وما يفيض عن طعامهم يطعم ما يساوي عددهم لكن يعز ذلك في غياب الخلق والضمير مع أن حل المشكلة هو أعمق بكثير من توفير الطعام بل يتمثل ذلك في تامين المأوى والحياة الآمنة في أوطانهم وذلك بإلزام الدول والحكومات بتحمل مسئولياتها ولو بالقوة.
إن حال المركب بركابه يشبه تماما حال الكوكب بسكانه وما أصاب منظومة القيم والأخلاق من تراجع جعلت من كوكبنا يموج بالحقد والكراهية والعنصرية والتمييز والفقر والجوع مقابل التخمة والفساد والظلم بغير خجل فهل اقترب يوم يهرب فيه المظلومون أو الحالمون الى خارج الكوكب!



تعليقات القراء

حسن الهزايمة
يسلم فمك أستاذ منصور هذا هو واقع الحال فدوام الحال من المحال فعسى الله ان يبدل حالنا إلى الاحسن
22-05-2015 11:20 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات