جلست أنظر إليهم من بعيد ، نسمات الهواء الحار تعبث بخصلات شعرهم المتلبّد ، وبقايا ثياب لا تكاد تستر جسدهم الهزيل ، نظراتهم تتراقص وتعلق بأي شيء تراه ، كأنّ أحداقهم مشدودة إلى حبل واحد ، طفولة عارمة يصخب بها المكان . البراءة التي انغمست بها وأنا أراقبهم براءة من نوع جديد ليست كتلك البراءة التي تعودت أن أراها في وجه طفل يلفّه غطاء حريري أو تطعمه خادمة بملعقة من ذهب . براءة يشوبها شيء قبيح ، يلوّنها حزن غريب ، وجوع مرير مطحونة برحى الحرمان ، مكبوتة بآهات القهر ودموع مظلوم لا حيلة له سوى البكاء والهروب . وجوه صفراء لا كتلك الوجوه الورديّة ، شفاه بيضاء متشقّقة لم يليّنها يوم مذاق حلو أو حتى حامض ، عيون غائرة في الجفون من شدّة الهزال ، تغطيها سحابة سوداء طالما حجبت السّعادة والهناء . ما بال تلك الصّبية يلعبون ! أتستطيع أجساد كعيدان القصب الحركة ؟ أيهنأ لتلك العيون المتعبة إطالة النّظر لما حولها من بؤس . أم أنّهم لا ينظرون لها بعين السّخط كما أنظر إليها أنا ؟ أم أنّهم اعتادوا على تلك المناظر حتى أضحت بالنسبة إليهم أجمل من مشهد الألعاب النّاريّة التي يراقبها الأطفال على أساطيح القصور المرصّعة بالجواهر .
ألا يرى هؤلاء البؤساء الضباب الذي أراه أنا ؟ وكيف يرونه ! ولم يروا غيره ؟ كيف يشعرون بالظلام ، ولم يلامس النور بياض عيونهم الصغيرة .
آهٍ يا سماء كم تضمّين بين ذراعيك من تناقضات . أيعقل أن يجمع غطاؤك الأزرق الجميل كلّ هذه الأشواك بين ثناياه إلى جانب تلك الزهور الجميلة والحدائق الغنّاء ؟ كيف يستر ثوبك الفضفاض كلّ تلك العيوب ، كيف يرضى أن يلد أطفالاً يعلم ما ينتظرهم من خوف وهلع .
هل تجمع الخريطة كلّ هذه المدن ؟ وكيف تستوي بنفس الحدود ، ولا يدري حدّها الأيمن عن حدّها الأيسر ؟
هل يعقل أن تنتظم خرزات عقد في نفس الخيط ولا يرتطم أحدها بالآخر .
آهٍ يا غربة الزمان على من ألقي اللوم ؟ على الخريطة أم على السماء ، على الغني أم على الفقراء ، أين نحن من هذه العتمة وهذا الشّقاء ؟ أكتب الله دوام الليل على هذه الأرض ولنا على النهار دوام البقاء ؟
ما بال الشمس نسيت هذه البقعة وكأنّ الله أمرها ألّا تشرق فوق هؤلاء الغرباء .
من لكم يا أحباب الله ، من حرمكم من أبسط حق لكم . من منعكم عن النور ورماكم بالعراء ؟
يالسخرية الأقدار ، نلهو كلّ يوم بكلّ ما وجد للّذّة والمتعة ، نسهر ونمرح ، نلعب ونفرح ، نأكل ونشرب ، ناسين أو متناسين أنّ كلّ لقمة تدخل جوفنا ملطّخة بالعار ، مسروقة من فم صبية صغار ، لم نلتفت إليهم يوماً وكأنّنا لا نعلم أنّهم أناس بنفس المدينة ، أو حتى بنفس الحيّ ، بل جيران لنا بنفس الشارع ، وقد يكونون من أعراقنا .
آهٍ منك يا قدميّ اللعينتين ، لماذا سقتماني لهذا الشارع المظلم ؟ لماذا جعلتماني أمضي كلّ تلك الساعات حتى أصل لهذا المكان الذي أمضيت حياتي بعيدا عنه ؟
ياإلهي الساعة ما تزال الواحدة بعد الظهر ، ولم يمض على خروجي من منزلي نصف ساعة .
ولكن لماذا أشعر بكلّ هذا الزمان . لا بد أنّ الاختلاف العظيم بين هؤلاء وتلك الطبقة التي خرجت من عندها جعلني أشعر بكل هذا الزمان الوهميّ ، وكيف لا وكأنّ الزمن يدور عندنا وتوقف عندهم بعد أن طحنت عجلته كل أسباب الهناء والسرور .
لا يا قدميّ لستما لعينتين . بل اللعنة على ذلك السكوت ، اللعنة على الحيّ الميت ، اللعنة على كل متغافل عن حقّ هؤلاء ، ولا بد أنّ غيرهم كثير . على بعد نصف ساعة من منزلي يخيّم كلّ هذا الضباب ، كيف بمن لا أستطيع الوصول إليهم ؟ لابد أن الضباب والسواد أضحيا طعامهم وشرابهم صحوهم ونومهم فرحهم وترحهم .
كيف نعيش نهتف بحقوق الطفل وننادي بسعادته ونعقد المؤتمرات لتفنيد البنود ، ونصرّح بأنّهم أكبادنا التي تمشي على الأرض ، وبأنّهم زينة الحياة الدنيا وهم في ذات الوقت منغمسون في بحر الظلم والحرمان .
محرومون من حقهم في الحياة ، حقهم في التعليم ، حقهم في المسكن والملبس ، في المشرب والمأكل .
أين تلك الحقوق ؟ أهي شعارات نزيّن بها الكتب ؟ أم رسوم نلوّن بها لوحات المعارض ؟ أم أقنعة نغطّي بها وجه الحقيقة ؟
طالما سمعنا ونسمع هذه العبارة المزيّفة الجميلة ( حقوق الطفل ) كلمتان متلاصقتان لفظاً ، متباعدتان واقغاً وحقيقة .
أيعقل أن تكون هناك كل تلك الحقوق ، وفي الوقت نفسه أرى هذا المشهد البشع أمامي
حقيقة مرّة مؤلمة مضحكة . غريب أن يكون الألم مضحكاً . والمرار رمزاً من رموز السخرية .
حق الحياة والطفل يقتل كل يوم في الحروب السياسية التي لم يفهم منها يوما سوى الموت
حق الملبس والطفل شبه عار ، حق المشرب والطفل شفتاه تنزفان دماً من كثرة الجفاف ، حق المأكل والطفل تتصارع أحشاؤه جوعاً حتى أكاد أسمع صوت معدته وهي تتلوى بانتظار من يقدّم لها لقمة طعام .
أيّ حق هذاوهو محروم من أبسط مقومات الحياة . هذه هي السخرية التي أتحدث عنها . أليست كل تلك الأشياء أسبابا للبكاء والضحك معاً ؟
ما بالك يا مسكين تمشي مسافات طويلة قد نملّ بالسيارة قطعها ، تبيع الحلوى لا أسمع كلمة شكوى واحدة منك ، أتحبّ هذاالعمل ؟ أتجده سبباً للسعادة تحت أشعة شمس من شدتها كأنّها التصقت بجسدك حتى صبغته بهذا اللون القرمزيّ الغامق . أم أنك مضطر للسكوت في زمن لا تجدي به الشكوى سوى المزيد من الجوع والقهر والألم .
وأنت يا صغيرتي ، تبدو ملامحك المخبّأة وراء العناء والجوع جميلة جدا خلقت على طبيعتها الرائعة حتى ما لبثت يشوهها قبح اليتم وذلّ الأسى . قد تكونين أكثر جمالاً من تلك الفتاة التي تتناقلها الأيدي في حيّنا تزهو بفستانها الثمين وشعرها الذي لمّعته أغلى أنواع المنظّفات والملوّنات .
من لكم يا مساكين ؟ أقسم لأكوننّ صرختكم التي كتمتموها سنين ، ودموعكم التي أخفتها حبّات المطر ، لسانكم الذي أخرسه الجوع ، فرحكم الذي قتله الحزن وداسته أقدام الأيام .
أقسم لأعلنها صرخة في وجوه الملايين الذين يكنزون في معاطفهم الصوفيّة الملايين ، صرخة في وجه من ينادي بحقوقكم ولم يحققها لكم .
أقسم لأكون أول صوت ينطلق من بينكم ولم يصدر عنكم . انتظروني ولابد أن أعود ، أعود وبيدي مرهم شفائكم من حرقة الشمس
وبلساني صوت الحق ، وبعينيّ صورة الحياة الجديدة ، وبدمي شريان الحقوق والحقيقة .
انتظروني سأعود لأمسح عن وجوهكم البريئة دموعكم التي لم أرها على وجنتيكم ولكن شعرت بها تسيل في قلوبكم الحزينة . انتظروني سأعود لابد أن أعود فلن تبقى هذه هي الطفولة ولن يظل هذا هو الطفل . حتى وإن تحقّق الحلم في الجيل الجديد .
جلست أنظر إليهم من بعيد ، نسمات الهواء الحار تعبث بخصلات شعرهم المتلبّد ، وبقايا ثياب لا تكاد تستر جسدهم الهزيل ، نظراتهم تتراقص وتعلق بأي شيء تراه ، كأنّ أحداقهم مشدودة إلى حبل واحد ، طفولة عارمة يصخب بها المكان . البراءة التي انغمست بها وأنا أراقبهم براءة من نوع جديد ليست كتلك البراءة التي تعودت أن أراها في وجه طفل يلفّه غطاء حريري أو تطعمه خادمة بملعقة من ذهب . براءة يشوبها شيء قبيح ، يلوّنها حزن غريب ، وجوع مرير مطحونة برحى الحرمان ، مكبوتة بآهات القهر ودموع مظلوم لا حيلة له سوى البكاء والهروب . وجوه صفراء لا كتلك الوجوه الورديّة ، شفاه بيضاء متشقّقة لم يليّنها يوم مذاق حلو أو حتى حامض ، عيون غائرة في الجفون من شدّة الهزال ، تغطيها سحابة سوداء طالما حجبت السّعادة والهناء . ما بال تلك الصّبية يلعبون ! أتستطيع أجساد كعيدان القصب الحركة ؟ أيهنأ لتلك العيون المتعبة إطالة النّظر لما حولها من بؤس . أم أنّهم لا ينظرون لها بعين السّخط كما أنظر إليها أنا ؟ أم أنّهم اعتادوا على تلك المناظر حتى أضحت بالنسبة إليهم أجمل من مشهد الألعاب النّاريّة التي يراقبها الأطفال على أساطيح القصور المرصّعة بالجواهر .
ألا يرى هؤلاء البؤساء الضباب الذي أراه أنا ؟ وكيف يرونه ! ولم يروا غيره ؟ كيف يشعرون بالظلام ، ولم يلامس النور بياض عيونهم الصغيرة .
آهٍ يا سماء كم تضمّين بين ذراعيك من تناقضات . أيعقل أن يجمع غطاؤك الأزرق الجميل كلّ هذه الأشواك بين ثناياه إلى جانب تلك الزهور الجميلة والحدائق الغنّاء ؟ كيف يستر ثوبك الفضفاض كلّ تلك العيوب ، كيف يرضى أن يلد أطفالاً يعلم ما ينتظرهم من خوف وهلع .
هل تجمع الخريطة كلّ هذه المدن ؟ وكيف تستوي بنفس الحدود ، ولا يدري حدّها الأيمن عن حدّها الأيسر ؟
هل يعقل أن تنتظم خرزات عقد في نفس الخيط ولا يرتطم أحدها بالآخر .
آهٍ يا غربة الزمان على من ألقي اللوم ؟ على الخريطة أم على السماء ، على الغني أم على الفقراء ، أين نحن من هذه العتمة وهذا الشّقاء ؟ أكتب الله دوام الليل على هذه الأرض ولنا على النهار دوام البقاء ؟
ما بال الشمس نسيت هذه البقعة وكأنّ الله أمرها ألّا تشرق فوق هؤلاء الغرباء .
من لكم يا أحباب الله ، من حرمكم من أبسط حق لكم . من منعكم عن النور ورماكم بالعراء ؟
يالسخرية الأقدار ، نلهو كلّ يوم بكلّ ما وجد للّذّة والمتعة ، نسهر ونمرح ، نلعب ونفرح ، نأكل ونشرب ، ناسين أو متناسين أنّ كلّ لقمة تدخل جوفنا ملطّخة بالعار ، مسروقة من فم صبية صغار ، لم نلتفت إليهم يوماً وكأنّنا لا نعلم أنّهم أناس بنفس المدينة ، أو حتى بنفس الحيّ ، بل جيران لنا بنفس الشارع ، وقد يكونون من أعراقنا .
آهٍ منك يا قدميّ اللعينتين ، لماذا سقتماني لهذا الشارع المظلم ؟ لماذا جعلتماني أمضي كلّ تلك الساعات حتى أصل لهذا المكان الذي أمضيت حياتي بعيدا عنه ؟
ياإلهي الساعة ما تزال الواحدة بعد الظهر ، ولم يمض على خروجي من منزلي نصف ساعة .
ولكن لماذا أشعر بكلّ هذا الزمان . لا بد أنّ الاختلاف العظيم بين هؤلاء وتلك الطبقة التي خرجت من عندها جعلني أشعر بكل هذا الزمان الوهميّ ، وكيف لا وكأنّ الزمن يدور عندنا وتوقف عندهم بعد أن طحنت عجلته كل أسباب الهناء والسرور .
لا يا قدميّ لستما لعينتين . بل اللعنة على ذلك السكوت ، اللعنة على الحيّ الميت ، اللعنة على كل متغافل عن حقّ هؤلاء ، ولا بد أنّ غيرهم كثير . على بعد نصف ساعة من منزلي يخيّم كلّ هذا الضباب ، كيف بمن لا أستطيع الوصول إليهم ؟ لابد أن الضباب والسواد أضحيا طعامهم وشرابهم صحوهم ونومهم فرحهم وترحهم .
كيف نعيش نهتف بحقوق الطفل وننادي بسعادته ونعقد المؤتمرات لتفنيد البنود ، ونصرّح بأنّهم أكبادنا التي تمشي على الأرض ، وبأنّهم زينة الحياة الدنيا وهم في ذات الوقت منغمسون في بحر الظلم والحرمان .
محرومون من حقهم في الحياة ، حقهم في التعليم ، حقهم في المسكن والملبس ، في المشرب والمأكل .
أين تلك الحقوق ؟ أهي شعارات نزيّن بها الكتب ؟ أم رسوم نلوّن بها لوحات المعارض ؟ أم أقنعة نغطّي بها وجه الحقيقة ؟
طالما سمعنا ونسمع هذه العبارة المزيّفة الجميلة ( حقوق الطفل ) كلمتان متلاصقتان لفظاً ، متباعدتان واقغاً وحقيقة .
أيعقل أن تكون هناك كل تلك الحقوق ، وفي الوقت نفسه أرى هذا المشهد البشع أمامي
حقيقة مرّة مؤلمة مضحكة . غريب أن يكون الألم مضحكاً . والمرار رمزاً من رموز السخرية .
حق الحياة والطفل يقتل كل يوم في الحروب السياسية التي لم يفهم منها يوما سوى الموت
حق الملبس والطفل شبه عار ، حق المشرب والطفل شفتاه تنزفان دماً من كثرة الجفاف ، حق المأكل والطفل تتصارع أحشاؤه جوعاً حتى أكاد أسمع صوت معدته وهي تتلوى بانتظار من يقدّم لها لقمة طعام .
أيّ حق هذاوهو محروم من أبسط مقومات الحياة . هذه هي السخرية التي أتحدث عنها . أليست كل تلك الأشياء أسبابا للبكاء والضحك معاً ؟
ما بالك يا مسكين تمشي مسافات طويلة قد نملّ بالسيارة قطعها ، تبيع الحلوى لا أسمع كلمة شكوى واحدة منك ، أتحبّ هذاالعمل ؟ أتجده سبباً للسعادة تحت أشعة شمس من شدتها كأنّها التصقت بجسدك حتى صبغته بهذا اللون القرمزيّ الغامق . أم أنك مضطر للسكوت في زمن لا تجدي به الشكوى سوى المزيد من الجوع والقهر والألم .
وأنت يا صغيرتي ، تبدو ملامحك المخبّأة وراء العناء والجوع جميلة جدا خلقت على طبيعتها الرائعة حتى ما لبثت يشوهها قبح اليتم وذلّ الأسى . قد تكونين أكثر جمالاً من تلك الفتاة التي تتناقلها الأيدي في حيّنا تزهو بفستانها الثمين وشعرها الذي لمّعته أغلى أنواع المنظّفات والملوّنات .
من لكم يا مساكين ؟ أقسم لأكوننّ صرختكم التي كتمتموها سنين ، ودموعكم التي أخفتها حبّات المطر ، لسانكم الذي أخرسه الجوع ، فرحكم الذي قتله الحزن وداسته أقدام الأيام .
أقسم لأعلنها صرخة في وجوه الملايين الذين يكنزون في معاطفهم الصوفيّة الملايين ، صرخة في وجه من ينادي بحقوقكم ولم يحققها لكم .
أقسم لأكون أول صوت ينطلق من بينكم ولم يصدر عنكم . انتظروني ولابد أن أعود ، أعود وبيدي مرهم شفائكم من حرقة الشمس
وبلساني صوت الحق ، وبعينيّ صورة الحياة الجديدة ، وبدمي شريان الحقوق والحقيقة .
انتظروني سأعود لأمسح عن وجوهكم البريئة دموعكم التي لم أرها على وجنتيكم ولكن شعرت بها تسيل في قلوبكم الحزينة . انتظروني سأعود لابد أن أعود فلن تبقى هذه هي الطفولة ولن يظل هذا هو الطفل . حتى وإن تحقّق الحلم في الجيل الجديد .
جلست أنظر إليهم من بعيد ، نسمات الهواء الحار تعبث بخصلات شعرهم المتلبّد ، وبقايا ثياب لا تكاد تستر جسدهم الهزيل ، نظراتهم تتراقص وتعلق بأي شيء تراه ، كأنّ أحداقهم مشدودة إلى حبل واحد ، طفولة عارمة يصخب بها المكان . البراءة التي انغمست بها وأنا أراقبهم براءة من نوع جديد ليست كتلك البراءة التي تعودت أن أراها في وجه طفل يلفّه غطاء حريري أو تطعمه خادمة بملعقة من ذهب . براءة يشوبها شيء قبيح ، يلوّنها حزن غريب ، وجوع مرير مطحونة برحى الحرمان ، مكبوتة بآهات القهر ودموع مظلوم لا حيلة له سوى البكاء والهروب . وجوه صفراء لا كتلك الوجوه الورديّة ، شفاه بيضاء متشقّقة لم يليّنها يوم مذاق حلو أو حتى حامض ، عيون غائرة في الجفون من شدّة الهزال ، تغطيها سحابة سوداء طالما حجبت السّعادة والهناء . ما بال تلك الصّبية يلعبون ! أتستطيع أجساد كعيدان القصب الحركة ؟ أيهنأ لتلك العيون المتعبة إطالة النّظر لما حولها من بؤس . أم أنّهم لا ينظرون لها بعين السّخط كما أنظر إليها أنا ؟ أم أنّهم اعتادوا على تلك المناظر حتى أضحت بالنسبة إليهم أجمل من مشهد الألعاب النّاريّة التي يراقبها الأطفال على أساطيح القصور المرصّعة بالجواهر .
ألا يرى هؤلاء البؤساء الضباب الذي أراه أنا ؟ وكيف يرونه ! ولم يروا غيره ؟ كيف يشعرون بالظلام ، ولم يلامس النور بياض عيونهم الصغيرة .
آهٍ يا سماء كم تضمّين بين ذراعيك من تناقضات . أيعقل أن يجمع غطاؤك الأزرق الجميل كلّ هذه الأشواك بين ثناياه إلى جانب تلك الزهور الجميلة والحدائق الغنّاء ؟ كيف يستر ثوبك الفضفاض كلّ تلك العيوب ، كيف يرضى أن يلد أطفالاً يعلم ما ينتظرهم من خوف وهلع .
هل تجمع الخريطة كلّ هذه المدن ؟ وكيف تستوي بنفس الحدود ، ولا يدري حدّها الأيمن عن حدّها الأيسر ؟
هل يعقل أن تنتظم خرزات عقد في نفس الخيط ولا يرتطم أحدها بالآخر .
آهٍ يا غربة الزمان على من ألقي اللوم ؟ على الخريطة أم على السماء ، على الغني أم على الفقراء ، أين نحن من هذه العتمة وهذا الشّقاء ؟ أكتب الله دوام الليل على هذه الأرض ولنا على النهار دوام البقاء ؟
ما بال الشمس نسيت هذه البقعة وكأنّ الله أمرها ألّا تشرق فوق هؤلاء الغرباء .
من لكم يا أحباب الله ، من حرمكم من أبسط حق لكم . من منعكم عن النور ورماكم بالعراء ؟
يالسخرية الأقدار ، نلهو كلّ يوم بكلّ ما وجد للّذّة والمتعة ، نسهر ونمرح ، نلعب ونفرح ، نأكل ونشرب ، ناسين أو متناسين أنّ كلّ لقمة تدخل جوفنا ملطّخة بالعار ، مسروقة من فم صبية صغار ، لم نلتفت إليهم يوماً وكأنّنا لا نعلم أنّهم أناس بنفس المدينة ، أو حتى بنفس الحيّ ، بل جيران لنا بنفس الشارع ، وقد يكونون من أعراقنا .
آهٍ منك يا قدميّ اللعينتين ، لماذا سقتماني لهذا الشارع المظلم ؟ لماذا جعلتماني أمضي كلّ تلك الساعات حتى أصل لهذا المكان الذي أمضيت حياتي بعيدا عنه ؟
ياإلهي الساعة ما تزال الواحدة بعد الظهر ، ولم يمض على خروجي من منزلي نصف ساعة .
ولكن لماذا أشعر بكلّ هذا الزمان . لا بد أنّ الاختلاف العظيم بين هؤلاء وتلك الطبقة التي خرجت من عندها جعلني أشعر بكل هذا الزمان الوهميّ ، وكيف لا وكأنّ الزمن يدور عندنا وتوقف عندهم بعد أن طحنت عجلته كل أسباب الهناء والسرور .
لا يا قدميّ لستما لعينتين . بل اللعنة على ذلك السكوت ، اللعنة على الحيّ الميت ، اللعنة على كل متغافل عن حقّ هؤلاء ، ولا بد أنّ غيرهم كثير . على بعد نصف ساعة من منزلي يخيّم كلّ هذا الضباب ، كيف بمن لا أستطيع الوصول إليهم ؟ لابد أن الضباب والسواد أضحيا طعامهم وشرابهم صحوهم ونومهم فرحهم وترحهم .
كيف نعيش نهتف بحقوق الطفل وننادي بسعادته ونعقد المؤتمرات لتفنيد البنود ، ونصرّح بأنّهم أكبادنا التي تمشي على الأرض ، وبأنّهم زينة الحياة الدنيا وهم في ذات الوقت منغمسون في بحر الظلم والحرمان .
محرومون من حقهم في الحياة ، حقهم في التعليم ، حقهم في المسكن والملبس ، في المشرب والمأكل .
أين تلك الحقوق ؟ أهي شعارات نزيّن بها الكتب ؟ أم رسوم نلوّن بها لوحات المعارض ؟ أم أقنعة نغطّي بها وجه الحقيقة ؟
طالما سمعنا ونسمع هذه العبارة المزيّفة الجميلة ( حقوق الطفل ) كلمتان متلاصقتان لفظاً ، متباعدتان واقغاً وحقيقة .
أيعقل أن تكون هناك كل تلك الحقوق ، وفي الوقت نفسه أرى هذا المشهد البشع أمامي
حقيقة مرّة مؤلمة مضحكة . غريب أن يكون الألم مضحكاً . والمرار رمزاً من رموز السخرية .
حق الحياة والطفل يقتل كل يوم في الحروب السياسية التي لم يفهم منها يوما سوى الموت
حق الملبس والطفل شبه عار ، حق المشرب والطفل شفتاه تنزفان دماً من كثرة الجفاف ، حق المأكل والطفل تتصارع أحشاؤه جوعاً حتى أكاد أسمع صوت معدته وهي تتلوى بانتظار من يقدّم لها لقمة طعام .
أيّ حق هذاوهو محروم من أبسط مقومات الحياة . هذه هي السخرية التي أتحدث عنها . أليست كل تلك الأشياء أسبابا للبكاء والضحك معاً ؟
ما بالك يا مسكين تمشي مسافات طويلة قد نملّ بالسيارة قطعها ، تبيع الحلوى لا أسمع كلمة شكوى واحدة منك ، أتحبّ هذاالعمل ؟ أتجده سبباً للسعادة تحت أشعة شمس من شدتها كأنّها التصقت بجسدك حتى صبغته بهذا اللون القرمزيّ الغامق . أم أنك مضطر للسكوت في زمن لا تجدي به الشكوى سوى المزيد من الجوع والقهر والألم .
وأنت يا صغيرتي ، تبدو ملامحك المخبّأة وراء العناء والجوع جميلة جدا خلقت على طبيعتها الرائعة حتى ما لبثت يشوهها قبح اليتم وذلّ الأسى . قد تكونين أكثر جمالاً من تلك الفتاة التي تتناقلها الأيدي في حيّنا تزهو بفستانها الثمين وشعرها الذي لمّعته أغلى أنواع المنظّفات والملوّنات .
من لكم يا مساكين ؟ أقسم لأكوننّ صرختكم التي كتمتموها سنين ، ودموعكم التي أخفتها حبّات المطر ، لسانكم الذي أخرسه الجوع ، فرحكم الذي قتله الحزن وداسته أقدام الأيام .
أقسم لأعلنها صرخة في وجوه الملايين الذين يكنزون في معاطفهم الصوفيّة الملايين ، صرخة في وجه من ينادي بحقوقكم ولم يحققها لكم .
أقسم لأكون أول صوت ينطلق من بينكم ولم يصدر عنكم . انتظروني ولابد أن أعود ، أعود وبيدي مرهم شفائكم من حرقة الشمس
وبلساني صوت الحق ، وبعينيّ صورة الحياة الجديدة ، وبدمي شريان الحقوق والحقيقة .
انتظروني سأعود لأمسح عن وجوهكم البريئة دموعكم التي لم أرها على وجنتيكم ولكن شعرت بها تسيل في قلوبكم الحزينة . انتظروني سأعود لابد أن أعود فلن تبقى هذه هي الطفولة ولن يظل هذا هو الطفل . حتى وإن تحقّق الحلم في الجيل الجديد .
التعليقات
تصوير جميل، عاطفة صادقة راقية، تعابير جذابة
أبدعتِ.
أرجو أن أرى اسمك دائما على صفحة المقالات
أهنيك على الأسلوب المتميز و الفكرة المطروحة
تهانينا رباب
اخيرا موضوع يلامس شغاف القلب
لا روتين الساحة السياسية الممل
إلى من تذهب الصدقات ؟ ؟ ؟ ؟
ألا يستحق هؤلاء البؤساء الصدقة ؟ ؟ ؟ ؟ ؟
لا مثل الكثير من المقالات التي نقراها
تجد العنوان بواد
و النص بواد آخر بعيد عنه
اختيار مناسب و تصوير فني مؤثر
عافاك رباب الخطيب
أبكتني
يصح لسانك
بدنا كتاب هيك فصحى سليمة و لغة فن و ادب عنصح
عافاك
اتركي رقم تلفونك نتعرف لو سمحت
و منكم نستقيد خيّا