تتبجّح وزارة تطوير القطاع العام بأنها حققت وفراً مالياً في موازنتها لعام 2012 بلغ حوالي مليون ومائة ألف دينار في إطار ما تقول بأنها سياسة انتهجتها لضبط الإنفاق للحد من تفاقم عجز الموازنة العامة للدولة، وقد أشار تقرير ديوان المحاسبة لعام 2012 إلى ذلك، وبأنه لم يسجّل أية ملاحظات أو مخالفات بحق الوزارة..!!
يبدو مثل هذا الخبر عادياً إذا ما تم أخذه في سياق أوضاع طبيعية، لكنه استثنائي وغريب إذا ما أخذناه في سياق برنامج هيكلة القطاع العام الذي بدأت الوزارة تنفيذه مطلع عام 2012، والذي حمل من التجاوزات والأعباء على الدولة وعلى موازنتها العامة وخزينتها ما لم يحمله أي مشروع آخر في تاريخ المملكة، فكيف نسي ديوان المحاسبة الأخطاء والتجاوزات والأعباء التي انطوى عليها تنفيذ ذلك المشروع، علماً بأن شواهد الأخطاء والتجاوزات كانت واضحة للعيان، إضافة إلى الكلف الباهظة التي ظُلمِت فيها خزينة الدولة، ولا تزال تعاني من أعبائها الثقيلة المتزايدة إلى اليوم، حتى سمعنا شكوى من أعلى المراجع تشير إلى عدم قدرة الحكومة على تأمين رواتب موظفيها لأكثر من ثلاثة أشهر إلى الأمام، ما يعني أن خلللاً كبيراً صارخاً شاب عملية الهيكلة، وحمّل الدولة ما هو فوق طاقتها، وحمّل الخزينة ما لا قدرة لها على تحمّله من أعباء مالية ضخمة..!!
إذا أردنا أن نكشف أبرز هذه الأخطاء والتجاوزات فنلرجع إلى بداية تصريحات المسؤولين في وزارة المالية ووزارة تطوير القطاع العام، وكانت كلها تؤكّد على أن كلفة إعادة هيكلة رواتب موظفي القطاع العام ستتراوح ما بين 70 إلى 80 مليون دينار في السنة فقط لا غير، وأن هذا المشروع لا يعني زيادة الرواتب بقدر ما يعني تحقيق العدالة وإزالة التشوهّات في القطاع العام ودمج المؤسسات المتشابهة، وإلغاء المؤسسات والهيئات غير الضرورية، لكن الكلفة السنوية لهذا المشروع وفقاً لتصريحات رسمية لأكثر من وزير مالية فاقت مبلغ الأربعمائة وستين مليون دينار، وهناك تصريحات أخرى تقول بأنها فاقت النصف مليار دينار، وإذا تحدّثنا عن مرور أكثر من سنة ونصف على تطبيق الهيكلة، فهذا يعني أن الكلفة زادت على (750) مليون دينار، في الوقت الذي يجب أن لا تزيد فيه على (100) مليون فقط لا غير، فكيف يتحدّث ديوان المحاسبة في تقريره عن عدم وجود مخالفات وتجاوزات في عمل الوزارة لعام 2012، ثم إننا نستغرب تصريحات وزير التطوير التي أدلى بها قبل أيام تحت قبة البرلمان من أن كلفة الهيكلة لم تتجاوز مبلغ (150) مليون دينار في السنة، فحتى لو سلّمنا بأن هذا الرقم دقيق، وهو قط ليس كذلك، فهذا يعني أن الكلفة قفزت إلى ضعفي ما كان متوقعاً ومخططاً له قبل بدء تنفيذها..!!؟ ألا يشكّل هذا تجاوزاً وخطأً فادحاً ينبغي أن تُسأل عنه الوزارة بكافة أركانها من وزير وأمين عام ورئيس ديوان خدمة وأمين عام الديوان..! وهم أقطاب عملية الهيكلة وأبطالها..!!؟
إنني أطالب بما طالب به قبل ذلك الدكتور هيثم حجازي، وهو خبير إدارة عامة وكان رئيساً لديوان الخدمة المدنية، بضرورة تكليف جهة محايدة لدراسة عملية الهيكلة التي تمت ودراسة نتائجها وأبعادها على القطاع العام والمؤسسات المستقلة، وكلفتها الحقيقية وانعكاسات ذلك على الخزينة، والوقوف على كافة التجاوزات التي رافقت عملية تنفيذها من إرضاءات وتنازلات ومساومات، واحتساب كُلَف الاعتصامات والإضرابات وتعطيل العشرات من مؤسسات الدولة ووزاراتها كنتيجة لذلك، إضافة إلى احتساب كلف اعتصامات وإضرابات العديد من مؤسسات وشركات القطاع الخاص التي أصابتها العدوى من مؤسسات القطاع العام وأخذ موظفوها يطالبون بمزايا وتحسينات مالية جديدة، ما حمّل الاقتصاد الوطني أعباء جديدة فوق ما ينوء به من أعباء كبيرة..!!
من حقي كمواطن أن أطالب ديوان المحاسبة ببحث كل هذه الأمور وتجلية حقائقها وكشفها للناس، ومن حقي أن أطالب مجلس النواب أن يسأل وزير التطوير عن أرقامه في احتساب كلفة الهيكلة ومنْ أي وكيف جاء برقم ألـ (150) مليون دينار فقط، وأن يسأل وزير المالية عن الكلفة الحقيقية لهذا المشروع، وأظن وزير المالية من الشخصيات الوطنية الصادقة وغير المجاملة على حساب الحقيقة والمصلحة العامة، وعليه أن يكشف لممثلي الشعب وللرأي العام كله عن حجم التكلفة الحقيقية لتنفيذ مشروع هيكلة القطاع العام..
إذا حصل كل ذلك سنشعر بشيء من الراحة، ولكن ما نريده هو الصدق والحقيقة والمراجعة المنصفة والشفافية والحياد التام في تقييم هذا المشروع، فإذا ثبت أنه فاشل وأن انعكاساته على الدولة خزينةً وتطويراً للقطاع العام كانت وستكون سلبية، فإننا نطالب بمحاكمة المشروع والقائمين عليه وأوّلهم وزير تطوير القطاع العام الذي ما يزال مصرّاً أن مشروعه عادل وحصيف، ونحن نقول بأن مشروعه ظالم ومدمّر لحاضر ومستقبل القطاع العام، ودليلنا على ذلك خمس مسائل مهمة:
الأولى: أن الهيكلة وضعت كل مؤسسات الدولة الناجحة منها والفاشلة في سلّة واحدة، وأنها بالتالي أخذت الناجح بجريرة الفاشل، وهذا محبط للمؤسسات الناجحة وسيؤدي إلى تدميرها.
الثانية: أن الهيكلة أنهكت خزينة الدولة، وفاقمت عجز الموازنة بطريقة كبيرة وبنفقات لم تكن تدور في خلد مخططي السياسات المالية.
الثالثة: أن المشروع اعتدى على حقوق مالية ومعنوية لأعداد كبيرة من موظفي المؤسسات المستقلة، واستعدى الموظف العام على الدولة، وأضعف انتماء ولاء هؤلاء الموظفين للدولة، وهذا لا يصب في مصلحة أحد على الإطلاق.
الرابعة: أن تنفيذ الهيكلة خلق حالة معقدة من الإرباك في مؤسسات الدولة، وأشعل فتيل أزمة كبيرة بين موظفيها، ظهرت صورها على شكل اعتصامات وإضرابات مفتوحة لها أول وليس لها آخر، شملت كافة مؤسسات ووزارات الدولة، مما أضعف هيبة الدولة، وأضعف مكانة الحكومات، وهو ما يهدّد بمزيد من حالات الانفلات من الالتزام بالقرارات الرسمية، وبدأت تتشكّل حالة من الاحتقان في نفوس موظفي القطاع العام الذين لم ترضهم الهيكلة إطلاقاً حتى أولئك الذين حققوا مكاسب جديدة على رواتبهم ومزاياهم، فما بالك بمن استلبت منهم بعض مزاياهم ومكتسباتهم..!!
الخامسة: أن الهيكلة بدأت بهدم وتدمير منجزات مؤسسات وطنية تم بناؤها عبر عقود من الزمن بعيداً عن بيروقراطية وتعقيدات نظام الخدمة المدنية، وها هي بدأت تتهاوى في ظل نظام بيروقراطي عقيم، وبدأنا نلمس تغيّر مشاعر موظفي هذه المؤسسات من الانتماء والولاء والعطاء إلى اللامبالاة والتسيب والتراخي، وهي حالة تهدد بنسف كل المنجزات والعودة إلى الوراء إلى نقطة الصفر..!!
أخيراً، لا بد من القول بأن توفير مليون دينار في موازنة وزارة التطوير لا تعني شيئاً مقابل تكلفة تناهز النصف مليار على مشروع لم يكتب له النجاح، ما يعني أن التكلفة الباهظة لا تُفسَّر سوى بأنها إهدار كبير لمال الشعب، فماذا يقول ديوان المحاسبة..!!
تتبجّح وزارة تطوير القطاع العام بأنها حققت وفراً مالياً في موازنتها لعام 2012 بلغ حوالي مليون ومائة ألف دينار في إطار ما تقول بأنها سياسة انتهجتها لضبط الإنفاق للحد من تفاقم عجز الموازنة العامة للدولة، وقد أشار تقرير ديوان المحاسبة لعام 2012 إلى ذلك، وبأنه لم يسجّل أية ملاحظات أو مخالفات بحق الوزارة..!!
يبدو مثل هذا الخبر عادياً إذا ما تم أخذه في سياق أوضاع طبيعية، لكنه استثنائي وغريب إذا ما أخذناه في سياق برنامج هيكلة القطاع العام الذي بدأت الوزارة تنفيذه مطلع عام 2012، والذي حمل من التجاوزات والأعباء على الدولة وعلى موازنتها العامة وخزينتها ما لم يحمله أي مشروع آخر في تاريخ المملكة، فكيف نسي ديوان المحاسبة الأخطاء والتجاوزات والأعباء التي انطوى عليها تنفيذ ذلك المشروع، علماً بأن شواهد الأخطاء والتجاوزات كانت واضحة للعيان، إضافة إلى الكلف الباهظة التي ظُلمِت فيها خزينة الدولة، ولا تزال تعاني من أعبائها الثقيلة المتزايدة إلى اليوم، حتى سمعنا شكوى من أعلى المراجع تشير إلى عدم قدرة الحكومة على تأمين رواتب موظفيها لأكثر من ثلاثة أشهر إلى الأمام، ما يعني أن خلللاً كبيراً صارخاً شاب عملية الهيكلة، وحمّل الدولة ما هو فوق طاقتها، وحمّل الخزينة ما لا قدرة لها على تحمّله من أعباء مالية ضخمة..!!
إذا أردنا أن نكشف أبرز هذه الأخطاء والتجاوزات فنلرجع إلى بداية تصريحات المسؤولين في وزارة المالية ووزارة تطوير القطاع العام، وكانت كلها تؤكّد على أن كلفة إعادة هيكلة رواتب موظفي القطاع العام ستتراوح ما بين 70 إلى 80 مليون دينار في السنة فقط لا غير، وأن هذا المشروع لا يعني زيادة الرواتب بقدر ما يعني تحقيق العدالة وإزالة التشوهّات في القطاع العام ودمج المؤسسات المتشابهة، وإلغاء المؤسسات والهيئات غير الضرورية، لكن الكلفة السنوية لهذا المشروع وفقاً لتصريحات رسمية لأكثر من وزير مالية فاقت مبلغ الأربعمائة وستين مليون دينار، وهناك تصريحات أخرى تقول بأنها فاقت النصف مليار دينار، وإذا تحدّثنا عن مرور أكثر من سنة ونصف على تطبيق الهيكلة، فهذا يعني أن الكلفة زادت على (750) مليون دينار، في الوقت الذي يجب أن لا تزيد فيه على (100) مليون فقط لا غير، فكيف يتحدّث ديوان المحاسبة في تقريره عن عدم وجود مخالفات وتجاوزات في عمل الوزارة لعام 2012، ثم إننا نستغرب تصريحات وزير التطوير التي أدلى بها قبل أيام تحت قبة البرلمان من أن كلفة الهيكلة لم تتجاوز مبلغ (150) مليون دينار في السنة، فحتى لو سلّمنا بأن هذا الرقم دقيق، وهو قط ليس كذلك، فهذا يعني أن الكلفة قفزت إلى ضعفي ما كان متوقعاً ومخططاً له قبل بدء تنفيذها..!!؟ ألا يشكّل هذا تجاوزاً وخطأً فادحاً ينبغي أن تُسأل عنه الوزارة بكافة أركانها من وزير وأمين عام ورئيس ديوان خدمة وأمين عام الديوان..! وهم أقطاب عملية الهيكلة وأبطالها..!!؟
إنني أطالب بما طالب به قبل ذلك الدكتور هيثم حجازي، وهو خبير إدارة عامة وكان رئيساً لديوان الخدمة المدنية، بضرورة تكليف جهة محايدة لدراسة عملية الهيكلة التي تمت ودراسة نتائجها وأبعادها على القطاع العام والمؤسسات المستقلة، وكلفتها الحقيقية وانعكاسات ذلك على الخزينة، والوقوف على كافة التجاوزات التي رافقت عملية تنفيذها من إرضاءات وتنازلات ومساومات، واحتساب كُلَف الاعتصامات والإضرابات وتعطيل العشرات من مؤسسات الدولة ووزاراتها كنتيجة لذلك، إضافة إلى احتساب كلف اعتصامات وإضرابات العديد من مؤسسات وشركات القطاع الخاص التي أصابتها العدوى من مؤسسات القطاع العام وأخذ موظفوها يطالبون بمزايا وتحسينات مالية جديدة، ما حمّل الاقتصاد الوطني أعباء جديدة فوق ما ينوء به من أعباء كبيرة..!!
من حقي كمواطن أن أطالب ديوان المحاسبة ببحث كل هذه الأمور وتجلية حقائقها وكشفها للناس، ومن حقي أن أطالب مجلس النواب أن يسأل وزير التطوير عن أرقامه في احتساب كلفة الهيكلة ومنْ أي وكيف جاء برقم ألـ (150) مليون دينار فقط، وأن يسأل وزير المالية عن الكلفة الحقيقية لهذا المشروع، وأظن وزير المالية من الشخصيات الوطنية الصادقة وغير المجاملة على حساب الحقيقة والمصلحة العامة، وعليه أن يكشف لممثلي الشعب وللرأي العام كله عن حجم التكلفة الحقيقية لتنفيذ مشروع هيكلة القطاع العام..
إذا حصل كل ذلك سنشعر بشيء من الراحة، ولكن ما نريده هو الصدق والحقيقة والمراجعة المنصفة والشفافية والحياد التام في تقييم هذا المشروع، فإذا ثبت أنه فاشل وأن انعكاساته على الدولة خزينةً وتطويراً للقطاع العام كانت وستكون سلبية، فإننا نطالب بمحاكمة المشروع والقائمين عليه وأوّلهم وزير تطوير القطاع العام الذي ما يزال مصرّاً أن مشروعه عادل وحصيف، ونحن نقول بأن مشروعه ظالم ومدمّر لحاضر ومستقبل القطاع العام، ودليلنا على ذلك خمس مسائل مهمة:
الأولى: أن الهيكلة وضعت كل مؤسسات الدولة الناجحة منها والفاشلة في سلّة واحدة، وأنها بالتالي أخذت الناجح بجريرة الفاشل، وهذا محبط للمؤسسات الناجحة وسيؤدي إلى تدميرها.
الثانية: أن الهيكلة أنهكت خزينة الدولة، وفاقمت عجز الموازنة بطريقة كبيرة وبنفقات لم تكن تدور في خلد مخططي السياسات المالية.
الثالثة: أن المشروع اعتدى على حقوق مالية ومعنوية لأعداد كبيرة من موظفي المؤسسات المستقلة، واستعدى الموظف العام على الدولة، وأضعف انتماء ولاء هؤلاء الموظفين للدولة، وهذا لا يصب في مصلحة أحد على الإطلاق.
الرابعة: أن تنفيذ الهيكلة خلق حالة معقدة من الإرباك في مؤسسات الدولة، وأشعل فتيل أزمة كبيرة بين موظفيها، ظهرت صورها على شكل اعتصامات وإضرابات مفتوحة لها أول وليس لها آخر، شملت كافة مؤسسات ووزارات الدولة، مما أضعف هيبة الدولة، وأضعف مكانة الحكومات، وهو ما يهدّد بمزيد من حالات الانفلات من الالتزام بالقرارات الرسمية، وبدأت تتشكّل حالة من الاحتقان في نفوس موظفي القطاع العام الذين لم ترضهم الهيكلة إطلاقاً حتى أولئك الذين حققوا مكاسب جديدة على رواتبهم ومزاياهم، فما بالك بمن استلبت منهم بعض مزاياهم ومكتسباتهم..!!
الخامسة: أن الهيكلة بدأت بهدم وتدمير منجزات مؤسسات وطنية تم بناؤها عبر عقود من الزمن بعيداً عن بيروقراطية وتعقيدات نظام الخدمة المدنية، وها هي بدأت تتهاوى في ظل نظام بيروقراطي عقيم، وبدأنا نلمس تغيّر مشاعر موظفي هذه المؤسسات من الانتماء والولاء والعطاء إلى اللامبالاة والتسيب والتراخي، وهي حالة تهدد بنسف كل المنجزات والعودة إلى الوراء إلى نقطة الصفر..!!
أخيراً، لا بد من القول بأن توفير مليون دينار في موازنة وزارة التطوير لا تعني شيئاً مقابل تكلفة تناهز النصف مليار على مشروع لم يكتب له النجاح، ما يعني أن التكلفة الباهظة لا تُفسَّر سوى بأنها إهدار كبير لمال الشعب، فماذا يقول ديوان المحاسبة..!!
تتبجّح وزارة تطوير القطاع العام بأنها حققت وفراً مالياً في موازنتها لعام 2012 بلغ حوالي مليون ومائة ألف دينار في إطار ما تقول بأنها سياسة انتهجتها لضبط الإنفاق للحد من تفاقم عجز الموازنة العامة للدولة، وقد أشار تقرير ديوان المحاسبة لعام 2012 إلى ذلك، وبأنه لم يسجّل أية ملاحظات أو مخالفات بحق الوزارة..!!
يبدو مثل هذا الخبر عادياً إذا ما تم أخذه في سياق أوضاع طبيعية، لكنه استثنائي وغريب إذا ما أخذناه في سياق برنامج هيكلة القطاع العام الذي بدأت الوزارة تنفيذه مطلع عام 2012، والذي حمل من التجاوزات والأعباء على الدولة وعلى موازنتها العامة وخزينتها ما لم يحمله أي مشروع آخر في تاريخ المملكة، فكيف نسي ديوان المحاسبة الأخطاء والتجاوزات والأعباء التي انطوى عليها تنفيذ ذلك المشروع، علماً بأن شواهد الأخطاء والتجاوزات كانت واضحة للعيان، إضافة إلى الكلف الباهظة التي ظُلمِت فيها خزينة الدولة، ولا تزال تعاني من أعبائها الثقيلة المتزايدة إلى اليوم، حتى سمعنا شكوى من أعلى المراجع تشير إلى عدم قدرة الحكومة على تأمين رواتب موظفيها لأكثر من ثلاثة أشهر إلى الأمام، ما يعني أن خلللاً كبيراً صارخاً شاب عملية الهيكلة، وحمّل الدولة ما هو فوق طاقتها، وحمّل الخزينة ما لا قدرة لها على تحمّله من أعباء مالية ضخمة..!!
إذا أردنا أن نكشف أبرز هذه الأخطاء والتجاوزات فنلرجع إلى بداية تصريحات المسؤولين في وزارة المالية ووزارة تطوير القطاع العام، وكانت كلها تؤكّد على أن كلفة إعادة هيكلة رواتب موظفي القطاع العام ستتراوح ما بين 70 إلى 80 مليون دينار في السنة فقط لا غير، وأن هذا المشروع لا يعني زيادة الرواتب بقدر ما يعني تحقيق العدالة وإزالة التشوهّات في القطاع العام ودمج المؤسسات المتشابهة، وإلغاء المؤسسات والهيئات غير الضرورية، لكن الكلفة السنوية لهذا المشروع وفقاً لتصريحات رسمية لأكثر من وزير مالية فاقت مبلغ الأربعمائة وستين مليون دينار، وهناك تصريحات أخرى تقول بأنها فاقت النصف مليار دينار، وإذا تحدّثنا عن مرور أكثر من سنة ونصف على تطبيق الهيكلة، فهذا يعني أن الكلفة زادت على (750) مليون دينار، في الوقت الذي يجب أن لا تزيد فيه على (100) مليون فقط لا غير، فكيف يتحدّث ديوان المحاسبة في تقريره عن عدم وجود مخالفات وتجاوزات في عمل الوزارة لعام 2012، ثم إننا نستغرب تصريحات وزير التطوير التي أدلى بها قبل أيام تحت قبة البرلمان من أن كلفة الهيكلة لم تتجاوز مبلغ (150) مليون دينار في السنة، فحتى لو سلّمنا بأن هذا الرقم دقيق، وهو قط ليس كذلك، فهذا يعني أن الكلفة قفزت إلى ضعفي ما كان متوقعاً ومخططاً له قبل بدء تنفيذها..!!؟ ألا يشكّل هذا تجاوزاً وخطأً فادحاً ينبغي أن تُسأل عنه الوزارة بكافة أركانها من وزير وأمين عام ورئيس ديوان خدمة وأمين عام الديوان..! وهم أقطاب عملية الهيكلة وأبطالها..!!؟
إنني أطالب بما طالب به قبل ذلك الدكتور هيثم حجازي، وهو خبير إدارة عامة وكان رئيساً لديوان الخدمة المدنية، بضرورة تكليف جهة محايدة لدراسة عملية الهيكلة التي تمت ودراسة نتائجها وأبعادها على القطاع العام والمؤسسات المستقلة، وكلفتها الحقيقية وانعكاسات ذلك على الخزينة، والوقوف على كافة التجاوزات التي رافقت عملية تنفيذها من إرضاءات وتنازلات ومساومات، واحتساب كُلَف الاعتصامات والإضرابات وتعطيل العشرات من مؤسسات الدولة ووزاراتها كنتيجة لذلك، إضافة إلى احتساب كلف اعتصامات وإضرابات العديد من مؤسسات وشركات القطاع الخاص التي أصابتها العدوى من مؤسسات القطاع العام وأخذ موظفوها يطالبون بمزايا وتحسينات مالية جديدة، ما حمّل الاقتصاد الوطني أعباء جديدة فوق ما ينوء به من أعباء كبيرة..!!
من حقي كمواطن أن أطالب ديوان المحاسبة ببحث كل هذه الأمور وتجلية حقائقها وكشفها للناس، ومن حقي أن أطالب مجلس النواب أن يسأل وزير التطوير عن أرقامه في احتساب كلفة الهيكلة ومنْ أي وكيف جاء برقم ألـ (150) مليون دينار فقط، وأن يسأل وزير المالية عن الكلفة الحقيقية لهذا المشروع، وأظن وزير المالية من الشخصيات الوطنية الصادقة وغير المجاملة على حساب الحقيقة والمصلحة العامة، وعليه أن يكشف لممثلي الشعب وللرأي العام كله عن حجم التكلفة الحقيقية لتنفيذ مشروع هيكلة القطاع العام..
إذا حصل كل ذلك سنشعر بشيء من الراحة، ولكن ما نريده هو الصدق والحقيقة والمراجعة المنصفة والشفافية والحياد التام في تقييم هذا المشروع، فإذا ثبت أنه فاشل وأن انعكاساته على الدولة خزينةً وتطويراً للقطاع العام كانت وستكون سلبية، فإننا نطالب بمحاكمة المشروع والقائمين عليه وأوّلهم وزير تطوير القطاع العام الذي ما يزال مصرّاً أن مشروعه عادل وحصيف، ونحن نقول بأن مشروعه ظالم ومدمّر لحاضر ومستقبل القطاع العام، ودليلنا على ذلك خمس مسائل مهمة:
الأولى: أن الهيكلة وضعت كل مؤسسات الدولة الناجحة منها والفاشلة في سلّة واحدة، وأنها بالتالي أخذت الناجح بجريرة الفاشل، وهذا محبط للمؤسسات الناجحة وسيؤدي إلى تدميرها.
الثانية: أن الهيكلة أنهكت خزينة الدولة، وفاقمت عجز الموازنة بطريقة كبيرة وبنفقات لم تكن تدور في خلد مخططي السياسات المالية.
الثالثة: أن المشروع اعتدى على حقوق مالية ومعنوية لأعداد كبيرة من موظفي المؤسسات المستقلة، واستعدى الموظف العام على الدولة، وأضعف انتماء ولاء هؤلاء الموظفين للدولة، وهذا لا يصب في مصلحة أحد على الإطلاق.
الرابعة: أن تنفيذ الهيكلة خلق حالة معقدة من الإرباك في مؤسسات الدولة، وأشعل فتيل أزمة كبيرة بين موظفيها، ظهرت صورها على شكل اعتصامات وإضرابات مفتوحة لها أول وليس لها آخر، شملت كافة مؤسسات ووزارات الدولة، مما أضعف هيبة الدولة، وأضعف مكانة الحكومات، وهو ما يهدّد بمزيد من حالات الانفلات من الالتزام بالقرارات الرسمية، وبدأت تتشكّل حالة من الاحتقان في نفوس موظفي القطاع العام الذين لم ترضهم الهيكلة إطلاقاً حتى أولئك الذين حققوا مكاسب جديدة على رواتبهم ومزاياهم، فما بالك بمن استلبت منهم بعض مزاياهم ومكتسباتهم..!!
الخامسة: أن الهيكلة بدأت بهدم وتدمير منجزات مؤسسات وطنية تم بناؤها عبر عقود من الزمن بعيداً عن بيروقراطية وتعقيدات نظام الخدمة المدنية، وها هي بدأت تتهاوى في ظل نظام بيروقراطي عقيم، وبدأنا نلمس تغيّر مشاعر موظفي هذه المؤسسات من الانتماء والولاء والعطاء إلى اللامبالاة والتسيب والتراخي، وهي حالة تهدد بنسف كل المنجزات والعودة إلى الوراء إلى نقطة الصفر..!!
أخيراً، لا بد من القول بأن توفير مليون دينار في موازنة وزارة التطوير لا تعني شيئاً مقابل تكلفة تناهز النصف مليار على مشروع لم يكتب له النجاح، ما يعني أن التكلفة الباهظة لا تُفسَّر سوى بأنها إهدار كبير لمال الشعب، فماذا يقول ديوان المحاسبة..!!
التعليقات