في عام 1954، هدد الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور باستخدام الأسلحة النووية ضد الصين، بعدما قصفت جزيرة صخرية قرب ساحل تايوان. في ذلك الوقت كانت أميركا ملتزمة بمعاهدة للدفاع عن تايوان. وفي عام 1972 تغيّر كل شيء، فقد وافق الرئيس ريتشارد نيكسون على سياسة 'صين واحدة'، أي أن تايوان جزء من الصين، ثم ألغى الرئيس جيمي كارتر معاهدة الدفاع الأميركية - التايوانية، وانتهجت واشنطن خيار 'الغموض الاستراتيجي' -بتعبير هنري كيسنجر- إزاء مشاركتها في حرب ضد الصين دفاعاً عن تايوان ... اليوم يبلغ التوتر مداه، تغلي المياه حول الجزيرة على وقع الأزمة بين العم سام والتنين، بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان، وكأن العالم تنقصه أزمة جديدة، فهل أميركا مستعدة بالفعل للمجازفة بالدخول في حرب مع الصين من أجل تايوان تجعل مصير العالم في خطر وشيك؟.
عض الأصابع
يحكى أنه في قديم الزمان، سئل عنترة بن شداد: بم غلبت العرب في المعارك؟ أجاب: بالصبر، فقال له أحد الشجعان: كيف تكون صابراً وأنا أصبر منك؟، قال: ناولني إصبعك، وخذ إصبعي، فأدخل كل واحد أصبعه في فم صاحبه، ثم قال له: عض، فعض ذاك وعض هذا، فصرخ الرجل، عندها قال عنترة لو صبرت قليلاً لصرخت أنا ... تشابه المواجهة الأميركية - الصينية حول تايوان والسباق حول الزعامة العالمية، هو نوع من الدراما المثيرة؛ مثلما روي عن عنترة، لعبة 'عض أصابع' تشكل اختباراً لمن يجبن أو يصرخ أو ينهار أو لا، لعبة قد تتصاعد بما لا يمكن التنبؤ به، وإذا رفض الطرفان التراجع، فالكل خاسر.
تواصل الصين تطويق تايوان بالمناورات بالذخيرة الحية، وأي هجوم عسكري من جانبها على 'الجزيرة' ربما يفضي لنشوب حرب مع الولايات المتحدة. كما أن سيطرة الصين على بحر الصين الجنوبي والشرقي تشكل تهديداً لليابان وكوريا الجنوبية، قد يؤدي إلى سباق تسلح نووي في شرق آسيا.
يبدو العالم عالقاً بين فكي حرب باردة أميركية - صينية، نتيجة الصراع بين العملاقين على مقعد الصدارة. حرب تكاد تصبح ساخنة على شاكلة ما يجري بين الغرب وروسيا في أوكرانيا. يرى الرئيس الأميركي جو بايدن خصومة بلاده مع الصين صراعاً عالمياً بين الديموقراطية والاستبداد، معتبراً تايوان إحدى أنجح الديموقراطيات في آسيا. يدرك بايدن أن الالتزامات العسكرية للولايات المتحدة في بحر الصين الشرقي شديدة الغرابة والتناقض، بشكل لا يُصدق، فمعاهدة الدفاع مع اليابان تلزم واشنطن الدفاع عن تكوينات صخرية غير مأهولة تسمى جزر سينكاكو (جزر دياويو باللغة الصينية)، ولكن ليس تايوان الديموقراطية بسكانها 24 مليون نسمة، التي جرى إلغاء المعاهدة الدفاعية معها.
حصان طروادة
الاستراتيجية الأساسية لدى الإمبراطورية الأميركية ليس أن تخوض معارك أو حروباً، وتخرج منها ظافرة، بل ألا تضطر لخوض المعركة من الأساس، أو أن تكون الحرب محسومة سلفاً، لأنها قرّرت مسبقاً شكل المعركة. أميركا أكبر قوة عسكرية في التاريخ، وترتكز بشكل أساسي على قوتها الجوية والبحرية الضاربة، أساطيلها موجودة فعلياً وعلى أهبة الاستعداد في كل بحار العالم ومحيطاته. مفهوم الهيمنة الإمبراطورية لا يعني فقط حيازة القوة الأكبر، بل أن تتحكّم بمستوى قوة الآخرين حول العالم، أن تحجمهم، تمنعهم من حيازة أسباب الندية، لا سيما الاقتصاد والتقنيات والصناعات العسكرية المستقلّة لديهم.
وفي هذا السياق يندرج حرص أميركا على عرقلة اتحاد تايوان مع الصين. تايوان قاعدة ثقيلة لا تغرق عسكرياً وتقنياً واقتصادياً وجيواستراتيجياً. لذلك تمثل 'حصان طروادة' في الاستراتيجية الأميركية؛ لإزعاج الصين وإغراقها في مشكلات خطيرة تكبح تقدمها؛ دوماً يقدم الأميركيون قائمة من المطالب -أو العقوبات- التي تعتبرها قنوات اختراق لشؤونها الداخلية، وكأن واشنطن تقول لبكين: نراقب سياساتكم الخارجية وتوجهاتكم الاستراتيجية ونُخضعها لـ'قواعدنا' ومصالحنا الذاتية، لنا رأي في سياساتكم الاقتصادية، ونراقب تطلعاتكم، بحكم أننا القوة الأعظم في النظام العالمي.
أمام الخلل القائم في موازين القوى، فتنتهج الصين سياسة 'الصبر الاستراتيجي' وتتحرك بمهارة تكتيكية، تشكك في أحقية أميركا وحلفائها الغربيين بمطالبتها أو إملاء شروط عليها؛ الغرب لا يمثّل البشرية أو يتكلم باسمها. تحاول الصين منع العم سام من الضغط عليها عسكرياً في محيطها المباشر، على الأقل، هذا لا يعني أن الجيش الصيني سينتصر أكيداً في حرب تقليدية ببحر الصين، لكن المارد الأصفر يقوم بكل ما يلزم لجعل النزال مكلفاً، وتعديل موازين القوى مع الولايات المتحدة، لا سيما في نطاق العمق الاستراتيجي الصيني في آسيا. نجحت بكين في ذلك جزئياً، لكن الإزعاج الأميركي لا يتوقف.
حتى بداية الألفية الثالثة، كان الوضع العسكري مختلفاً، أي حرب حول تايوان أو في بحر الصين كانت ستنتهي بهزيمة بحرية الصين وسلاحها الجوي، كانت واشنطن تواصل استفزاز بكين، تتحرش بالسفن والطائرات الصينية وتتحداها أن تقوم بأي رد. هذا تغيّر اليوم، ضخت الحكومات الصينية المتعاقبة استثمارات هائلة في تطوير الأنظمة الدفاعية وبناء السفن والغواصات، وحصلت على قدرات تكنولوجية بارزة في المجال العسكري، لدرجة أنها سبقت المنافسين في بعض الأسلحة النوعية، كالصواريخ الفرط - صوتية وأنظمة الليزر. ليس هذا فقط، بل وطدت قواها الشاملة، بخاصة الاقتصادية، وهي تحتل المرتبة الثانية عالمياً وتمتلك المنظومة الأكثر تنافسية في التصنيع على مستوى العالم. الصين لن تتخلى عن تايوان؛ ومهما تكن فداحة الثمن ستهرول في مضمار التحدي إلى خط النهاية.
النزوع الإمبراطوري
يحلو لمفكري الغرب الاستشهاد بواقعة شهيرة في التراث الصيني، للتدليل على خطورة النزوع الإمبراطوري الصيني وأطماعه الكامنة. ففي القرن الثاني قبل الميلاد، استشاط أمبراطور الصين غضباً، عندما علم أن ملك فيتنام المجاورة أطلق على نفسه لقب 'إمبراطور'، ووجه إلى الملك رسالة تهديد نارية، قال فيها: 'حين يظهر إمبراطوران في وقت واحد، يجب أن يتم تدمير أحدهما'. يشير هؤلاء المفكرون إلى ما يعتبرونه جوهراً لا يتغيّر للنظرة الصينية، حيث الصين هي المملكة الوسطى في قلب العالم (المركز)، والأجانب إما أتباعٌ أو برابرة (أدنى منها درجة) -كأن الغرب لا يحوز النظرة نفسها- للتحذير من التمدد الصيني في الجوار الآسيوي، والرغبة في ضم تايوان حرباً أو سلماً، والتوسع في العالم عبر مشروع القرن (الحزام والطريق) الذي أعلنه الرئيس شي جينبينغ عام 2013.
صحيح أن الماضي لا يقرر مصائرنا، لكن تجاهله لا يخلو من مخاطر، تأثيراته قد تكون ناجمة عن أساطير... الأساطير أحياناً أقوى من الحقائق، وما أكثر الأمثلة من حولنا، يد التاريخ طويلة، وفي صميم القومية الصينية المعاصرة تستقر فكرة الإذلال الوطني نتيجة الاحتلال البريطاني والياباني، انكسارات يعوض عنها شعور متجدد بالعظمة، والرغبة في عدم تكرار الإذلال ثانية، عبر امتلاك كل أسباب القوة وصولاً إلى صدارة المشهد الدولي.
في المقابل يحرص الأميركيون على انتهاج سبيل مخالف، لما فعله البريطاني نيفيل تشامبرلين الذي وَقَّـع اتفاقية ميونيخ في عام 1938، سمحت بإطلاق يد الزعيم النازي هتلر في تفكيك وابتلاع الدول الأوروبية، ما جعل اسم تشامبرلين يرتبط للأبد بالاسترضاء الجبان والإذعان أمام 'الشرير'، لذلك تظهر واشنطن 'العين الحمراء' للصين بين حين وآخر، بخصوص تايوان وغيرها من القضايا، وقد تكون تايوان محاولة لإغراق التنين في الوحل، مثلما حدث للاتحاد السوفياتي بأفغانستان.
علاقات الولايات المتحدة والصين ربما تكون في أسوأ حالاتها، كلاهما تدركان أن نشوب صراع ساخن بينهما اليوم، معناه تدمير البشرية؛ لذلك تتجنبان الدخول في حرب بسبب تايوان، لكنهما تمارسان اللعبة نفسها، 'من يَجبُن أو يصرخ أولا'. تستكشف الصين دفاعات تايوان، تخترق مجالها الجوي، تحاصرها بدوريات بحرية، وتنخرط في تدريبات عسكرية على غزوها. على الجانب الآخر، تتدفق الأسلحة الأميركية والمستشارين إلى تايوان، إنذارات صريحة ومبطنة لبكين من محاولة استخدام القوة لضم الجزيرة، وربما تكون الحرب الدائرة بين روسيا والغرب حاسمة في تحديد مسار الصراع الغربي - الصيني ومصير تايوان، ومن يصرخ أولاً؟.
في عام 1954، هدد الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور باستخدام الأسلحة النووية ضد الصين، بعدما قصفت جزيرة صخرية قرب ساحل تايوان. في ذلك الوقت كانت أميركا ملتزمة بمعاهدة للدفاع عن تايوان. وفي عام 1972 تغيّر كل شيء، فقد وافق الرئيس ريتشارد نيكسون على سياسة 'صين واحدة'، أي أن تايوان جزء من الصين، ثم ألغى الرئيس جيمي كارتر معاهدة الدفاع الأميركية - التايوانية، وانتهجت واشنطن خيار 'الغموض الاستراتيجي' -بتعبير هنري كيسنجر- إزاء مشاركتها في حرب ضد الصين دفاعاً عن تايوان ... اليوم يبلغ التوتر مداه، تغلي المياه حول الجزيرة على وقع الأزمة بين العم سام والتنين، بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان، وكأن العالم تنقصه أزمة جديدة، فهل أميركا مستعدة بالفعل للمجازفة بالدخول في حرب مع الصين من أجل تايوان تجعل مصير العالم في خطر وشيك؟.
عض الأصابع
يحكى أنه في قديم الزمان، سئل عنترة بن شداد: بم غلبت العرب في المعارك؟ أجاب: بالصبر، فقال له أحد الشجعان: كيف تكون صابراً وأنا أصبر منك؟، قال: ناولني إصبعك، وخذ إصبعي، فأدخل كل واحد أصبعه في فم صاحبه، ثم قال له: عض، فعض ذاك وعض هذا، فصرخ الرجل، عندها قال عنترة لو صبرت قليلاً لصرخت أنا ... تشابه المواجهة الأميركية - الصينية حول تايوان والسباق حول الزعامة العالمية، هو نوع من الدراما المثيرة؛ مثلما روي عن عنترة، لعبة 'عض أصابع' تشكل اختباراً لمن يجبن أو يصرخ أو ينهار أو لا، لعبة قد تتصاعد بما لا يمكن التنبؤ به، وإذا رفض الطرفان التراجع، فالكل خاسر.
تواصل الصين تطويق تايوان بالمناورات بالذخيرة الحية، وأي هجوم عسكري من جانبها على 'الجزيرة' ربما يفضي لنشوب حرب مع الولايات المتحدة. كما أن سيطرة الصين على بحر الصين الجنوبي والشرقي تشكل تهديداً لليابان وكوريا الجنوبية، قد يؤدي إلى سباق تسلح نووي في شرق آسيا.
يبدو العالم عالقاً بين فكي حرب باردة أميركية - صينية، نتيجة الصراع بين العملاقين على مقعد الصدارة. حرب تكاد تصبح ساخنة على شاكلة ما يجري بين الغرب وروسيا في أوكرانيا. يرى الرئيس الأميركي جو بايدن خصومة بلاده مع الصين صراعاً عالمياً بين الديموقراطية والاستبداد، معتبراً تايوان إحدى أنجح الديموقراطيات في آسيا. يدرك بايدن أن الالتزامات العسكرية للولايات المتحدة في بحر الصين الشرقي شديدة الغرابة والتناقض، بشكل لا يُصدق، فمعاهدة الدفاع مع اليابان تلزم واشنطن الدفاع عن تكوينات صخرية غير مأهولة تسمى جزر سينكاكو (جزر دياويو باللغة الصينية)، ولكن ليس تايوان الديموقراطية بسكانها 24 مليون نسمة، التي جرى إلغاء المعاهدة الدفاعية معها.
حصان طروادة
الاستراتيجية الأساسية لدى الإمبراطورية الأميركية ليس أن تخوض معارك أو حروباً، وتخرج منها ظافرة، بل ألا تضطر لخوض المعركة من الأساس، أو أن تكون الحرب محسومة سلفاً، لأنها قرّرت مسبقاً شكل المعركة. أميركا أكبر قوة عسكرية في التاريخ، وترتكز بشكل أساسي على قوتها الجوية والبحرية الضاربة، أساطيلها موجودة فعلياً وعلى أهبة الاستعداد في كل بحار العالم ومحيطاته. مفهوم الهيمنة الإمبراطورية لا يعني فقط حيازة القوة الأكبر، بل أن تتحكّم بمستوى قوة الآخرين حول العالم، أن تحجمهم، تمنعهم من حيازة أسباب الندية، لا سيما الاقتصاد والتقنيات والصناعات العسكرية المستقلّة لديهم.
وفي هذا السياق يندرج حرص أميركا على عرقلة اتحاد تايوان مع الصين. تايوان قاعدة ثقيلة لا تغرق عسكرياً وتقنياً واقتصادياً وجيواستراتيجياً. لذلك تمثل 'حصان طروادة' في الاستراتيجية الأميركية؛ لإزعاج الصين وإغراقها في مشكلات خطيرة تكبح تقدمها؛ دوماً يقدم الأميركيون قائمة من المطالب -أو العقوبات- التي تعتبرها قنوات اختراق لشؤونها الداخلية، وكأن واشنطن تقول لبكين: نراقب سياساتكم الخارجية وتوجهاتكم الاستراتيجية ونُخضعها لـ'قواعدنا' ومصالحنا الذاتية، لنا رأي في سياساتكم الاقتصادية، ونراقب تطلعاتكم، بحكم أننا القوة الأعظم في النظام العالمي.
أمام الخلل القائم في موازين القوى، فتنتهج الصين سياسة 'الصبر الاستراتيجي' وتتحرك بمهارة تكتيكية، تشكك في أحقية أميركا وحلفائها الغربيين بمطالبتها أو إملاء شروط عليها؛ الغرب لا يمثّل البشرية أو يتكلم باسمها. تحاول الصين منع العم سام من الضغط عليها عسكرياً في محيطها المباشر، على الأقل، هذا لا يعني أن الجيش الصيني سينتصر أكيداً في حرب تقليدية ببحر الصين، لكن المارد الأصفر يقوم بكل ما يلزم لجعل النزال مكلفاً، وتعديل موازين القوى مع الولايات المتحدة، لا سيما في نطاق العمق الاستراتيجي الصيني في آسيا. نجحت بكين في ذلك جزئياً، لكن الإزعاج الأميركي لا يتوقف.
حتى بداية الألفية الثالثة، كان الوضع العسكري مختلفاً، أي حرب حول تايوان أو في بحر الصين كانت ستنتهي بهزيمة بحرية الصين وسلاحها الجوي، كانت واشنطن تواصل استفزاز بكين، تتحرش بالسفن والطائرات الصينية وتتحداها أن تقوم بأي رد. هذا تغيّر اليوم، ضخت الحكومات الصينية المتعاقبة استثمارات هائلة في تطوير الأنظمة الدفاعية وبناء السفن والغواصات، وحصلت على قدرات تكنولوجية بارزة في المجال العسكري، لدرجة أنها سبقت المنافسين في بعض الأسلحة النوعية، كالصواريخ الفرط - صوتية وأنظمة الليزر. ليس هذا فقط، بل وطدت قواها الشاملة، بخاصة الاقتصادية، وهي تحتل المرتبة الثانية عالمياً وتمتلك المنظومة الأكثر تنافسية في التصنيع على مستوى العالم. الصين لن تتخلى عن تايوان؛ ومهما تكن فداحة الثمن ستهرول في مضمار التحدي إلى خط النهاية.
النزوع الإمبراطوري
يحلو لمفكري الغرب الاستشهاد بواقعة شهيرة في التراث الصيني، للتدليل على خطورة النزوع الإمبراطوري الصيني وأطماعه الكامنة. ففي القرن الثاني قبل الميلاد، استشاط أمبراطور الصين غضباً، عندما علم أن ملك فيتنام المجاورة أطلق على نفسه لقب 'إمبراطور'، ووجه إلى الملك رسالة تهديد نارية، قال فيها: 'حين يظهر إمبراطوران في وقت واحد، يجب أن يتم تدمير أحدهما'. يشير هؤلاء المفكرون إلى ما يعتبرونه جوهراً لا يتغيّر للنظرة الصينية، حيث الصين هي المملكة الوسطى في قلب العالم (المركز)، والأجانب إما أتباعٌ أو برابرة (أدنى منها درجة) -كأن الغرب لا يحوز النظرة نفسها- للتحذير من التمدد الصيني في الجوار الآسيوي، والرغبة في ضم تايوان حرباً أو سلماً، والتوسع في العالم عبر مشروع القرن (الحزام والطريق) الذي أعلنه الرئيس شي جينبينغ عام 2013.
صحيح أن الماضي لا يقرر مصائرنا، لكن تجاهله لا يخلو من مخاطر، تأثيراته قد تكون ناجمة عن أساطير... الأساطير أحياناً أقوى من الحقائق، وما أكثر الأمثلة من حولنا، يد التاريخ طويلة، وفي صميم القومية الصينية المعاصرة تستقر فكرة الإذلال الوطني نتيجة الاحتلال البريطاني والياباني، انكسارات يعوض عنها شعور متجدد بالعظمة، والرغبة في عدم تكرار الإذلال ثانية، عبر امتلاك كل أسباب القوة وصولاً إلى صدارة المشهد الدولي.
في المقابل يحرص الأميركيون على انتهاج سبيل مخالف، لما فعله البريطاني نيفيل تشامبرلين الذي وَقَّـع اتفاقية ميونيخ في عام 1938، سمحت بإطلاق يد الزعيم النازي هتلر في تفكيك وابتلاع الدول الأوروبية، ما جعل اسم تشامبرلين يرتبط للأبد بالاسترضاء الجبان والإذعان أمام 'الشرير'، لذلك تظهر واشنطن 'العين الحمراء' للصين بين حين وآخر، بخصوص تايوان وغيرها من القضايا، وقد تكون تايوان محاولة لإغراق التنين في الوحل، مثلما حدث للاتحاد السوفياتي بأفغانستان.
علاقات الولايات المتحدة والصين ربما تكون في أسوأ حالاتها، كلاهما تدركان أن نشوب صراع ساخن بينهما اليوم، معناه تدمير البشرية؛ لذلك تتجنبان الدخول في حرب بسبب تايوان، لكنهما تمارسان اللعبة نفسها، 'من يَجبُن أو يصرخ أولا'. تستكشف الصين دفاعات تايوان، تخترق مجالها الجوي، تحاصرها بدوريات بحرية، وتنخرط في تدريبات عسكرية على غزوها. على الجانب الآخر، تتدفق الأسلحة الأميركية والمستشارين إلى تايوان، إنذارات صريحة ومبطنة لبكين من محاولة استخدام القوة لضم الجزيرة، وربما تكون الحرب الدائرة بين روسيا والغرب حاسمة في تحديد مسار الصراع الغربي - الصيني ومصير تايوان، ومن يصرخ أولاً؟.
في عام 1954، هدد الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور باستخدام الأسلحة النووية ضد الصين، بعدما قصفت جزيرة صخرية قرب ساحل تايوان. في ذلك الوقت كانت أميركا ملتزمة بمعاهدة للدفاع عن تايوان. وفي عام 1972 تغيّر كل شيء، فقد وافق الرئيس ريتشارد نيكسون على سياسة 'صين واحدة'، أي أن تايوان جزء من الصين، ثم ألغى الرئيس جيمي كارتر معاهدة الدفاع الأميركية - التايوانية، وانتهجت واشنطن خيار 'الغموض الاستراتيجي' -بتعبير هنري كيسنجر- إزاء مشاركتها في حرب ضد الصين دفاعاً عن تايوان ... اليوم يبلغ التوتر مداه، تغلي المياه حول الجزيرة على وقع الأزمة بين العم سام والتنين، بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان، وكأن العالم تنقصه أزمة جديدة، فهل أميركا مستعدة بالفعل للمجازفة بالدخول في حرب مع الصين من أجل تايوان تجعل مصير العالم في خطر وشيك؟.
عض الأصابع
يحكى أنه في قديم الزمان، سئل عنترة بن شداد: بم غلبت العرب في المعارك؟ أجاب: بالصبر، فقال له أحد الشجعان: كيف تكون صابراً وأنا أصبر منك؟، قال: ناولني إصبعك، وخذ إصبعي، فأدخل كل واحد أصبعه في فم صاحبه، ثم قال له: عض، فعض ذاك وعض هذا، فصرخ الرجل، عندها قال عنترة لو صبرت قليلاً لصرخت أنا ... تشابه المواجهة الأميركية - الصينية حول تايوان والسباق حول الزعامة العالمية، هو نوع من الدراما المثيرة؛ مثلما روي عن عنترة، لعبة 'عض أصابع' تشكل اختباراً لمن يجبن أو يصرخ أو ينهار أو لا، لعبة قد تتصاعد بما لا يمكن التنبؤ به، وإذا رفض الطرفان التراجع، فالكل خاسر.
تواصل الصين تطويق تايوان بالمناورات بالذخيرة الحية، وأي هجوم عسكري من جانبها على 'الجزيرة' ربما يفضي لنشوب حرب مع الولايات المتحدة. كما أن سيطرة الصين على بحر الصين الجنوبي والشرقي تشكل تهديداً لليابان وكوريا الجنوبية، قد يؤدي إلى سباق تسلح نووي في شرق آسيا.
يبدو العالم عالقاً بين فكي حرب باردة أميركية - صينية، نتيجة الصراع بين العملاقين على مقعد الصدارة. حرب تكاد تصبح ساخنة على شاكلة ما يجري بين الغرب وروسيا في أوكرانيا. يرى الرئيس الأميركي جو بايدن خصومة بلاده مع الصين صراعاً عالمياً بين الديموقراطية والاستبداد، معتبراً تايوان إحدى أنجح الديموقراطيات في آسيا. يدرك بايدن أن الالتزامات العسكرية للولايات المتحدة في بحر الصين الشرقي شديدة الغرابة والتناقض، بشكل لا يُصدق، فمعاهدة الدفاع مع اليابان تلزم واشنطن الدفاع عن تكوينات صخرية غير مأهولة تسمى جزر سينكاكو (جزر دياويو باللغة الصينية)، ولكن ليس تايوان الديموقراطية بسكانها 24 مليون نسمة، التي جرى إلغاء المعاهدة الدفاعية معها.
حصان طروادة
الاستراتيجية الأساسية لدى الإمبراطورية الأميركية ليس أن تخوض معارك أو حروباً، وتخرج منها ظافرة، بل ألا تضطر لخوض المعركة من الأساس، أو أن تكون الحرب محسومة سلفاً، لأنها قرّرت مسبقاً شكل المعركة. أميركا أكبر قوة عسكرية في التاريخ، وترتكز بشكل أساسي على قوتها الجوية والبحرية الضاربة، أساطيلها موجودة فعلياً وعلى أهبة الاستعداد في كل بحار العالم ومحيطاته. مفهوم الهيمنة الإمبراطورية لا يعني فقط حيازة القوة الأكبر، بل أن تتحكّم بمستوى قوة الآخرين حول العالم، أن تحجمهم، تمنعهم من حيازة أسباب الندية، لا سيما الاقتصاد والتقنيات والصناعات العسكرية المستقلّة لديهم.
وفي هذا السياق يندرج حرص أميركا على عرقلة اتحاد تايوان مع الصين. تايوان قاعدة ثقيلة لا تغرق عسكرياً وتقنياً واقتصادياً وجيواستراتيجياً. لذلك تمثل 'حصان طروادة' في الاستراتيجية الأميركية؛ لإزعاج الصين وإغراقها في مشكلات خطيرة تكبح تقدمها؛ دوماً يقدم الأميركيون قائمة من المطالب -أو العقوبات- التي تعتبرها قنوات اختراق لشؤونها الداخلية، وكأن واشنطن تقول لبكين: نراقب سياساتكم الخارجية وتوجهاتكم الاستراتيجية ونُخضعها لـ'قواعدنا' ومصالحنا الذاتية، لنا رأي في سياساتكم الاقتصادية، ونراقب تطلعاتكم، بحكم أننا القوة الأعظم في النظام العالمي.
أمام الخلل القائم في موازين القوى، فتنتهج الصين سياسة 'الصبر الاستراتيجي' وتتحرك بمهارة تكتيكية، تشكك في أحقية أميركا وحلفائها الغربيين بمطالبتها أو إملاء شروط عليها؛ الغرب لا يمثّل البشرية أو يتكلم باسمها. تحاول الصين منع العم سام من الضغط عليها عسكرياً في محيطها المباشر، على الأقل، هذا لا يعني أن الجيش الصيني سينتصر أكيداً في حرب تقليدية ببحر الصين، لكن المارد الأصفر يقوم بكل ما يلزم لجعل النزال مكلفاً، وتعديل موازين القوى مع الولايات المتحدة، لا سيما في نطاق العمق الاستراتيجي الصيني في آسيا. نجحت بكين في ذلك جزئياً، لكن الإزعاج الأميركي لا يتوقف.
حتى بداية الألفية الثالثة، كان الوضع العسكري مختلفاً، أي حرب حول تايوان أو في بحر الصين كانت ستنتهي بهزيمة بحرية الصين وسلاحها الجوي، كانت واشنطن تواصل استفزاز بكين، تتحرش بالسفن والطائرات الصينية وتتحداها أن تقوم بأي رد. هذا تغيّر اليوم، ضخت الحكومات الصينية المتعاقبة استثمارات هائلة في تطوير الأنظمة الدفاعية وبناء السفن والغواصات، وحصلت على قدرات تكنولوجية بارزة في المجال العسكري، لدرجة أنها سبقت المنافسين في بعض الأسلحة النوعية، كالصواريخ الفرط - صوتية وأنظمة الليزر. ليس هذا فقط، بل وطدت قواها الشاملة، بخاصة الاقتصادية، وهي تحتل المرتبة الثانية عالمياً وتمتلك المنظومة الأكثر تنافسية في التصنيع على مستوى العالم. الصين لن تتخلى عن تايوان؛ ومهما تكن فداحة الثمن ستهرول في مضمار التحدي إلى خط النهاية.
النزوع الإمبراطوري
يحلو لمفكري الغرب الاستشهاد بواقعة شهيرة في التراث الصيني، للتدليل على خطورة النزوع الإمبراطوري الصيني وأطماعه الكامنة. ففي القرن الثاني قبل الميلاد، استشاط أمبراطور الصين غضباً، عندما علم أن ملك فيتنام المجاورة أطلق على نفسه لقب 'إمبراطور'، ووجه إلى الملك رسالة تهديد نارية، قال فيها: 'حين يظهر إمبراطوران في وقت واحد، يجب أن يتم تدمير أحدهما'. يشير هؤلاء المفكرون إلى ما يعتبرونه جوهراً لا يتغيّر للنظرة الصينية، حيث الصين هي المملكة الوسطى في قلب العالم (المركز)، والأجانب إما أتباعٌ أو برابرة (أدنى منها درجة) -كأن الغرب لا يحوز النظرة نفسها- للتحذير من التمدد الصيني في الجوار الآسيوي، والرغبة في ضم تايوان حرباً أو سلماً، والتوسع في العالم عبر مشروع القرن (الحزام والطريق) الذي أعلنه الرئيس شي جينبينغ عام 2013.
صحيح أن الماضي لا يقرر مصائرنا، لكن تجاهله لا يخلو من مخاطر، تأثيراته قد تكون ناجمة عن أساطير... الأساطير أحياناً أقوى من الحقائق، وما أكثر الأمثلة من حولنا، يد التاريخ طويلة، وفي صميم القومية الصينية المعاصرة تستقر فكرة الإذلال الوطني نتيجة الاحتلال البريطاني والياباني، انكسارات يعوض عنها شعور متجدد بالعظمة، والرغبة في عدم تكرار الإذلال ثانية، عبر امتلاك كل أسباب القوة وصولاً إلى صدارة المشهد الدولي.
في المقابل يحرص الأميركيون على انتهاج سبيل مخالف، لما فعله البريطاني نيفيل تشامبرلين الذي وَقَّـع اتفاقية ميونيخ في عام 1938، سمحت بإطلاق يد الزعيم النازي هتلر في تفكيك وابتلاع الدول الأوروبية، ما جعل اسم تشامبرلين يرتبط للأبد بالاسترضاء الجبان والإذعان أمام 'الشرير'، لذلك تظهر واشنطن 'العين الحمراء' للصين بين حين وآخر، بخصوص تايوان وغيرها من القضايا، وقد تكون تايوان محاولة لإغراق التنين في الوحل، مثلما حدث للاتحاد السوفياتي بأفغانستان.
علاقات الولايات المتحدة والصين ربما تكون في أسوأ حالاتها، كلاهما تدركان أن نشوب صراع ساخن بينهما اليوم، معناه تدمير البشرية؛ لذلك تتجنبان الدخول في حرب بسبب تايوان، لكنهما تمارسان اللعبة نفسها، 'من يَجبُن أو يصرخ أولا'. تستكشف الصين دفاعات تايوان، تخترق مجالها الجوي، تحاصرها بدوريات بحرية، وتنخرط في تدريبات عسكرية على غزوها. على الجانب الآخر، تتدفق الأسلحة الأميركية والمستشارين إلى تايوان، إنذارات صريحة ومبطنة لبكين من محاولة استخدام القوة لضم الجزيرة، وربما تكون الحرب الدائرة بين روسيا والغرب حاسمة في تحديد مسار الصراع الغربي - الصيني ومصير تايوان، ومن يصرخ أولاً؟.
التعليقات