حديث جلالة الملك وأداء القطاع العام


حديث جلالة الملك حول تدني مستوى أداء القطاع العام لم يكن وليد لحظته أو ردا على الحقائق التي اطلع عليها جلالته خلال الاحتفال بتوزيع جائزة الملك عبد الله الثاني للتميز. فجلالته كان متابعا لأداء مؤسسات القطاع العام منذ أن تولى أمانة المسؤولية، والجميع يذكر زيارات جلالته المفاجئة، المعلنة والمتخفي فيها، الى مختلف الوزارات والمؤسسات العامة ليطلع على المشهد على أرض الواقع وليس كما يتم رسمه وزخرفته. وهذا الاهتمام بالأداء المؤسسي للقطاع العام من قبل جلالته مرده الى ايمانه وقناعته بأن من حق المواطن الاردني الحصول على أفضل خدمة، بأسرع وقت، وبأقل جهد وكلفة، وبأفضل جودة. ومع تدني مستوى أداء القطاع العام خلال السنتين الأخيرتين بشكل ملفت للنظر، اختار جلالته التوقيت المناسب ليعلن عدم رضاه عن أداء الوزارات والمؤسسات العامة، وتأكيده ضرورة الإسراع إلى تحسين هذا المستوى إلى مستوى يجسد طموحات جلالته في أن يحصل متلقي الخدمة على أفضل الخدمات، خاصة وأن الادارة العامة في الأردن كانت من أكثر الإدارات العربية نجاحا وتألقا، وساهمت في بناء ونجاح الإدارات العربية، وبخاصة في دول الخليج العربي. ويجب هنا ان لاتفوت الإشارة الى ان غالبية المشرفين على برامج وجوائز التميز في دول الخليج العربي هم من الأردنيين، الذين غادرونا بسبب بعض الممارسات الخاطئة من قبل صناع القرار. إن سبب تراجع مستوى الأداء في القطاع الحكومي، يعود إلى قضيتين أساسيتين، وهما: القيادات الادارية، ودور وزارة تطوير القطاع العام.

إن تعيين القيادات الإدارية العليا، وللأسف، ما يزال يتم بطرق واساليب بعيدة عن الموضوعية والحيادية، ونتيجة الاستجابة للضغوط. ومن المعروف، أن القيادات الادارية العليا في اي مؤسسة من المؤسسات، وظيفتها الأساسية والرئيسية قيادة المؤسسة، ووضع الإستراتيجيات اللازمة لتحقيق الرسالة والأهداف التي أنشئت المؤسسة من أجلها، ومراقبة الأداء الكلي العام للمؤسسة. وفي هذا المجال هناك بعض الملاحظات:

- إن غالبية من يتم تعيينهم في المناصب القيادية العليا في الوزارات والمؤسسات الحكومية هم ممن لا علاقة لتخصصاتهم بمجال عمل المؤسسة التي يتولون إدارتها، ويكونون من خارج المؤسسة، بل وممن لا علاقة لهم بالقطاع العام.

- لا تمتلك غالبية تلك القيادات أي مهارات ادارية او قيادية، ولا يتم إخضاعها إلى أي تدريب أو تطوير إداري. وقد لجأت بعض الدول منذ وقت طويل إلى إخضاع قياداتها الادارية إلى مثل هذا النوع من التدريب.

- لا يوجد أي تقييم لأداء هذه القيادات الادارية لاتخاذ قرار بإبقائها في مكانها أو نقلها إلى وظيفة أخرى أو الاستغناءعن خدماتها.

- عدم وجود أي حصانة لهذه القيادات، إذ يضطر الكثير منها إلى مداهنة المرجع الأعلى والخضوع لإملاءاته حتى ولو كانت خاطئة.

أما وزارة تطوير القطاع العام فإن وجودها يحتاج إلى مراجعة. فقد كان الهدف من إنشاء هذه الوزارة أن تعمل على تحسين وتطوير الخدمات المقدمة إلى متلقي الخدمة، من خلال وضع الإستراتيجيات اللازمة لذلك، ومراقبة أداء الوزارات والمؤسسات. لكن ممارسات الوزارة خلال السنتين الأخيرتين حرفتها عن المسار الصحيح، من خلال الإجراءات الخاطئة التالية:

1- تقزيم الوزارة لوحدة متابعة الأداء الحكومي وإهمالها لمهام ودور هذه الوحدة بعد أن تم نقلها من رئاسة الوزارة، وتحويلها إلى مديرية ضمن الوزارة، الأمر الذي أدى إلى تقزيم هذه الوحدة، وخضوعها لرغبات الوزارة وإملاءاتها، وبحيث اضطر العاملون فيها إلى الاستقالة، والسفر إلى خارج المملكة للعمل.

2- تعدي وتغول الوزارة على الوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى، بحيث فرضت نفسها كوصي عليها من خلال إجبار الوزارات والمؤسسات على الحصول على موافقة وزارة التطوير عند وضع الهياكل التنظيمية للوزارت والمؤسسات أو تعديلها، الأمر الذي حرمها من تطوير قدراتها ومهاراتها في مجال التنظيم.

3- تعدي وتغول الوزارة على ديوان الخدمة المدنية الذي يعتبر جهازا مركزيا مستقلا يتبع رئيسه لرئيس الوزراء مباشرة. فقد قامت الوزارة بالتعدي على مدخلات الجهاز الحكومي المدني من خلال إجبار مجلس الخدمة المدنية على تعديل تعليمات الاختيار والتعيين، واستجابة لضغوط نابعة من مصالح شخصية، بحيث أصبح الوزن الأكبر يعطى للأقدمية، مما يشكل خرقا للدستور الاردني الذي ينص على أن تولي المناصب والوظائف الحكومية يكون وفقا للكفاءة. علاوة على ذلك، فإن التعيين حسب الأقدمية يعني إضعاف الجهاز المدني الحكومي من خلال تعيين موظفين تقادمت معارفهم ومعلوماتهم ولا يمتلكون المهارات المطلوبة لتحقيق الأداء العالي. وكان بالامكان تعديل التعليمات بحيث يتم إلغاء نظام الدور التنافسي واللجوء إلى اجراء الامتحانات التنافسية لجميع المتقدمين ضمن المنطقة الجغرافية الواحدة بغض النظر عن أقدمية التخرج، ليتم اختيار الأكفأ.

4- سيطرة الوزارة على مجلس الخدمة المدنية وفرض رأيها على المجلس باعتبار ان الوزير هو رئيس مجلس الخدمة المدنية، مما أضعف دور المجلس نتيجة مسايرة اعضاء المجلس من الوزراء لبعضهم البعض. وقد كان الأولى أن يبقى مجلس الخدمة المدنية برئاسة رئيس الوزراء أو نائبه كما كان الأمر عليه سابقا.

5- قيام الوزارة بإعادة تشكيل مجلس الخدمة وإبعاد أهل الخبرة والتخصص في هذا المجال عن عضوية المجلس، وتعيين أحد رؤساء الجامعات الاردنية، ممن لا علاقة له بمجال الخدمة المدنية، عضوا فيه، مع جزيل الاحترام والتقدير لرئيس الجامعة ولمكانته العلمية والاكاديمية ولإنجازاته. وهنا يمكن طرح السؤال التالي: لماذا هذه الجامعة بالذات؟ ولماذا تم استبعاد الذين لهم معرفة واسعة وعميقة وخبرة طويلة في مجال الخدمة المدنية؟

6- سيطرة الوزارة على معهد الادارة العامة من خلال ترؤس الوزير لمجلس ادارة المعهد، وترؤسه للجنة الاستشارية للمعهد التي لم تجتمع سوى مرة واحدة، مما يمكن الوزارة من فرض آرائها على المعهد الذي يجب ان يعمل ضمن مساحة مفتوحة من الحرية ليتمكن من تقديم التدريب الكفيل بتحسين ورفع مستوى مهارات الموظف الحكومي.

7- قيام الوزارة بالتعميم على كافة الوزارات والمؤسسات الحكومية بعدم الاستعانة بالمدربين والمستشارين من القطاع الخاص، الأمر الذي أدى إلى عدم الاستفادة من الخبرات الخارجية، وبعكس ما هو متعارف عليه في عالم الادارة، بالاضافة الى التخلي عن مبدأ الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

8- تفرد الوزارة وسيطرتها على برنامج هيكلة رواتب القطاع العام وإخضاع المؤسسات المستقلة لنظام الخدمة المدنية دون أي دراسة موضوعية، وعدم الاستماع إلى آراء الآخرين منذ بداية تنفيذ البرنامج، الأمر الذي أدى إلى تكبيد الدولة مبالغ طائلة تقارب الـ 460 مليون دينار، نتيجة دخول الوزارة في مساومات وخضوعها للضغوطات عند تنفيذ البرنامج، ونتيجة الرغبة في حصد "الشعبية". وقد أدى تنفيذ هذا البرنامج بشكل خاطئ إلى انخفاض الروح المعنوية والشعور بالظلم والاحباط لدى العاملين في مختلف الاجهزة الحكومية، وتوسع الفجوات بين الموظفين في الدائرة الواحدة، وأدى هذا بمجمله إلى تسرب الكثير الكثير من الكفاءات من الاجهزة الحكومية.

9- إن الأداء العالي لأي مؤسسة من المؤسسات، والاصلاح الاداري لا يتحققان دون وجود ممارسة عملية لما يعرف بأخلاقيات الادارة على مختلف المستويات الادارية. وعلى الرغم من أن وزارة التطوير هي من تبنّى مدونة السلوك الوظيفي، فانها لم تقم بتقييم أثر هذه المدونة على أداء الوظفين، ومدى تقيدهم بها، بل أشغلت نفسها بعضوية لجان وبقضايا لا علاقة بها.

في إحدى الدول الاسكندنافية، وقبل عام، شاهدتْ وزيرة التربية أثناء توجهها لعملها صباحا، أحد الأطفال وهو يقطف وردة من الحديقة العامة، فما كان منها الا ان توجهت الى مكتبها وتقدمت باستقالتها لقناعتها بأنها مسؤولة عن الفشل في إعداد طفل وتربيته، فما بالنا وقد استمعنا إلى حديث جلالة الملك.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات