طريقة العرض :
كامل
الصورة الرئيسية فقط
بدون صور

اظهار التعليقات

وكالة جراسا الإخبارية

نَصيحَةُ الحُكَّامِ ! .. بَينَ الإحْكامِ والأحْكامِ .. !




إنَّ الحمدَ لله – تعالى - ؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ؛ من يَهْدِه اللهُ فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هاديَ له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه .
{ يا أيَّها الذينَ آمنوا اتْقوا اللهَ حقَّ تُقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتمْ مُسلمون }
{ يا أيَّها الناسُ اتْقوا ربَّكم الذي خَلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلقَ منها زوجَها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساء واتْقوا اللهَ الذي تَساءلونَ به والأرحامَ إنَّ اللهَ كانَ عليكم رقيباً } ‏
{ ياأيَّها الذينَ آمنوا اتءقوا الله وقولوا قولا سَديداً يُصلحْ لكم أعمالكُم ويَغفر لكُم ذنوبَكم ومن يُطع اللهَ ورسوله فقد فازَ فوزاً عظيماً }
أما بعد ..
فإن أصدق الحديث كلامُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد ٍ صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .

هذه الآيات الكريمات من كتاب الله - عز وجل - دلت على الوصف الغالب على الإنسان ، وهو الخسران ، وهو وصفٌ عارضٌ وليس لازماً ؛ بمعنى أنه ينفك عنه ؛ ولكن بما ذكر في الآيات من شروط وهي : الإيمانُ بالله المتعال ، وعملُ الصالحات من الأقوال والأفعال ، والتواصي بالحق والصبر في كل حال ومآل .
ولذلك ؛ فلا عجب أن قال الإمام الشافعي - رحمه الله – : ' لو ما أنزل الله على خلقه حجةً إلا هذه السورة لكفتهم '
ومثل هذه الأوامر في كتاب الله عز وجل – وأوجب علينا تطبيقها والامتثال لها - بها يكون صلاحُ دنيانا التي فيها معاشُنا ، وآخرتِنا التي إليها معادنُا ، ولا يؤدي الإعراضُ عنها إلا إلى أن يعرض الله تعالى عنا ؛ ومن أعرض الله تعالى عنه { فَإن لهُ معيشةً ضنكا } .

واعلم – أخي – أن مناط ذلك ( أي : الامتثال والتطبيق لأوامر الله تعالى ) هو النصيحة ؛ وهي ركن عظيم من أركان هذا الدين ؛ وهذا يدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم من حديث تميم بن أوس رضي الله عنه : ' الدينُ النصيحةُ ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم '،
قال الخطابي: ' معنى الحديث : قوامُ الدين وعماده : النصيحة، كقوله الحج عرفة ' .
وما أحسن أن يكون ' المؤمن مرآة أخيه ' كما قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، و' إذا رأى فيه عيباً أصلحه ' كما قال أبو هريرة رضي الله عنه ، قال صاحب ( جوامع الآداب ) : ' ينبغي أن يكون كلٌّ مرآة لأخيه ، ينصح بعضهم بعضاً ، ويرشد كلٌ أخاه إلى سبيل الكمال ، ولا يكتم نقدَ ما يراه نقصاً ، فمن تبادل النقد في ساحة المودة على بساط الصفا يكون الكمال ' .

ولذلك ' فإن أعظمَ ما عُبدَ اللهُ به : نصيحةُ خلقه ' ؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - ؛ فاحفظ هذا الأصل ، وعُضَّ عليه بالنواجذ ؛ فإنه أساس ما نحن بصدده ؛ ولن – بإذن الله تعالى - بعده نتقوَّل .

وبيان هذه العبادة يحتاج مزيدَ بسطٍ وتأصيل ؛ لكنَّ المقام لا يتسع للتفصيل ؛ لذا فإني سأُؤثر الاختصار والاستدلال ؛ خشية الإملال .. وبما لا يُحدِث - إن شاء الله – نوعاً من الإخلال !
فأقول : هنالك قواعدٌ هامَّة ، وأصولٌ عامّة ؛ ينبغي للقائم بالنصيحة العناية بها ، وأن تكون منه على بال ؛ حتى يتحقق المُراد من الجهد المنذور ، ولئلا تحصل المفسدة ، أو يقع شيءٌ من المحذور .. !
وهذه القواعد والأصول دائرةٌ بين وسائل الإحكام ، ومسائل الأحكام ؛ فالنصيحة - ابتداءً وانتهاءً - كلمة يعبر بها عن إرادة الخير والصلاح للمنصوح له ؛ ويمكن للناصح المبادرة بها دون طلب من أحد ؛ ولها ضوابط شرعية ؛ يترتب على الالتزام بها عدم حدوث مفاسد أعظم من المصالح الظاهرة ؛ وهي – أي النصيحة – غير ملزمة للمنصوح له ؛ يأخذ بها أو لا ؛ والضرر يقع بحسب إعراض عنها ، لا سيّما إذا صدرت من أهل الاختصاص والدراية ، ثم زادوا عليهما تقوى الله تعالى والإخلاص له .

وكونها كلمة للتعبير عن إرادة الخير ؛ فلا بدَّ من إحكامها وضبطها وإتقانها ؛ وهذا لازمه : الفهمُ الصحيح والحِكمة ، وقوة التبصر والحِنكة ، وحُسنُ الخطاب ووضوح الكِلْمة ..
والفهم الصحيح والحكمة هما مَظَانُّ الدراية والمعرفة السليمة بما تريد إنكاره ، أو نقده ، أو إصلاحه ، أو لفت النظر إليه ، أو التنبيه عليه .. !
فقد يكون السلوك – محل النصح – سليماً ؛ ويراه أحدنا سقيماً ، وقد يكون صحيحاً ويراه قبيحاً ، أو صواباً ويراه خطأً ، وقد يحصل العكس .. وكلُّ ذلك بميزان الشرع ؛ فليس الأمر بالمنكر – شرعاً – يُعدُّ نصيحةً ، ولا النهي عن المعروف – شرعاً – يُعدُّ نصيحةً كذلك ! .
وقد يصدر السلوك أو الفعل أو القول ؛ ويكون قُبْحُه أو خطؤه بيِّن واضح ؛ لكنّه ليس مألوفاً – أو مُشتهراً معروفاً – عمن صدر منه ، وأن يكون احتمالُ عدم عودته إليه أو تكرار صدوره ؛ هو القويّ الرّاجح .. !
ومن الوسائل المهمة – التي تُعين على إحكام النصيحة – سلامة الفهم والتبصُّر بصفة المقصود بالنَّصيحة ..
فليست نصيحة الولد كنصيحة الوالد ، ولا الفاسق كالعابد ، ولا القريب كالغريب ، ولا الجاهل كالعالم ، و ليست النصيحة للمحكومين والعوامّ كالنصيحة للحكَّام !
ثمَّ لتكون العبارةُ – لكلٍّ بحسبٍ - لائقةً ، واضحةً بارقة ، وحسنةً رائقة ؛ فإنِّ ما يليق بك – من الكلام – قد لا يليق بغيرك ، وما يروق لك لا يروق لآخر ، وما يكون لك مفهوماً ؛ قد يكون لغيرك مُبهماً .. !
وقد قالوا : الألفاظ قوالب المعاني .
وإذا طغى الخللُ على هذه الوسائل : قدْراً ولفظاً وتقديراً ؛ استشرى الدَّجل في النصيحة :فهْماً وحفظاً وتفسيراً ..
فتسير بين الناس فضْحاً ، أو تصير قدْحاً !

وأما أحكام النصيحة لها مسائلٌ تتعلق بالضوابط الشرعيّة ؛ كالموازنة بين المصالح والمفاسد المترتبة على القيام بالنصيحة ؛ من حيث الإقدام والإحجام ، وكذلك من يتولى النصيحة ويتصدَّرُ لها ، وأيضاً : الفرق بين الإشهار والإسرار في النصيحة ، وغير ذلك مما بحثه أهل العلم .
فإذا غلب على الظن حدوث مفاسد راجحة على المصالح المتوقعة من النصيحة ؛ فلا ينبغي الإقدام عليها ، وكذلك إذا علم الناصح أن المقصود بالنصيحة لن يقبل منه ، أو إذا خشي على نفسه العقوبة والضرر .
وأما من يتصدر للنصيحة فلا بدَّ من القدرة عقلاً وعلماً واعتباراً ؛ فأما العقل فيشترط حتماً ؛ وأما العلم فيلزم أحياناً كثيرة ؛ وهذا يظهر – قوياً – في النصح بفعل المأمور به شرعاً ، وعدم فعل المنهي عنه شرعاً ، وأما الاعتبار فمهمٌّ جداً ؛ فمن ينصح الطبيب في اختصاصه ينبغي أن يكون من أهل الاختصاص ذاته ، ومن ينصح للعالم أن يكون من أهل العلم ؛ أو من أهل الدراية في مضمون النصح ، ومن أراد أن ينصح لولي الأمر أو الحاكم في الأمور العامة للمسلمين ؛ فلا بدَّ أن يكون عالماً بالأحكام الشرعية والأصول الفقهيّة ، عارفاً بطرائق السلف الأول وسياستهم الرشيدة مع الحكام والولاة ، ومن أهل الدراية والتبصر بما يُصلح الناس ، وما يَصْلُحُون به !
وكيف يُنْصحُ للحاكم ؟
الأخذُ بما سبق من وسائل ، واعتبار الضوابط ؛ فإن تحقق ذلك تتبع ما يتيح له تبليغ نصيحته لولي الأمر بالإسرار دون الإشهار ؛ فإنَّه أدعى للقبول ؛ ويتأكد هذا في زماننا ؛ حيث عم الجهل ، وكثرت الفتن والمُلِمَّات ، وضعفت النفوس ومعها الهمم .. !

لمّا طلب الناس أيام الفتنة من أسامة بن زيد أن يدخل على عثمان بن عفان – رضي الله عنه وأرضاه – فيكلمه في بعض الأمور ؛ ‏قال : ‏ ألا ترون أني لا أكلمه إلا أُسمِعُكم ؟! والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرًا لا أحب أن أكون أنا أول من فتحه .. ! والقصة في الصحيحين .
فهذا الأثر له دلالات عظيمة منها : أن الناس طلبوا إلى من هو أهل للنصيحة ، وصاحب سبقٍ في الصحبة و العلم ، ومن ذوي المكانة عند الناس ؛ فيكلم الحاكم وينصح له .. ولم يتصدر لهذا الأمر أيُّ أحدٍ ومن تلقاء نفسه !
ثم إن أسامة بن زيد – رضي الله عنه – بيَّن للأمة منهج السلف الصالح في نصحهم للحكام بقوله : ' ألا ترون أني لا أكلِّمُه إلا أسمعُكم ؟ والله لقد كلَّمته فيما بيني وبينه .. '

قال الشيخ ابن باز – رحمه الله - : ' .. ولكنَّ الطريقة المتبعة عند السلف النصيحةُ فيما بينهم وبين السلطان ، والكتابةُ إليه '
فهذا الذي ينبغي أن يكون بين ( أهل العلم ) وحكام المسلمين : التناصح ، والتواصي ، والتواصل ، والتشاور ، والتحاور ..
وإن لم تُتح وسائل الاتصال ( الشخصي ) للعالم مع الحاكم ؛ فلا بأس من تحرير نصائحه الشرعيَّة لأولي الأمر والمسؤوليّة ؛ في كتبه ورسائله العلميّة { بالحكمة والموعظة الحسنة } ..
ولقد رأيت شيخنا الحلبي – حفظه الله تعالى – يؤصِّل – للحكام والمحكومين - نصيحةً شرعيّةً غاليةً عاليةً ؛ في رسالته ( الدعوة السلفيّة الهادية وموقفها من الفتن العصريّة الجارية وبيان الأسباب الشرعيّة الواقية ) ؛ ينبغي للمسلم أن يحفظها في سويداء قلبه ؛ لا سيّما في ( زماننا هذا !) .
والشيخُ – حفظه الله - في رسالته تحرّى – كعادته - : أن تكون النصيحة مبنيّة على الكتاب والسنّة ، وأقوال الأئمة ؛ مبيِّنة للوسائل الشرعيّة التي ( تحفظ ) الأمَّة ؛ ناهيك عن الفصاحة والحصافة .. لا زائدة على هذا !
وإننا نرى – اليوم - ( انتشار ) المقالات التي تحوي رسائل للحكام من باب ( النصح ) أو ( التنبيه ) ؛ ساعد على هذا ( اشتهار ) المواقع الإخبارية ( الديمقراطية ! ) ، والمنتديات ( الإجبارية ) ؛ والتي ( بعضُها ) – وللأسف – تنشر المقالة على ( عواهنها ) – لغةً ، وأسلوباً ، ومضموناً ، وموضوعاً - ؛ بل ؛ قد تفتقد – أحياناً – للباقة ، واللياقة في الخطاب !!
ونقول لمن ( يرون ) أنفسهم ( أهلاً ) للنصيحة ومخاطبة الحكام : أهلاً بكم ! ولكن ؛ هل لكم أن تأخذوا من حيث أخذ أهل العلم ، وتذهبوا معهم ؟
وأنتم ترون – اليوم - : هذا ينصح للحكام ، وذاك ينبِّه أو .. قد ( يوجِّه! ) ، وآخر يُحذّر و .. قد ( يُنذر ! ) ، بلا منهج أو عِلم !
وأحياناً ؛ لا يخلو الأمر من حظ النفس وتتبع مناها .. بلفت أنظار العامّة إلى ( مقالته ) من خلال عنوانها ؛ وهذا ينافي الإخلاص لله – تعالى – بالنصيحة وإرادة الخير والصلاح !
فإلى متى ؟ وما هي نتائج ذلك ؟!
نصيحةٌ ثمينة :
قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :
' استعينوا بالله – سبحانه وتعالى – بما علمكم من شريعته ، ثم بحكمة الشيوخ ذوي الثقة ، والأمانة ، والعلم ، والبرهان ؛ فاستعينوا بذلك على حماية بلادكم من كيد أعدائها .
واعلموا أن الدُّنيا تَبَعٌ للدّين .. ' ( مستفادة من رسالة شيخنا الحلبي المذكورة )
إنّ الدُّنيا تَبَعٌ للدِّين .. .
أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا ، وينفعنا بما علمنا ، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل ، وأسأله – تعالى – أن يوفق حكام المسلمين لما فيه الخير والصلاح ؛ وأن يجعل بلدنا خاصة وبلاد المسلمين عامة واحة أمن وأمان واستقرار .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين
Saed_abbade@yahoo.com

جميع الحقوق محفوظة
https://www.gerasanews.com/article/73847