طريقة العرض :
كامل
الصورة الرئيسية فقط
بدون صور

اظهار التعليقات

وكالة جراسا الإخبارية

العبث بالمصائر‏!‏


أقيم حفل زفاف العروسين‏,‏ وسط عزف ناي علي الطراز القديم‏,‏ فجأة التمع البرق‏,‏ وقصف الرعد‏,‏ وانطلق صوت يعلن‏:‏ أغلقوا النوافذ‏..‏ أسدلوا الستار‏,‏ وتلاشي الراهن المبهج أمام صورة حجبته‏,‏ حيث أربد وجه العروس‏,‏ واكتسي بلون الرماد‏,‏ وأغمضت عينيها‏,‏ وشرعت في الانحناء‏,‏ وتكومت كأنها قطعة قماش مبتل‏.‏ تري ماسر هذا الاقتران بين البرق والرعد‏,‏ والحالة التي غدت عليها العروض من رعب شل حضورها‏,‏ وأربكها‏,‏ واغتصب قدرتها علي المواجهة؟ لاخلاف أن الواقعة اخترقت زمن العروسين‏,‏ بوصفها عنفا غير مفهوم‏,‏ أنتج مشهدا ابتلع زمنهما كي يطرح زمنا قاتما مضادا لسياق زمن فرحتهما وزهوهما بحياتهما الجديدة‏,‏ لكن تري هل هذه الواقعة بتوقيتها في لحظة تأسيس الزواج‏,‏

تعني أنها تشترط استمرارماحدث في امتدادات مماثلة ومتكررة في قادم حياتهما الزوجية المقبلة‏,‏ وهل يعني ذلك ان تلك المحنة مستعصية‏,‏ وغير قابلة للمعالجة‏,‏ وأنه لابد من الاستسلام لما لا حل له‏,‏ أم ياتري يجب علي المرء ألا يلقي السلاح قبل خوض المعركة‏,‏ وهو مايتطلب ـ علي وجه التعيين ـ الانخراط في التصدي للخوف‏,‏ ومقاومته ـ أيا كان مداره ـ بالاحتشاد النفسي‏,‏ ومواجهته بالوعي به‏,‏ بوصف الخوف بوابة شل الحضور الإنساني‏,‏ إذ مرماه الاوحد اقصاء تلقائية التفكير وحريته‏.‏

بعد انتهاء الاحتفال‏,‏ راح والد العروس يبرر للعريس أن خوف ابنته من الرعد هو نتيجة لعنة قديمة‏,‏ ليس لها فيها من خيار‏,‏ ولاشك ان هذا التشخيص يخلص مباشرة إلي أن علي الزوج الشاب ألا يجعل الأمر موضع تفكير‏,‏ بوصفه من الأفعال المغلقة علي ذاتها‏,‏ والعصية علي الخضوع للتصرف البشري بما عليها من محاذير‏,‏ واستمر والد العروس يجوس متسللا إلي وجدان الشاب بتقنيات الاستدراج‏,‏ لاستنبات الاطمئنان النفسي لديه‏,‏ وترسيخ الاقتناع بذلك التشخيص دون ارتياب‏,‏ إذ شرع يحكي قصة توشيدا‏,‏ الابن البار الذي عاش في إحدي المقاطعات القديمة‏,‏ وشاعت صورته الجلية الأشد جذبا للانتباه‏,‏ راصدة قرائن ودلالات شدة بره بأمه معيارا لتميزه‏,‏

وهو ماامتدحه عليه حاكم المقاطعة وكافأه بإعفائه من دفع الضرائب المقررة علي الأرض‏,‏

ولاشك أنه من الصحيح عموما ان توشيدا لم يبتكر البر بالوالدين‏,‏ فهو نتاج اجتماعي صاغته الجماعة‏,‏ وأكدته الأديان والأخلاق والمعتقدات جميعا بوصفه نموذج سلوك أخلاقي ثابت‏,‏ يسعي الفرد إلي تلبسه عن إرادة أو دونها‏,‏ وأيضا من الصحيح أخلاقيا أن البر بالوالدين ـ تعيينا ـ حالة استثنائية‏,‏ لايمكن للفرد ان يستمع بشأنها إلي صوته الخاص‏,‏ وتحديدا إذ ماتعدي هذا الصوت الالتزام بالنموذج المطلق وتجاوزه‏,‏ أو تعارض معه‏,‏ إذ في البر بالوالدين نوع من التجسيد لقيمة بشرية عليا تطهر الإنسان من ميوله الدفينة‏,‏ لينتظم في مجتمعه مستظلا بخصائص شيمة الالتزام بما يجب الالتزام به وثوقا بالذات‏,‏ من دون تعسف أو اعتباط‏.‏ لكن من الصحيح في الحكاية ـ

استنادا إلي مايشير إليه والد العروس في سرده ـ أن أم توشيدا كانت تعاني خوفا بالغا من الرعد‏,‏ ويغمي عليها عند سماعه‏,‏ لذا فإن توشيدا كان عندما يدمدم الرعد‏,‏ علي الفور يسابق الريح‏,‏ مفارقا كل شئونه ومحتشداته عملا وموضعا‏,‏ عائدا إلي الدار‏,‏ وأيضا كان يحرص علي ألا يغادر قريته صيفا إلي أي قرية مجاورة‏,‏ بل إنه حتي بعد ان ماتت أمه‏,‏ كان عندما يسمع قصف الرعد يعدو إلي المقبرة‏,‏

ويلف ذراعيه حول شاهد قبرها‏.‏تري لم هذا التجاهل لحال الأم‏,‏ والتعامل مع خوفها بوصفه لغزا دون محاولة التفكير في تحريرها منه‏,‏ بدلا من استبقائه والاستسلام له؟ ألا يتوافر الدافع الذي يحفز الخلاص من ذلك الخوف؟ لاشك أن السبب هو غياب التفكير النقدي الذي يداوم الانتباه لما حوله‏,‏ بطرح التساولات علي ظواهر الواقع في محاولة فهمه‏,‏ وفك ألغازه‏,‏ وكشف مجهولاته‏,‏ وذلك هو مؤشر انفتاح الإنسان علي العالم وإدراك ظواهره‏,‏ ولاخلاف أن معاودة توشيدا الالتزام بتكرار سلوكه علي شاهد قبر امه يعد اعتباطا‏,‏ فإذا ماكانت غاية سلوكه رفع معاناة الخوف عنها‏,‏ فإن سلوكه بعد الموت يعد تعسفا لانتفاء الغاية بموت الأم‏,‏

وأن عدم امتناعه عن اتيانه يعني غياب استيعابه لبطلان مشروعية سلوكه‏,‏ وعدم وعيه بحدود عالمه وعدم إدراكه لفواصل الحدود الحاسمة بين الأزمنة‏.‏

واصل والد العروس استكمال الحكاية‏,‏ بأنه ذات ليلة عاصفة‏,‏ بينما كان توشيدا متهالكا معانقا قبر أمه‏,‏ انقضت صاعقة فمات من جرائها‏,‏ وفي الصباح‏,‏ عندما حاول احد القرويين رفع ذراع توشيدا عن شاهد القبر‏,‏ تهشمت الذراع متناثرة قطعا‏,‏ إذ كان جسده الأسود المتفحم رمادا يتهاوي إلي قطع صغيرة حين يتعرض للمس‏,‏ التقطت امرأة عجوز إصبعا منه‏,‏ هامسة بأنها سوف تطعم هذا الأصبع لابنها المهمل الذي لايرعاها‏,‏ وبدأ قرويون آخرون في التقاط قطع الجثمان‏,‏ وتم تمرير هذا الرماد عبر الأجيال باعتباره كنزا متوارثا‏,‏ وإذ بوالد العروس يعترف بأنه عندما كان طفلا أطعمته أمه منه‏,‏ ومضي الرجل في الكشف عن الحقيقة المذهلة‏,‏

عندما راح يتساءل عما إذا كان ذلك هوالسر في أنه وابنته يخافان الرعد‏!‏ لاشك أننا نصغي إلي خطاب معاكس للشائع والمعروف‏,‏ إذ كيف يمكن ان يكون رماد توشيدا هو الذي يورث الخوف من الرعد‏,‏ إن ذلك يعني أن توشيدا هو الذي كان يعاني الخوف‏,‏ وإنه كان كذابا يتستر بقناع قيمة عليا‏,‏ هي البر بالأم‏,‏ وعلي الحقيقة إنه يحتمي بها من الخوف‏,‏ وبعد موتها كان يحتمي بشاهد القبر‏,‏ لقد سأل حماه عما إذا كان قد أطعم ابنته العروس بعضا من الرماد‏,‏ فأجابه الرجل بأنه اهمل ذلك‏,‏ لكن يمكن لوالده إذا أراد أن يطعمها منه‏,‏ تري كيف يمكن ان تستصفي الحقيقة وسط التقاطعات الملتبسة‏,‏ من أنها اطعمت أو لم تطعم من الرماد‏,‏

وأي ضمانة إثبات سواء بالإيجاب أو السلب في واقع يخاتل‏,‏ ويتقنع بأقنعة الكذب؟ انتقل العروسان إلي دارهما الجديدة‏,‏ وفي إحدي الليالي دوي قصف الرعد‏,‏ وبينما امسك العريس بعروسه التي استبد بها الخوف‏,‏ كان أول ما احس به لحظتها أن هناك شيئا كامنا فيها لايعدو أن يكون أما‏,‏ انكشفت أعراض خوفه‏,‏ وهو مايعني أنه أيضا مثلها قد اطعم الرماد‏,‏ لذا استشعر ما سوف يصير إليه عندما يعانق جسد عروسه‏,‏ التي تبدت له محض قبر دافئ لدن‏,‏ وأنه سيصبح مجرد جثة متفحمة علي ذلك القبر‏,‏ لقد شل الخوف من الرعد حضورهما الإنساني‏,‏ فأحال فراش زواجهما إلي فراش احتضار‏,‏ لحظتها انطلقت صيحة‏:‏ أغلقوا النافذة‏..‏

اسدلوا الستار‏,‏ طلبا للعزلة بوصفها الخلاص‏,‏ إن كاتب اليابان ياسوناري كاواباتا‏,‏ في قصته رعد في الخريف‏,‏ استخدم التوافق الجوهري بين معني الخوف من البرق والرعد‏,‏ الذي يطالب بإغلاق النوافذ واسدال الستائر‏,‏ ومفهوم العزلة والانغلاق الذي يعني الموات للمجتمع‏,‏ الذي عانته اليابان تاريخيا‏,‏ بما ولده من آليات شكلت المدونة الثقافية الحية المتوارثة‏,‏ التي كانت تنفي قبول الآخر والانفتاح عليه‏,‏ صحيح أن اليابان جددت منظومتها الثقافية‏,‏ وتجاوزت عزلتها‏,‏ بانجازها الإجابة عن اسئلة الواقع والعصر‏,‏ بجهود مواطنيها‏,‏ ومثقفيها‏,‏ وكتابها‏,‏ وساستها‏,‏ ومفكريها‏,‏ الذين واجهوا العزلة‏,‏ وتصدوا للجهالة والكذابين من يرتدون لبوس الرشد‏,‏

ويطعمون مواطنيهم رمادا موروثا يغذي الخوف وينشره‏,‏ ترسيخا للعزلة كي يسيطروا علي كل شيء‏,‏ لكن الصحيح أيضا ـ وهو مافعله الكاتب ـ أنه لابد من مداومة الاشتغال علي الواقع والفكر كشفا وتفكيكا‏,‏ تجديدا للرؤي بوصفها عملة الوجود الإنساني‏,‏ إن المجتمعات لايبني مستقبلها حلقات الشتائم‏,‏ ومراكز الاستعداء والاستقواء‏,‏ وتنظيمات التمترس بمتحجرات بائدة‏,‏ ومنشورات التهكم والسخرية لتصدير اليأس‏,‏ وأسواق الخداع والمشروعات المشبوهة‏,‏ وحملات أشباح استدعاء الماضي‏,‏ وإنما يبني مستقبل المجتمعات من يحسنون قراءة الراهن وتحولاته وطفراته‏,‏ من لايعبثون بالمصائر‏,‏ ويتدبرون الآتي‏,‏ ويطرحون الرؤي‏,‏ ولايعاكسون الزمن‏,‏ ويؤمنون بأن المواطنة استحقاق يسبق كل اكتساب‏,‏ ولايقبل الوصاية‏.‏


جميع الحقوق محفوظة
https://www.gerasanews.com/article/4313