حدود .. وقود .. صراع


أحد أهم التعازي التي تفتق عنها العقل العربي الحديث نتيجة متوالية الاحتلالات الصهيونية الإسرائيلية للأراضي العربية تلخص بشعار الصراع مع اسرائيل " صراع وجود لا حدود"، مثله مثل تلك المصطلحات التي أطل علينا بها جهابذة السياسة، كتعبير عن احتلال فلسطين، لتختصر وتصغر وتبسط بحدود " نبكة ، 1948 ونكسة 1967، لا تعترف بالهزيمة تاريخية واخلاقية شاملة، تمتد من المحيط الغائب إلى الخليج الفاجر.
ومن أجل اكتمال المشهد المأساوي، اختصرت كل مصائب الفلسطيني وثقافته وانسانيته وحقوقه بـ"التغريبة" جسدتها اتفاقيات أوسلو ومدريد 1991، وها هي تنطلق من جديد الأن.

المبكي في ذلك، هو القاسم المشترك بين كل هذه الأحداث المفصلية، باتكالها على اسلوب الاختزال والتصغير، ففلسطين من " المي إلى المي " أسقطت منها أراضي 48 مع سبق اصرار وترصد، ولم يطالب بها أحد، لتركز اكاذيبهم على أراضي 67، لضمان وجود اسرائيل كمخلوق سرطاني في الخاصرة قابل لتمدد والانتشار، ومن ثم تبع ذلك اختزالها بغزة، رام الله، ومن ثم غزة منفصلة، وضفة مقسمة، تتأكل جهاراً نهاراً، ويستمر المسلسل!

لهذا يمكن القول إن: شعار "صراع وجود لا حدود" مهما كان عظيماً، فإن الحدود التي تقوقعت خلفها الانظمة العربية بالأمس، أخذة بالتلاشي شيئاً فشيئاً اليوم، لتأكيد وجود كيان مغتصب يبحث عن تامين نفسه خارج حدوده، بل هو لا يعترف بالحدود أصلاً، ولا بوجودها، بقدر اعترافه بقوة طائراته ومدى صواريخه ومشاريعه وافكاره!

تزييف خرائط أم زحزحة حدود

إذا كان الصراع الاممي الدائر في سوريا الأن جعل الناس تهرب من بيوتاتها وجحيم الأسلحة خوفا من الموت، صوب الحدود. فأن الحدود لا تعدوا أن تكون قنبلة موقوته لا أحد يعلم موعد تفجرها، لأسباب أهمها:
أولا ً: الحدود عامل ضغط في اوقات الازمات على المرسل والمستقبل.
ثانيا: تشكل نقطة استغلال يمكن التلاعب بها من قبل الجهات كافة صالحها، ويشترك بهذا، الانظمة، المنظمات، الأفراد.
فمن جهة يمكن استغلال وجود اللاجئين لجلب المساعدات المالية للدولة المستقبلة، ومن جهة اخرى يمكن تجنيدهم لصالحها، كما يمكن للنظام - مثلا السوري - استغلال هذا الوجود باعتباره تهديداً مباشراً، وهذا يعني ضمنيا، اعتبار دول الجوار عدو يتوجب استهدافها.
ثالثا: انتقال الحدود من حاله الهدوء والوئام بين الدول إلى خانة التداخل والصراع، ما يعني اعتبارها حقل الغام متفجر عابر لها معرض في أي لحظة للانفجار.

فواصل جغرافية
الناظر لخارطة الدول التي تحيط بإسرائيل اليوم، يجد هذه الحدود العامل الاكبر لتأمينها، بصورة لم تتوافر لها عبر تاريخها الصغير.
فمن جهة مصر تم تأمينها بواسطة عازل جغرافي حُيد تماماً بمجرد توقيع معاهدة كامب ديفيد، ومسؤولية حمايته منوطة بالدولة المصرية لا غيرها.
عين الأمر تكرر في الجنوب اللبناني ونتائج حرب تموز ، والتي وأن هزت صورة العدو الصهيوني إلا أنها فعلياً عملت على تأمينه.
الأمر عينه يتكرر و سيتكرر غداً في سورية ان سارت الرياح كما تشتهي سفن الغرب واشرعة بعض الانظمة العربية، الراغبة بتأمين اسرائيل، قد يقول قائل ماذا عن الحدود الأردنية الإسرائيلية، إلى لهؤلاء نقول: بالأصل هذه الحدود موسومة فقط على الخرائط، لكنها واقعياً الأكثر أمناً وتنسيقاً وهدوءً مع أنها الأطول والأكثر عرضة للتهديد، وهذا مرتبط بطبيعة الدولة الاردنية ووظيفتها الامنية الإدارية للمنطقة !

لذا من السذاجة الاعتقاد أن إسرائيل مجرد جزيرة محاصرة و مهددة في وسط محيط متفجر، فالحقيقة الأكبر واشمل كون إسرائيل اليوم ليست إلا جزيرة أمنة بمحيط متعاون، فقلعة تل أبيب محروسة بعساكر عرب !
طبعا الحجة الجاهزة لدى الأنظمة العربية ومؤسساتها لتبرير افعالها تقوم على مراعاة المصالح الوطنية العليا والتي تتمثل بحماية الوطن والشعب والدولة !

مناطقة عازلة سورية

بمجرد انتهاء تهديد العدوان الأممي على سوريا والذي قادت ناصيته واشنطن و" جوقة التخريب العربي " وبعد تحييد السلاح الكيميائي الأهم، عاد هؤلاء يعزفون لحن إنشاء منطقة انسانية عازلة ! في الجنوب (الأردن) والشمال (تركيا) السوري، لا حماية للاجئين كما يروجون، بل من أجل إنتاج شروط تفاوضية مؤكدة، تعوض ما خسروه خلال الأشهر الماضية كوسيلة لغاية انتاج مشهد امريكي قادم لتسوية اقليمية شاملة تتخطى حدود دمشق المضطربة إلى قلب اسرائيل الأمنة، بموافقة فلسطينية يقودها عباس وزمرته، ورضوخ دول الجوار الإسرائيلي، للإرادة الأخيرة.

إلى جانب كل هذا ألا يعني فرض منطقة حظر جوي ضوء أخضر لاستمرارية القتال على الأرض السورية، ما يتطلب زيادة جرعات الدعم (المال و الاسلحة ) لمقاتلي المعارضة متعددو الجنسيات.

عملياً، عمان ستكون مسؤولة مسؤولية مباشرة عن المنطقة العازلة، ما يشكل خطراً على استقرار النسبي الذي تنعم به، والذي إن اهتز فمن الاستحالة بمكان السيطرة عليه، واعادته إلى مستواه الطبيعي.

أضافة إلى ذلك، إن العمل على إنشاء منطقة عازلة يزيد من اعباء الدولة، التي تعاني أصلاً شحاً في الموارد، وشحاً في المساعدات الدولية عامة والعربية خاصة، لارتباطها بتقديم تنازلات تتوافق مع رغباتها الجامحة.

لا شك أن خطوة متسرعة يُجبر عليها النظام الأردني اعتمد سياسة " الحياد المصلحي " خلال عمر الأزمة السورية قد تؤسس لحقل متفجر لا يملك أحد ترف التنبؤ بنتائجه.


اسرائيل قابلة للتمدد

هنا، ستنتهي الشعارات من وزن الريشة "صراع وجود لا صراع حدود " فبدلاً من الوجود الذي بات حقيقة مطلقة غير قابلة للتغير في المدى المنظور، تقدمت الحدود لتشكل عامل تأمين لقلعة اسرائيل، وسلاح استراتيجي لا يستهان به، تهدد به من فوق طاولة المفاوضات الجارية على بقايا فلسطين.

سيما وأن اسرائيل لا تنظر إلى نفسها باعتبارها وحدة واحدة وفق نظريات الجغرافيا السياسية وإنما تعتبر نفسها جيوبوليتيك عضوي ومجال حيوي متحرك قابل للتمدد والتطور.




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات