سوريا إلى أين ؟


من ينظر للوضع في سوريا ويقارنه بما كان عليه الحال قبل سنتين يصاب بالاكتئاب وفقدان الصواب؛ فسوريا التي كانت تنعم بالازدهار والنمو الاقتصادي، والهدوء والاستقرار الأمني، وانفراج القبضة الأمنية داخلياً، ونسبة السياحة العالية، والعلاقات الدولية المتينة، ثم احتضانها لألوان الطيف الفلسطيني المختلفة ...الخ. ولكن الوضع الآن قد قلب رأساً على عقب.
فأعداد القتلى يزيد عن 45 ألف، والجرحى ما يقارب 200 ألف، كما ويقدر حجم الدمار للبنية التحتية بحوالي 45 مليار دولار، وقد شُرد مئات الآلاف من المواطنين داخلياً وخارجياً، فأصبحوا ينعتوا باللاجئين، وتعرضوا لأصناف القهر والإذلال، وسُمح للقوى الخارجية بالتدخل، فأصبح يقال مثلاً: إن مفتاح سوريا في موسكو .
ولا يمكن التغاضي عن إزدياد الاحتقان الطائفي داخلياً وخارجياً، وقد انتهكت كل قواعد القيم والأخلاق، وبرزت حالات التعذيب والقتل المتبادل بين كل الأطراف. ولا يمكن نسيان دور الموساد في العراق بتصفية القيادات، وإثارة النعرات، وهو ما قد يفعلونه الآن في بعض مناطق سوريا.
وحتى الفلسطينيين والذين يجب النظر لهم كضيوف لاعلاقة لهم بالشأن الداخلي السوري تمّ زجهم بالأزمة . وكذلك دول الجوار لم تسلم من التبعات المختلفة لتلك الأزمة، وأدناها اختلاف الناس فيها بين مؤيد ومعارض.
إن من حق الشعوب أن تطالب بحريتها، وبرفع القبضة الأمنية عنها، ومحاربة الفاسدين، والعمل للنهوض ومجارة الشعوب والأمم الأخرى، لأنها ببساطة ليست أقل منهم. ولكن شرط أن لا تستدرج وتستغل من بعض الدول، فتجعل منها وقوداً للنار والفتنة، وبعد أن تتحقق غاية تلك الدول تُترك تلك الشعوب الثكلى وتذهب لحالها وقدرها، وكأن شيئاً لا يعنيها. فصرف كلمات الشهادة والرحمة والعوض الكلامي لا يكلف شيئا. وما تجربة الشعب السوري في انتفاضة حماة 79 _ 1982م ببعيدة .
كما وإن من حق أي حكومة التصدي للعمل المسلح الذي يهدف لتقطيع أوصالها، وهدم بنيتها. ولكنها أيضاً مطالبة باستخدام القانون، وبالحد الأدنى من القوة، وإسناد تلك المهمة للقوات النظامية المحترفة والمنضبطة. لأنها في النهاية هي الخاسرة، وشعبها دون غيره هو المذبوح والمهجر والمسجون، ولن يكفكف دمع وآهات شعبها إلا هي. (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) فالنهج الأمني قد ينجح مع الشعب لفترة بسيطة، ولكنه لن يستمر طويلاً.
إن الأزمة في سوريا أزمة سياسية متشابكة الأطراف والمصالح، وقد استغلت من أطراف خارجية عدة إما لتهديد النظام السوري، وزعزعة استقراره، ثم محاولة إستبداله بغيره، حيث ثبت لديها أن سوريا تعتبر طرفاً رئيساً في تدريب وتنظيم قوى المعارضة في بلادها، ولذا جاء رد الفعل من جنس العمل، وبدلاً من الصاع ليكن قنطار مثلاً.
وهذا هو السبب الحقيقي للأزمة، والذي جعل البعض يدعم قوى المعارضة إعلامياً ومادياً، ثم استخدم كل الوسائل بما فيها الدين ودعاته، ووصل الأمر لتسهيل حركة السلفية الجهادية؛ حيث يضربون عصفورين بحجر واحد؛ زعزعة النظام وتهديده، والقضاء على الجهاديين أيضاً.
واستفادت من الأزمة السورية أطراف خارجية لتعزيز مكاسبها، وزيادة تدخلها، وأن يكون لها موطئ قدم؛ فعمدت لدعم النظام سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً ...الخ. وهنالك أطراف خارجية أخرى تعمل لزيادة رقعة نفوذها الاقتصادي والسياسي؛ سعياً للقيادة الأقليمية، والمنافسة العالمية، والصدارة الدينية والمذهبية.
لقد تم استدراج الشعب السوري والنظام للمواجهة المسلحة، فمن المظاهرات السلمية الكلامية، للمجموعات المسلحة. وحتى الآن كل طرف غير قادرعلى حسم المواجهة، فالمعارضة مشتتة ومبعثرة، وهي غير مؤهلة لقيادة سوريا بأمان لو سقط النظام. وأيضاً فالنظام جريح ولكنه متماسك، رغم الدعاية والأمنيات بسقوطه.
إن الحل يبدأ من إرسال النظام في سوريا رسائل واضحة ومفهومة ووعد قاطع للدول التي تشعر أنه يشارك في زعزعة نظامها ، بأنه غير موافق على ذلك، وإن حدث فبدون علمه، وبغير استشارته، وسيحاسب المسؤول عن ذلك؛ فلعلها تقتنع وتمتنع.!!! وله من بينها من يحفظ له سابقته في حرب الخليج الأولى، ومن ترغب به دون غيره.
فإذا شعرت تلك الدول بالاطمئنان ، وبرهن النظام بصدقه على ذلك، فعندئذ ستُقنع غيرها بالجلوس والتفاوض، وللخروج السلمي المشرف من الأزمة ولكل الأطراف. وإلا فإن الأزمة مرشحة للامتداد خارجياً، وستجعل من الفتنة الطائفية وقودها، وكل من يحرص على تقويض النظام في سوريا لن يكون هو في مأمن كذلك.
وأظن أن الأمور يمكن أن تتجه للحل السياسي، وهذا ما يتمناه كل مخلص ومحب لبلاده وأهله، وإلا فإن الحريق سيمتد لدول أخرى، وإذا اشتعلت النار وخرجت من حدود سوريا؛ فلا نعلم متى وكيف تطفأ؟
ولعل من الحكمة ولكل الأطراف _وكما يستعد البعض منهم _ للتعامل مع سوريا بغير وجود الأسد، أن يستعدوا كذلك للتعامل مع سوريا بوجود بشار الأسد.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات