الباحثون عن الموت


سأكتب اليوم في موضوع من أخطر الموضوعات ، وإني كمثلي حديث عهد بما يكتنف العالم العربي من مفارقات عجيبة ، هي ليست من الجهاد في شيء ، وليست من الأمور التي يمكن للعاقل من بني البشر أن يدركها ويسلم بها بلا تفكر ولا وعي ولا دراية ، ولا مرجعية أو فتوى دينية صحيحة يمكن أن يقدم الإنسان على فعلها وهو مطمئن كل الاطمئنان ، بأن الأعمال التي يقوم بها ، هي أعمال خالصة لوجه الله ، وهي بلا جدار ولا تردد أعمال المراد منها التقرب إلى الله تعالى، ولا يمكن أن يعاقب عليها الإنسان إن قام بها .

في هذه الأيام كثر اللغط عن الجهاد والجهاديين ، وانخراط الكثير من الشباب في تنظيمات جهادية ظاهرها يختلف كثيرا عن باطنها ، لأنها تحتاج إلى إعادة النظر فيها قبل فوات الأوان ، ولا أحسب أن المجاهدين في أيامنا هذه هم على دراية بما يقومون به من أعمال وبطولات لا تمت إلى الجهاد الحقيقي الذي يرضاه الله ورسوله بأي صلة ، ومما يزيدنا خشية على مستقبل الأمة المسلمة في عالمنا كله ، هو انتشار الجهل ، والخزعبلات ، والإدعاء بأن من يقتل منهم ، إنما يقدم روحه في سبيل الله شهيدا خالصا لوجه الله ..

شروط وجوب الجهاد (من كتب السيرة) :

لما كان الجهاد بذل أعظم وأنفس ما عند المؤمنين وهي أنفسهم ، ولما كان فيه ترك الزوجات والذريات وهجر الأوطان والمساكن ولما كان فيه قتل الأنفس وإراقة الدماء كان حرِيّاً بالشارع أن يضع له أعظم الضوابط وأقوى الأحكام حتى لا تراق الدماء في كل واد وسبيل وحتى لا يختلط الحابل بالنابل ولا يدري القاتلُ فيم قَتل ولا المقتولُ فيم قُتِل .

فدماء المسلمين وأرواحهم عند الله شيء عظيم. قال صلى الله عليه و سلم :" لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من قتل رجل مسلم". رواه الترمذي وصححه الألباني رحمه الله .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه و سلم وهو يطوف بالكعبة :" ما أطيبك وما أطيب ريحك ، ما أعظمك وما أعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله منك ماله ودمه ".رواه الترمذي وصححه الألباني .

ولذا وضع أهل العلم شروطاً وضوابط للجهاد هي :

الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورة والسلامة من الضرر ووجود النفقة وإذن ولي الأمر .

فلا يجب الجهاد على الكفار من أهل الذمة والمعاهدين .

ولا يجب على الصغار الذين لم يبلغوا الحلم .

ولا يجب على العبد المملوك .

ولا يجب على النساء .

ولا يجب الجهاد على من عدم نفقته.

ولا يجب إذا ترجحت مفسدة القتال على المصلحة المتوخاة منه لأن الشريعة جاءت بجلب المصالح وتكثيرها ودفع المفاسد وتقليلها ، فإذا ترتب على الجهاد حدوث مفسدة اكبر من المصلحة المتوقعة حرم الجهاد حينئذ .

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات : ( لما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد وكانت الأعمال معتبرة بذلك ، لأنه مقصود الشارع ، فإذا كان الأمر في ظاهره وباطنه على أصل المشروعية فلا إشكال ، وإن كان الظاهر موافقاً والمصلحة مخالفة فالعمل غير صحيح وغير مشروع ، لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لنفسها، وإنما قُصد بها أمور أخرى هي معانيها وهي المصالح التي شرعت لأجلها).

وعلى ذلك إذا لم يحقق الجهاد المصالح المرجوة منه بل حقق مفاسد، أو رجحت كفة مفاسد القتال على مصالحه ، كان القتال ممنوعاً محظوراً .

يقول ابن تيمية رحمه الله : ( إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات وتزاحمت ، فإنه يجب ترجيح الراجح منهما، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فيُنظر في المعارض له ، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر ، لم يكن مأموراً به ، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته) .

ويقول رحمه الله : ( الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ، وإنها ترجيح خير الخيرين وشر الشرين ، وتحصيل أعظم المصلحتين وتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما . قال تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}.فتبين أن السيئة تحتمل في معرضين : دفع ما هو أسوأ منها إذا لم يدفع إلا بها . وتحصيل ما هو أنفع من تركها إذا لم يحصل إلا بها . والحسنة تترك في موضعين : إذا كانت مفوتتة لما هو أحسن منها . أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة .

واليوم نرى في ما نرى ، أن الشباب الذين لم يتجاوزوا سنَّ الرشد أو البلوغ ، تُسْتَغَلُّ براءَتُهم ، وتُغْسَلُ أدمغَتُهم ، ثم يساقون إلى ساح الوغى أرتالا أرتالا وأفواجا أفواجا ، ظانين بأنهم فعلا ذاهبون إلى الجهاد في سبيل الله ..

انظروا معي وتمعَّنوا .. كيف يَستغلُّ المجرمون والعملاء وهم بطبيعة الحال من أبناء جلدتنا – هم جنود إبليس – يستغلون هؤلاء الشباب البريء أبشع استغلال ، للتخلص منهم بحروب مصطنعة جانبية لا ناقة لهم بها ولا جمل ، ولا تنفع الشعوب في شيء أبدا ، ذلك بعد أن عجزت كل قوى الشر والطغيان في الدنيا وبكل مسرطانتها التي تسوّقها في ديارنا ، عن أن تسخِّرَ الموت لشبابنا بطريقة أخرى هكذا بلا هدف ولا غاية ، سوى أنهم يحسبون لشبابنا ألف حساب في المستقبل الواعد ، لكنهم هنا يساقون إلى الحرب بالرغم من مصائرهم المجهولة التي لم تخطر لهم على بال ، لأنهم ما زالوا شبابا صغارا غُسلتْ أدمغتهم على أيدي عملاء متخصصين ، باعوا أنفسهم للشيطان ، فأصبحوا من جنود الشيطان الذين أراحوا كل الشياطين وأوقفوهم عن واجباتهم .

إن من المعيب على أمتنا وحكامها ، أن تكون ألعوبة بأيدي الصهاينة ، وأن تكون مسخرة للشر ، سهلة الانقياد من أجل تنفيذ مخططاتهم الجهنمية بكل المقاييس ، بالرغم من إن تاريخ إسرائيل حافل بالمؤامرات والخيانات ، وافتعال النزاعات والاغتيالات والحروب في المنطقة ، لا يردعهم دين ، ولا يتورعون عن إثارة الفتن ، وإشاعة الفوضى والاقتتال في الدول العربية .

لكنَّ من المؤسف بأن هناك كثير من الجهابذة ، وهم يعتبرون أنفسهم سياسيون ومفكرون ، ما زالوا يظنون بأن الحروب التي حدثت وما زالت تحدث في عالمنا العربي والتي أزهقت فيها الأرواح ، وراح ضحيتها مئات الآلاف من الأنفس البريئة قتلا وتشريدا وسجنا ، عدا عن تدمير الثروات والمقومات التي كانت قد حققتها بلدانهم بعد صراع مرير مع الزمن والظروف ، واعتقدوا خطأ بأنها ما هي إلا ثورات على البغي والظلم والاستبداد والعبودية ، ولذلك أطلقوا عليها جهلا بثورات الربيع العربي ، ولكني مع أنني لم أبلغ من الحنكة السياسية ما بلغه غيري ممن يقودون البلاد والعباد الآن من سيء إلى أسوأ ، أول من أطلق عليها كلمة الخريف العربي ، وبما تعمله كلمة الخريف من معنى حقيقي لوضعنا الحالي .

مئات الآلاف من الشباب والرجال يزجون في حرب وقتال شرس ، استخدمت فيهما أبشع أنواع الأسلحة المحرمة وغير المحرمة ، ولكن الشيء الذي لا يحتمله العقل ولا الدين ولا العقيدة بأن هذه الحروب والنزاعات ، لا تدور على أرض فلسطين ، وإنما تدور على الأرض العربية ، في العواصم العربية ، في بغداد ، وتونس ، والجزائر ، وبنغازي ، والقاهرة ، وصنعاء ، ودمشق .

فهل هذه العواصم صهيونية ، ولماذا يدور الاقتتال فيها منذ سنوات ، وفي بغداد بالذات منذ عشرين سنة ولغاية الآن ؟

حرب إبادة وتصفيات للعنصر البشري العربي المسلم ، أمة يتقاتل أبناؤها مع بعضهم البعض ، بعيدا عن ثرى فلسطين المحتل ، وبعيدا عن الغاية التي خلق الله الجهاد من أجلها ، وهي احتلال الأرض والأوطان ، وتشريد الإنسان المسلم في كل بقاع الدنيا ، وأمور يمكن أن يصبح الجهاد فيها فرض عين .

إذن لماذا الاقتتال في سوريا ، ولماذا يجند شبابنا ويغرر بهم ، ويرسلون إلى القتال في سوريا ، وكأن الشام وأرض سوريا العربية ، أرض تحتاج إلى تحرير .. سوريا نعرفها حق المعرفة ، دولة ذات سيادة ، يحكمها رئيس متشبث بالحكم ، يقاتل بجيشه منذ ثلاث سنوات ، حرب أشبه ما تكون بصراع البقاء ، ومهمته هو الدفاع عن وجوده كرئيس لسوريا ، وأما الطرف الآخر الذي يقاتل الجيش النظامي السوري فما هم إلا ثوار يطالبون بإزاحة الرئيس ، واستبداله برئيس آخر يحكمهم ، لكن المحير ، هو وجود سؤال يحتاج إلى إجابة حقيقية وصحيحة ، هل هذه الثورة جاءت فعلا من قلب الشعب السوري ؟ وهل هي رغبة الشعب السوري كله ؟ وهل أن رموز هذه الثورة هم من المسلمين الحقيقيين ؟ ولكن ماذا عن الجيش السوري ، هل هو صهيوني أم أنه جاء إلى سوريا من كوكب آخر ؟ وما علاقة الشباب في العالم العربي بالحرب السورية ، وما الذي دفعهم إلى الزج بأنفسهم في أتون الحرب ضدَّ النظام السوري ؟

لشد ما يزيد من دهشتي وحيرتي ، أن أولئك الشباب والذين لم يكمل البعض منهم دراسته الثانوية ، أي لم يبلغ سن الثامنة عشر بعد ، من يقنعهم بالذهاب إلى ساحة المعركة ، ومن يقنعهم بأنهم إن قتلوا هناك فإنهم ذاهبون إلى الجنة ؟

نعم أصبحنا ندرك أن عالمنا العربي مليء بالعملاء والخونة ، الذين أخذوا على عاتقهم إدارة الأزمات في العالم العربي ، لصالح الصهيونية ، من أجل التخلص من كل شيء قد يشكل خطرا على إسرائيل ، من القوى البشرية ، وتدمير الاقتصاد وكل الإمكانات والمقدرات وأي شيء يمكن استخدامه ضد الاحتلال الإسرائيلي .

والحكومات العربية الغنية التي تظنُّ بمساعداتها على بعض الدول الفقيرة ، هي التي تتكفل دائما بإذكاء نار الفتنة في دول عربية أخرى من أجل تمرير المخططات والمؤامرات الإجرامية ، بإيعاز من دول الغرب ، وبمخططات صهيونية بحتة .

وكم أتمنى على هذه الحكومات ، أن تدرك بأنها لن تكون يوما بمأمن عن تلك النزاعات والفتن طال الزمن أو قصر ، وإنها ما دامت تحتل مكانا بارزا في التآمر والإجرام ، فأنها ستدفع الثمن غاليا في يوم من الأيام ، وكم أتمنى على شعوبها أن تدرك أخطاء حكوماتهم ، وأن تنظر إلى تلك الأخطاء والانحراف بسياسة الدولة عن مسارها الصحيح ، وأن يبادر القادة فيها وأصحاب القرار بتصحيح المسار والعودة إلى جادة الصواب .. وإلا فكيف تسمح لنفسها بأن تدعي الإسلام والإسلام منهم براء؟
كثيرون من أرباب الأسر ، قتلوا في تلك الحروب ، وباتت أسرهم في العراء ، وأبناؤهم أيتام لا يجدون قوت يومهم ، وما أبشع أن نرى أبناءهم في الشوارع وعلى المنعطفات بثياب مهلهلة في البرد ، وتحت زخات المطر في الشتاء القارس، ولهب الشمس المحرق في فصل الصيف ، شيء محزن ومبكي في آن واحد ، وأيا كان الأسباب ، فإن هؤلاء الصغار تنقصهم هم فعلا تنقصهم رعاية الوالدين ، أحدهما أو كلاهما ، ولهذا فهم يحيون مرارة اليتم والفقر والجوع ، والمجتمع كله حينما يرى تلك الأعداد الهائلة ، يقف حائرا لا يقدر على شيء .. فيبقى المجتمع كله حزينا ، والأطفال سيظلون على قارعة الطريق يتسولون ، أعطوا أم حرموا ، لكن المصير صعب وقاس ومحزن ..

(جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ أَحَيٌّ وَالِدَاكَ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ) .

كلنا يعلم ما للجهاد من أجر وأن الشهيد له منزلة عظيمة لا ينالها غيره ولكن لنعلم أن بر الوالدين أعظم وأهم وأجل منزلة من الجهاد .

بهذا يمكننا أن نخلص إلى حقيقة ثابتة ، قد تكون مقنعة لنا إلى حد كبير ، كي نعلم حقائق الجهاد وما يجب علينا أن نعلمه عن الجهاد ، وأن نفوت الفرصة على أولئك المغرضين والذين يجعلون من شبابنا حطبا لنار باطل مستعرة في عالمنا العربي ...
والله ولينا في الدنيا والآخرة وهو ولي التوفيق..



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات