نصف الكأس


عندما يكتب أحدنا منتقداً أوضاعاً مختلة، وترهلاً لا شك فيه، وفساداً بيناً، وأمراضاً تستشري، يتنطع لك البعض قائلاً: يا أخي أنت سوداوي النظرة، سلبي، عدمي، لم لا تنظر إلى نصف الكأس الممتلئ؟ فثمة خير موجود، وإنجازات تتحقق، وإصلاحات واعدة على الطريق!
لنفترض جدلاً أن ثمة كأس، وأن نصف الكأس ممتلئ، ولنتساءل: ممتلئ بماذا؟ بعسل، أم زقوم . وهبه ممتلئ إلى حافته باللبن، وتعلوه طبقة من العفن أو السم، فما يجدينا امتلاؤه؟!
عندما تكون الأوطان في حالة نمو، وتتطلع إلى مستقبل أفضل، ولم تصل بعد إلى الحد الأدنى من الطموحات، وتسعى جاهدة إلى تلبية الحقوق الأساسية للمواطنين، فإن أي سكوت عن الخطأ جريمة، وأي مداهنة للفساد خيانة، واللاموقف أو الحياد هو اصطفاف مع الباطل والظلم والفساد.
لا نعيش في ترف حتى نغض الطرف عن هفوة هنا أو خطأ هناك. ولا نتمتع بحقوقنا كاملة غير منقوصة حتى نمرر شبهة فساد، أو مظنة نصب واحتيال. ولم نحقق بعد حلم المدينة الفاضلة حتى نغفر للمسؤول ترهله أو تقصيره!
أي نصف كأس ممتلئ، ونحن كمواطنين –في معظمنا- ما زلنا في صراع من المهد إلى اللحد من أجل الحد الأدنى للعيش، الحد المكفول للحيوانات، ولكنه لا يمكن أن يتوفر لنا كمواطنين إلا بالجهاد والكفاح والصراع والعمل ليل نهار، والشقاء الدائم؟!
أي نصف كأس ممتلئ، ورواتب معظم الموظفين في القطاعين العام والخاص بالكاد تقيهم ذل التسول والسؤال، لا تكفيهم إلا كفافاً؟!
أي نصف كأس ممتلئ، ومعظم المواطنين لا يسكنون إلا بالإيجارات المرتفعة التي تقصف نصف رواتبهم، وإن فكر أن يبني بيتاً ففي نهاية العمر وبالأقساط التي تبتلع ثلثي راتبه؟!
أي نصف كأس ممتلئ، وميزانية تعليم الأولاد في الجامعات تستنزف معظم مداخيل الطبقة الوسطى، وأضعاف مداخيل الطبقة الفقيرة؟!
أي نصف كأس ممتلئ، والخدمات الأساسية تعاني من ضعف ونقص معيب، لا يليق بالبشر، وتفاوت فاحش بين منطقة وأخرى: مياه تأتي –إن أتت- يوماً في الأسبوع، لا تصلح للشرب، وشوارع ضيقة تمتلئ بالحفر والحفريات والمطبات، ونظافة محدودة، ومواصلات عامة في غاية السوء، وخدمات صحية لا تشفي عليلاً، إلا لمن يملك الثمن، .... ؟!
أي نصف كأس ممتلئ، والغش مستشرٍ في كل معاملاتنا، ومصانعنا، ومحلاتنا التجارية، ومطاعمنا، وفنيينا، وتعليمنا، وأكلنا وشربنا، ومسؤولينا؟!
أي نصف كأس ممتلئ، ومعظم مسؤولينا يعانون من ضعف وترهل وعدم مناسبة للمنصب، وعدم كفاءة، وقلة خبرة، وعشق للوساطات، وتقديم للمحسوبيات، وتقديس للعشائرية والمناطقية على حساب الوطن، ناهيك عن الفساد وانعدام العدالة والشفافية، والمخرجات منتهية الصلاحية؟!
أي نصف كأس ممتلئ، ومسؤولينا يسافرون على حسابنا، ويتعالجون على حسابنا، ويسيحون في الأرض على حسابنا، ويسهرون وربما يسكرون على حسابنا، ويبنون قصورهم على حسابنا، ويتهربون من التزاماتهم، ولا يدفعون ضرائب، ولا يسددون أثمان الكهرباء والماء، وكل ذلك يُقتطع من أقواتنا؟!
أي نصف كأس ممتلئ، وثرواتنا تُباع بثمن بخس، ومياهنا تُسرق، وتُباع لنا المحروقات والكهرباء والماء والخدمات بأثمان مرتفعة جداً، تكاد تكون الأعلى في العالم نسبة إلى الدخل؟!
في مثل ظروفنا وأحوالنا، يجب أن لا نتهاون مع أي خطأ أو خلل أو ظلم أو فساد، وأي اجتهاد خارج النص دون تخطيط وتفكير مرفوض. وأي رأي شخصي يؤدي إلى مشكلة أو خلل مُدان. وأنصاف الحلول عجز وفشل ذريع. وترحيل المشكلات تهرب جبان. وأي انتفاخ أو ترف أو تنفيع على حساب الوطن فساد لا لُبس فيه.
الامتيازات، والتنفيعات، والمكافآت، وما لف لفها، مدخل للفساد، ومظنة لكل شبهة، مرفوضة في بلد ما زال يتلمس خطواته، ويعيش تحت ثقل مديونية فلكية، وعجز ميزانية دائم، وبطالة متفاقمة، وفقر يتمدد، وخدمات تتناقص، ومداخيل تتآكل، وفرص شبه معدومة.
في بلدان الرفاه، التي يتمتع فيها المواطن بالحياة الكريمة، وتوفر جميع الخدمات، والعمل المناسب، والدخل الفائض، والحريات الكاملة، ...، قد يبُرر قول: انظر إلى نصف الكأس الممتلئ. أما في بلداننا فإن مثل هذا القول تستر على فساد، وتبرير للظلم، وسكوت عن الحق، وفتوى باستعباد العباد. فاختر لنفسك!
استدراك: في عرفنا وما درجنا عليه: أن القبول بنصف الكأس إهانة!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات