السّلفيّون و ( فِقهُ الواقِع ! )


كثُر في هذه الأيام النكدة َ مَن تناول الأحداث العصرية الجارية الجارفة للأمة بنوع من التحليلات العقليّة المحضة ، ورأينا قسماً كبيراً منهم وقد أجهدوا أنفسهم في بيان مواقف الجماعات الإسلاميّة ودورها في تلك الأحداث ؛ فإذا وصلوا للدعوة السلفيّة المباركة رَمَوْهم عن قوسٍ واحدة ( أسطوانة مفضوحة مفضوخة ) : فقه الواقع ؛ ولا أدري – على وجه الغرابة والغربة – لماذا البعضُ كلّما أراد الحديثَ عن السلفيّة استمسك بهذا المصطلح! ، وأشْهره سيفاً في وجوه السلفيين وكأنهم أصحابُ سوابقٍ في التخلي عن شؤون المسلمين وقضايا الأمّة.

ولننظر ..

كلمة ( فقه الواقع ) تُطلق ويرادُ بها أمران اثنان :

الأول : معرفة واقع المستفتي ، وحاله ، وواقع بلده ، فلا يُفتى في مسائل الجهاد لبلد حتى يكون عند المفتي تصور للحال في تلك البلاد ، كما لا يفتي في مسائل تتعلق بالكمبيوتر ، والإنترنت ، حتى يكون على علم بواقع تلك الأشياء ، وما يحدث فيها .

الثاني : معرفة ما يجري في العالَم من أحداث ، وقراءة التحليلات السياسية لها ، والاطلاع على مذكرات الأعداء ، وقراءة كتبهم ، وصحفهم ، وتتبع خططهم في غزو البلاد ، أو نشر الفساد .

أما الكلمة بالمعنى الأول فنقول:

لا شك أن الفتوى تحتاج من المفتي إلى فقه بالكتاب والسنَّة والإجماع ، وإلى فقه بواقع الناس ، والحال ، والزمان ، والمكان ، وإلا كانت فتواه لا تفي بالحاجة ، أو لا يمكن تطبيقها ؛ لبعدها عن الواقع الذي يجهله ذلك المفتي
.
قال ابن القيم - رحمه الله – :

" ولا يتمكن المفتي ، ولا الحاكم ، من الفتوى ، والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم :
أحدهما : فهْم الواقع والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقة ما وقع ، بالقرائن ، والأمارات ، والعلامات ، حتى يحيط به علماً .

والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع ، وهو فهم حكم الله الذي حكم به ، في كتابه ، أو على لسان رسوله في هذا الواقع ، ثم يطبق أحدهما على الآخر " .
" إعلام الموقعين " ( 1 / 87 )

أما ( فقه الواقع ) على المعنى الثاني : فثمة إفراط فيه ، وتفريط ؛
فإنه " قد غلا بعض المشتغلين بهذا الفقه حتى طغى على جانب الفقه الشرعي لديهم ، بل وغلا بعضهم حتى أوجب هذا الفقه على علماء الشريعة والفقه ، ورمى بعضُهم كثيراً من المشايخَ والعلماء بعدم فهم الواقع ، وبقلة فقه الواقع لديهم ؛ وقابلهم طائفة أخرى في مقابلهم منعت من الاشتغال بما يدور بالعالم من أحداث وواقع ،وخير الأمور أوسطها " بتصرف من موقع ( الإسلام سؤالٌ وجواب(

قلتُ : وليس هذا فقط !؛ بل إنّ كثيراً من المنتسبين للفرق والأحزاب – ومع حلول ربيعهم العربي! - قد توسّعوا بمفهوم هذا المصطلح ؛حتى زادوا عليه البحثَ في عيوب وانحرافات ( الأنظمة العربية الحاكمة ) من أجل تبصير الناس بواقعهم وأسباب عزّتهم !! ؛ ولا مبالغة في القول أنّ هذا الأمر قد صار – فيما بعد – شغلهم الشاغل ، وأصلاً مُعتقداً من أصول ( فقه الواقع ) عندهم .

وعلى أيِّ حال : فإذا كان ( فقه الواقع ) على المعنى الأوّل فإنّ السلفيين أحقّ به وأهْلُه ؛ لا يجادل في هذا عاقلٌ مُنصف .. فعلماء الدّعوة السّلفيّة – بطلبهم العلم وتعظيمهم السّنّة والأثر – هم أقدر من غيرهم على تحرير المسائل الفقهيّة ، وتحقيق مناط أحكامها الشّرعيّة ، والاجتهاد والتجديد للدين .

وأمّا إذا كان على المعنى الثاني – وهو : معرفة ما يجري من أحداث وتحليلاتها السياسيّة – فإنّ الفتن العصريّة الجارية قد أثبتت – بما لا يدع مجالاً للتشكيك – أنّ السلفيين أفهمُ الناس للواقع ، وأكثرهم تحسّساً لمواطن الشرور وبواطن الأمور ، وأقْدرهم على توقّع العواقب ، وتقرير ما به تُدفع النوائب ؛
فالسلفيون هم مَن حذّر الأمّة توابعَ ( الربيع المزعوم ) منذ اللحظات الأول لإطلالته ؛ وتوقّعوا سفك الدّماء ، وحلول الخراب وحدوث الفوضى وتفشي البلاء ؛ وقيل فيهم ما قيل ..! ؛ والآن فإنّ ( الواقع ) في بلاد المسلمين ما خرجَ عمّا وصفه السلفيون .. ؛ فمن هم أصحاب ( فقه الواقع ) حقيقةً ؟

بل إنّ السلفيين – قبل هذا بأعوامٍ طويلة – بيّنوا حقيقة الشيعة الروافض ، وحذّروا من الاغترار بـ ( حزب الله ) وتوضيح عقيدته ! ؛ في وقت كان من يدّعي ( فقه الواقع ) يرتمي في أحضانهم ! ، ويدعو للتقارب معهم ..! ؛ حتى كشف اللهُ – تعالى – أمرهم للأمّة ، ومكْرَهم لأهل السّنة .. ؛ وهو ما دعى القرضاوي لأن يعترف لعلماء الدعوة السلفيّة بوعيهم وعلمهم بعقيدة القوم وحقيقة عدائهم للسّنة .

فمن هم أصحاب ( فقه الواقع ) حقيقةً ؟

ولم ينفكّ السلفيون عن التحذير من فتن السياسة العصريّة ، وكشْف عور العمل فيها والانشغال بـ ( علومها! ) ، والنّصح بترك طرائقها التي لا بدّ فيها من التنازل والتنازع ، والتحالف مع العلمانيين والتآلف مع أعداء المسلمين ... ! ؛ فجاءت الفتنة المِصريّة فعرف الصغير قبل الكبير غدْرَ السياسة وتلوّنها وقبْحها ، وزيفها وخداعها !
فمن هم أصحاب ( فقه الواقع ) حقيقةً ؟



تعليقات القراء

ابو احميد
هؤلاء القوم عرفوا المنهج النبوي الحق فاتبعوه. فسهل عليهم معرفة مناهج الاخرين وخطرهم فحذروا الناس
08-12-2014 05:15 AM
الحمايده
هذا واقع لا ينكر .. بارك الله شيخنا الفاضل سعيد النواصره
08-12-2014 08:33 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات